د. أيمن السيد عبد الوهاب

مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

  يشير العنوان إلى نتيجة تبدو حاكمة من منظور الأجيال السابقة على الجيل z، وربما تشير إلى منظور ورؤية هذا الجيل إلى المجتمع وشعوره بالاغتراب وتشتت الهوية، فالمأزق أو المشكلة التى نتلمسها ولا نعرف أبعادها وعمقها المجتمعى، هى نتيجة تدلل عليها الكثير من المظاهر والسلوكيات الاجتماعية والثقافية التى تشير بوضوح إلى اتساع الهوة بين الأجيال وخاصة أجيال ماقبل الألفية ومابعدها ( الجيل z والجيل الفا)، فمن الواضح أن السلاسل الجيلية قد فقدت الكثير من ترابطها وخاصة فى المجتمعات النامية التى لم تستطع مواكبة التطور والتقدم التكنولوجى فحدثت الفجوة الجيلية وفقدت الكثير من وسائل التواصل والتفاعل المجتمعى التى كانت تساعد على التجانس والتطور التدريجى الجماعى للمجتمعات، فمظاهر الفجوة فى تلك المجتمعات ومنها مصر تبدو حادة بين شرائح ووحدات نفس الجيل وخاصة أجيال ما بعد الألفية.

 أولا: المواطنة الرقمية

صفة ارتبطت بأبناء الجيل z، كتعبير عن اهتماماتهم وخصوصيتهم المرتبطة بالتكنولوجية الرقمية، وبناء عوالمهم الخاصة التى تشكل وجدانهم، وتصيغ خيالهم. جيل يمتلك أدبه الخاص المعروف بأفلام أو خيال الديستوبيا (المدينة الفاسدة) التي يعبر فيها أبطالهم الشباب عن قضاياهم الخاصة بالهوية والصداقة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية، كما تحمل رسائل عن سبل التخلص من العالم الفاسد والبحث عن الأمل والخير فى أشكال غير تقليدية.

جيل نضج فى ظل منصات معرفية متعددة تحدد سلوكياته وأنماط استهلاكه وسبل التسويق، ولديهم قدرات كبيرة على التواصل والقدرة على التفكير الإبداعى.

جيل تعايش مع العولمة وآمن بالمواطنة العالمية، واكتسب خصائص نفسية واجتماعية ومعرفية ووجدانية، صهرت معها الكثير من العقائد والقيم والخصوصيات الرمزية والاجتماعية، فآمن بأهمية الانفتاح والقبول بالآخر والتنوع العرقى.

جيل عاصر مرحلة ما بعد الإنسان، مرحلة يتم فيها استبدال الإنسان بالآلة، فلم يعد الاكتفاء بالآلة كمساعد للإنسان وسبيل لتطوير سبل المعيشة والحياة، بل يبدو إننا على مشارف مرحلة جديدة من دورات الحياة التى يمكن أن تؤدى لسيطرة الآلة على الإنسان  من خلال زرع شريحة داخله، أو من خلال التأثير المباشر على نمط معيشته وحياته، مثل زواج الإنسان بإنسان آلي وتحديد نوعه الجنسى وتحديد ديانته.

العديد من هذه التوجهات والأفكار تشير إليها الدراسات النوعية والمتخصصة التى تناولت دراسة هذا الجيل فى العديد من دول العالم، ولكنها تطرح فى المقابل المشاكل والتحديات التى تفرض نفسها على الواقع الاجتماعى لهذا الجيل بدرجة أكبر وأكثر حدة، مثل: انهيار العلاقات الاجتماعية، والأمراض النفسية وخاصة الاكتئاب، والمنظومة القيمية الحاكمة وعلاقتها بإعلاء القيم المادية والنفعية والاستهلاكية.

بمعنى أدق، ترسم الكثير من الدراسات الغربية والأمريكية والإسرائيلية (للأسف ليس هناك دراسات عربية دقيقة ترسم خريطة هذا الجيل ووحداته) ملامح هذا الجيل إلى حد ذهاب بعضها إلى أننا أمام جيل يمتلك منظور وإدراك مختلف للهوية والانتماء ورؤيته للعديد من الثوابت التى دفعت وشكلت التطور الاجتماعى مثل الدولة والوطن والإنسان.

لذا كان الاهتمام العالمى بدراسة الجيل z، والوقوف على سماته وخصائصه ليس فقط من منظور دراسات الأجيال وعلم الاجتماع، ولكن من منظور السياسة والاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا، مستندا إلى ما أحدثته الثورة التكنولوجية والثورة الصناعية الرابعة من تسارع لوتيرة التطور الجيلى، حتى إننا نتحدث الآن عن اثنتى عشر سنة أو سبعة عشر سنة هى متوسط عمر الجيل ألفا والذى يبدأ من 2012، التالى للجيل z (الذى يبدأ من 2000، أو 1997).

هذا التسارع يلقى بالكثير من التساؤلات المستقبلية الواجب أخذها بجدية عالية، لما تفرضه هذه التساؤلات والقدرة على الإجابة عليها من تحديد لمسار التغير الاجتماعى ودرجة الرقى والتقدم المجتمعى والإنسانى.

ثانيًا: كيف نفهم الجيل z؟ 

الانتقال من التساؤل لماذا إلى كيف؟ بداية حتمية لسد الفجوة القائمة بين هذا الجيل وغيره من الأجيال السابقة، ولدفع مساحات الحوار والتواصل معه، بعيدا عما فرضته العوالم الافتراضية من تغذية معرفية أثرّت فى إدراكه لهويته وثقافته وافقدته الكثير من الارتباط بالواقع المجتمعى والحياتى.

ومع الإقرار المسبق بعدم معرفتنا الدقيقة بحجم التحول وعمق التأثير الذى يطرحه هذا الجيل ويسير نحوه، لنقص البيانات والمعلومات والمعرفة التفصيلية المحددة لأفكاره ومفاهيمه وقيمه وسلوكه، إلا أن بعض المظاهر الاجتماعية، وما تشير إليه بعض المراصد الاجتماعية من اختلالات وسلوكيات اجتماعية تشير إلى بعض القضايا ذات السمات العامة، وبعض الخصوصية المجتمعية التى تضرب بعمقها هوية المجتمع المصرى، من أبرزها:

لا يختلف الجيل z المصرى عن أقرانه من هذا الجيل على مستوى العالم، فهو جيل شفرته عالمية ونظرته تتجاوز المحلية، يرفض الواقع ويهدف إلى تغييره أو تجاوزه، جيل شكلته المعارف المتعددة المرتكزة على الثقافة الغربية، وما فرضته ما بعد الحداثة من تغذيات مادية وذاتية ورؤى للعالم الذى تم افساده، ويعيش مرحلة “المابعديات” وميكنة الإنسان وأنسنة الآلة. جيل يمتلك من الذكاء والخيال الكثير، لكنه يعانى من تأثير الازدواجية المعيشية بين عالمه الافتراضى الذى يحبه ويحقق أحلامه والواقع بكل ما يحمله من تحديات وتناقضات تنعكس بوضوح فى الأمراض الاجتماعية والسلوكية والتشوه القيمى.

رسم الخريطة المعرفية للأجيال المشكلة للمجتمع المصرى وتحديد ملامحها وتمايزاتها وخصائصها، مطلب يتجاوز كونه منهاجية لقياس الزمن، والوقوف على التباينات الجيلية، أو حتى تحديد القوى الاجتماعية، ولكنه مطلب لتحديد مسار التطور الاجتماعى وحدود التغيير واتجاهه، وخاصة مع تراجع الوزن النسبى لثقل المؤسسات التقليدية والاجتماعية والثقافية وعدم تناغمها وتكاملها، وتراجع دور الطبقة الوسطى بمنظومتها القيمية والسلوكية كتيار رئيسى حاكم للتفاعلات المجتمعية.

السياق التاريخى والاجتماعى والسياسى لهذا الجيل، تتشابك فيه العديد من الأحداث التاريخية الكبرى المؤثرة، تنامى الإرهاب والتوظيف السياسى للدين، والإسلاموفوبيا فى الغرب، والأزمة المالية العالمية، والتنافس الدولى على موارد المنطقة العربية، وهشاشة دولها وضعف مجتمعاتها، وتنامى حركة الجماهير، وتنامى مظاهر مجتمع المخاطر عالميا ومحليا. وهنا يمكن التأكيد على التأثير المتشابك للأحداث فى سياقها الدولى والإقليمى والمحلى بالنسبة للجيل z المصرى (كما كانت بالنسبة للأجيال السابقة) ودور تلك الأحداث فى تحديد هويته وصياغة خصائصه وسماته المميزة، وهو ما يشير بدوره لأهمية الوعى المجتمعى بالأدوار والمهام الواجب مراعاتها للمحافظة على الهوية وبناء وتشكيل الذاكرة المجتمعية فى إطار التجديد الثقافى والتطور الإنسانى ودورة الحياة.

الهوية المعرفية للجيل z تتباين داخل شرائح ووحدات الجيل نتيجة لتعدد المنصات المعرفية، ونتيجة لتعدد أنماط التعليم المصرى (حكومى، تجريبى، خاص، دولى، أزهرى) وتعدد الأنماط الثقافية المرتبطة به، الأمر الذى يفرز واقع مجتمعى متعدد غير متجانس، غير قادر على تدعيم أواصل الارتباط والتواصل وخاصة مع ارتفاع مستوى الأمية، وما تعكسه ظاهرة التسرب من التعليم من تحديات لا تقتصر على الجوانب المعرفية، ولكنها تمتد إلى قضايا الهوية والاغتراب والانتماء.

النموذج المعرفى وعملية البناء الإنسانى، تطرح إشكاليات التعامل مع الجيل z المصرى، والجيل ألفا، وخاصة أن العديد من المقومات التى ساهمت فى تشكيل هذين الجيلين تعكسان حالة من عدم التجانس والسيولة الاجتماعية والثقافية، وهو ما يلقى بظلال كثيفة على ملامح عملية البناء، وما يتنازعها من تباينات وربما تناقضات فكرية وتقافية واجتماعية سوف تترك بصمتها على هوية تلك الأجيال، ومن ثم على الشخصية المصرية.  

من هنا تبدو أهمية بناء نموذج معرفى يتوافق مع عملية بناء الإنسان المصرى، وأن يرتكز على معرفه مسبقة تحدد ماهية هذا الإنسان وسبل بنائه وعلاقته بعالمه ودولته ومجتمعه، وطبيعة العقد الاجتماعى الرابط، وأن يبنى هذا النموذج بشكل تكاملى بحيث تتبلور فيه المرجعيات وتتحدد فيه الخصوصية، وتصاغ فيه القيم الحاكمة والأنماط الأخلاقية، وأن يدفع نحو الإبداع والمعرفة والتواكب مع التقدم العلمى فى نفس الوقت الذى يضمن المحافظة على الهوية الذاتية، ويحد من الشعور بالاغتراب ويفعل أطر المسئولية والدور المجتمعى.  

شبابية المجتمع المصرى وما توفره من فرص إيجابية وحيوية تلقى أيضًا بالكثير من التحديات حول القدرة على توظيف طاقة وإمكانيات هذا الجيل، لاسيما فى ظل تباين الإمكانيات والفرص المتاحة أمامه، والتى تتطلب مراعاة أن الغالبية من هذا الجيل يعيش فى الريف (نحو 56.4%) وبعضهم يعانى ما فرضته ثقافة العشوائيات بعد أن تحول الريف إلى طارد للسكان، وبعضهم معبر عن تعمق ظاهرة “أولاد الشوارع” إلى “أطفال الشوارع” وبعضهم يعانى من ظاهرة الإرهاب والتطرف، وبعضهم يعانى من تفاوت طبقى واجتماعى كبير، وهو ما يتطلب رسم خريطة معرفية بالجيل z وعلاقته بالجيل y السابق له، وما تلاه من جيل، عبر دراسات ميدانية واستطلاعات رأى تساهم فى بلورة رؤية مؤسسية وصياغة سياسات عامة تتمتع بالمرونة والموازنة بين الإمكانيات والموارد والمتطلبات الفعلية لتحقيق التوازن التنموى بين محافظات الجمهورية. 

ثقافة الاستقطاب، تفرض نفسها على هذا الجيل بدرجة أكبر وأكثر تأثيرًا نظرا لخصوصية رؤيتهم، فما بين ثقافة التطرف التى تجتذب المهمشين وأصحاب الأيديولوجيات من جانب، والمرتبطين بالثقافة الغربية وما تشكله من حلم ونموذج للتقدم والتطور من جانب ثان، يبدو القطاع الأكبر من هذا الجيل تعتصره الكثير من التناقضات الثقافية والتأثيرات العولمية التى ضربت أركان هويته وانتمائه.

من هنا جاءت فكرة هذا العدد من أحوال مصرية، ليطرح قضية الجيل z المصرى على أجندة البحث العلمى والأكاديمى المصرى، كنقطة انطلاق لتشريح الجيل ووحداته، وحتى يمكن بلورة معرفة دقيقة لجحم ما سوف يطرحه هذا الجيل من تحديات وفرص، يمكن معها صياغة سياساتنا الهادفة لبناء جيل جديد قادر على النهوض بالدولة والمجتمع والإنسان ويحافظ على هويته المصرية.