كثرت التكهنات حول التغيرات الإقليمية المحتملة عقب وصول إدارة بايدن. وعلى رأس هذه التغيرات فقدان تركيا لحرية الحركة التي تتمتع بها في الشمال السوري، سواء عبر تنامي النفوذ العسكري التركي أو تصاعد الأدوار السياسية التركية المرتبطة بالمسار السياسي للأزمة السورية.
خلال السنوات الأربعة السابقة تمكن الرئيس رجب طيب أردوغان من صياغة تحالف وثيق مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الشمال السوري، إذ استطاع أردوغان مرة بعد أخرى إقناع ترامب في مكالمات هاتفية مطولة بوجاهة السياسة التركية التوسعية في الشمال السوري. فعلى إثر مكالمة مطولة بين الطرفين في ديسمبر 2018 تعجل ترامب إصدار قرار بسحب القوات الأمريكية من الشمال السوري، قبل أن تتدارك القوات العاملة على الأرض هذا القرار وتعيد انتشارها دون تنفيذ انسحاب كامل. إذ أقنع آنذاك الرئيس التركي نظيره الأمريكي بأن بقاء القوات الأمريكية في سوريا مكلف ولم يعد له حاجة بعد دحر داعش، وأن القوات التركية ستتكفل بمهمة مطاردة فلول داعش في سوريا. لكن القوات الأمريكية الداعمة لقوات قسد (قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية) في شمال شرق سوريا كانت ترى البقاء لاستكمال مهمة تدريب الأكراد على دحر داعش وإدارة معسكرات احتجاز عناصر التنظيم وعوائلهم لحين استرداد الدول الأوروبية لرعاياها من الدواعش، وأيضا لحين استكمال عملية عدولهم عن الفكر المتطرف العنيف لضمان عدم تجدد بذور الإرهاب في هذه المنطقة مرة أخرى. وفي مكالمة تلفونية أخرى في أكتوبر 2019، أعاد أردوغان إقناع ترامب بسحب القوات الأمريكية المرابطة على الحدود التركية- السورية في نقطتي تل أبيض ورأس العين فيما أُعتبر ضوءاً أخضر أمريكياً لشن عملية عسكرية هجومية تركية في هذه المنطقة، وهو الهجوم الذي كانت تركيا تُعد له منذ سنوات في شرق الفرات من أجل دحر النفوذ الكردي وشق الاتصال الجغرافي للمناطق التي يسيطر عليها الأكراد في الشمال السوري.
وبالتالي، فإن حرية الحركة الكبيرة التي تمتعت بها تركيا في الشمال السوري بفضل العلاقة الوثيقة بين الرئيسين التركي والأمريكي مرشحة للانتهاء مع تغير الإدارة الأمريكية ووصول بايدن. فمن المعروف أن بايدن سبق أن انتقد بشدة القرار المتعجل بسحب القوات الأمريكية في المرتين، واعتبر أن في ذلك تهديداً للأمن القومي الأمريكي وإفساحاً للمجال لتمدد داعش من جديد. فضلا عما يترتب على ذلك من تعقيد الأزمة الإنسانية للسكان المدنيين في هذه المناطق وتخلياً ملحوظاً عن الأكراد كحلفاء للقوات الأمريكية في الحرب على الإرهاب.
لذلك من المرجح أن يخالف بايدن نهج ترامب في ابتداع قرارات عسكرية متعجلة، وسيلجأ إلى المتخصصين في شأن المنطقة لاتخاذ قرارات مستندة على المعلومات من الأجهزة العاملة على الأرض والتي تجد في السياسة التركية في سوريا تمدداً غير مرغوب فيه، وتهديدا للأمن الإقليمي بصفة عامة. وبافتراض أن بايدن سيؤسس فريقاً متخصصاً في هذا الشأن قريباً من توجهات الإدارة الأمريكية إبان أوباما، فمن المتوقع أن يحافظ في هذه الحالة على الوجود الأمريكي في شمال سوريا، ويحض تركيا على الانسحاب التدريجي من المنطقة التي توغلت فيها شرق الفرات. فضلا عن محاولة التقارب مع الأوروبيين لإحياء مسار التفاوض في ملف العملية السورية الذي سلّمه ترامب بالكامل للروس والأتراك من قبل. وسيكون التوجه الأمريكي في هذا الصدد هو إنهاء فوضى الميليشيات السورية المعارضة في الشمال، والتي نشأت في ظل الرعاية التركية، ولا تزال مسيطرة على مناطق واسعة من إدلب وحلب وأجزاء من الحسكة. بينما قد تلقى قوات قسد مزيداً من الدعم الأمريكي لضبط الأمن وملاحقة فلول داعش ولكن دون المستوى الذي يمكنها من تحقيق نزعاتها الانفصالية.
كما أن الموقف العام في الكونجرس ومجلس الشيوخ يبدو أقرب إلى التشدد مع تركيا التي يرونها عنصراً مهدداً للاستقرار الإقليمي، سواء في شرق المتوسط أو الشمال السوري. ومن ثم، من المرتقب أن تذهب التوجهات التشريعية للإدارة الجديدة في طريق عرقلة المزيد من التسليح الأمريكي للأتراك بسبب سوء السلوك العسكري التركي في المنطقة، خاصة سلوكها البحري في شرق المتوسط، وسلوكها البري والجوي شرق الفرات.
من المتوقع أيضا أن تتحلى السياسة الأمريكية الجديدة إزاء الملف السوري بدرجة أكبر من الفعالية، وذلك بالتنسيق مع الأوروبيين مما سيؤدي إلى الضغط على الأتراك للتراجع عن احتلال المواقع التي خلت في سوريا عقب عزوف إدارة ترامب عن الانشغال بها. إذ تبدو إدارة بايدن المرتقبة أقرب لتعزيز العمل الجماعي إزاء الملفات الإقليمية، خاصة مع الشركاء الأوروبيين والدول القائدة في المنطقة، ومن ذلك مثلاً إعادة الاعتبار لمسار المفاوضات الذي ترعاه الأمم المتحدة، بدلا من الأجندة الفردية التي سمحت بالتمدد التركي في سوريا. وعلى عكس ترامب الذي عزف عن التأثير المتواصل على الساحة السورية، وأفسح المجال للروس لإدارة الموقف، ستبدو إدارة بايدن أكثر اهتماما بإنهاء الملفات المفتوحة، وتعزيز العملية السياسية في سوريا، والانسحاب التدريجي للقوات الأجنبية.
تعزيز العمل الجماعي مع الأوروبيين قد يؤدي إلى تحريك الملف الإيراني مرة أخرى ويُفسح المجال لإجراء تفاهمات غير مباشرة مع إيران. لكن مع ذلك، من غير المرجح أن تتراجع الإدارة الأمريكية الجديدة في المدى المنظور عن العقوبات التي أقرتها بحق حلفاء إيران في المنطقة، خاصة قانون قيصر. هذا القانون تم إعداده على مدار سنوات من قبل مجموعة تشريعية تتكون من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومن ثم ليس من المتوقع أن يتأثر هذا القانون بتغير شخص الإدارة الأمريكية. بل على الأرجح أن يبقى هذا القانون مسلطاً كورقة ضغط للحصار الاقتصادي على الإيرانيين من أجل دفعهم إلى تقديم تنازلات في عدة ملفات في المنطقة.