يتمحور الإدراك الاستراتيجي الإثيوبي إزاء مصر حول فكرة وجود ما يمكن وصفه بـ "التناقض الاستراتيجي" بين البلدين. هذا الإدراك الإثيوبي المغلوط هو محصلة للعديد من المصادر، يرتبط أولها بالقراءة الإثيوبية لتاريخ العلاقات والتفاعلات بين الجانبين، القديم منها والحديث، وهي قراءة تطغى عليها السلبيات، بحيث لا تكاد ترى أية إيجابيات في هذا التاريخ. ويتعلق ثانيها بتركيبة النخبة الحاكمة في إثيوبيا طيلة العقود الثلاثة الماضية، والتي لديها ميل متأصل إلى اصطناع الحروب والأزمات، مع عدم القدرة على إدارة الصراعات بطريقة توافقية. بينما يتعلق ثالثها برؤية إثيوبيا لذاتها في المرحلة الحالية من تطورها، وهي رؤية يغلب عليها شعور غامض بالتفوق وغلبة أوهام القوة، مع إحساس طاغ بأن "لحظة" إثيوبيا قد حانت لكي تصبح القوة الإقليمية المهيمنة.

بمعنى آخر، تنطلق السياسة الإثيوبية إزاء مصر من رؤية استراتيجية معقدة، تتداخل فيها الموروثات التاريخية والرغبة العارمة في السيطرة الكاملة على الموارد المائية للنيل الأزرق، مع الاعتقاد بأن ذلك في حال حدوثه سوف يعزز النفوذ الإقليمي لإثيوبيا، ليس فقط على مستوى القرن الأفريقي، ولكن أيضاً على امتداد منطقة شمال شرق أفريقيا ككل. وسعياً وراء هذا الهدف، بات نظام الحكم في إثيوبيا يعتبر منذ ثلاثة عقود على الأقل أن صراعه المحتمل مع مصر يمثل الصراع الاستراتيجي الذي يتعين إعادة تكييف جميع سياسات البلاد من أجل الاستعداد لخوضه باعتباره أمراً حتمياً من وجهة النظر الإثيوبية، وفق ما ذكرته العديد من الدراسات والكتابات الإثيوبية.

تحاول هذه الكراسة تحليل مصادر الإدراك الاستراتيجي الإثيوبي لمصر، وانعكاس ذلك على السياسة الإثيوبية تجاه مصر، وموقع سد النهضة منها.