د. أيمن السيد عبد الوهاب

نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

الاقتصاد الأخضر كرؤية وفلسفة تصب فى فكرة أعمق وأكثر اتساعا من البحث عن أسلوب ونظم جديدة لإدارة الإنسان لحياته ورفع مستوى الرفاه، وهى قضية الإنسانية نفسها، وعلاقة الإنسان وتفاعله مع البيئة وقوى الطبيعة، فالسعى المستمر للسيطرة على الطبيعة ومعرفة أسرارها وتطوير أدواته المعرفية والتكنولوجية، فضلا عن تنامى التفكير المادى إلى حد السطوة على غالبية السلوكيات والتفاعلات الإنسانية، أنتج فى النهاية مجتمع المخاطر العالمى بكافة تجلياته وتحدياته.

تلك المخاطر التى تبدو فى أكثر معانيها تجليا وخطورة ممثلة فى وباء “الكورونا” الذى اجتاح العالم كما حدث من قبل مرات عديدة، وصاحبه العديد من الأسئلة الكبرى المرتبطة بالله والإيمان والإنسان وعلاقته بالبيئة والكون، وصاحبه أيضًا تساؤلات عن دور الإنسان فى صناعة تلك المخاطر سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر، ودور قوى الطبيعة فى مواجهة الاختلالات وإعادتها لتوازناتها فى صور متعددة، قد تبدو كارثية بالنسبة للإنسان وتحديًا لحضارته وتقدمه العلمى وأسلوب حياته.

صحيح أن الإخلال بتوازن الطبيعة وانتشار الأوبئة والمخاطر التى تحيط بالإنسان وبالأرض ليست بالجديدة بل هى قائمة وتنامت مع تطور الحياة البشرية، ولكن الجديد أن تطور العلم والثورة التكنولوجية والمعرفة الهائلة التى امتلكها الإنسان لم تدفعه إلى تغيير الأفكار الكبرى المرتبطة بفلسفة الحياة والإنسانية أو الممارسات المتعلقة بالاستغلال المفرط وغير المنظaم للموارد الطبيعية.

تلك هى القضية فى ابسط معانيها وأكثرها تعقيدا فى نفس الوقت، قضية الإنسان نفسه، ومايحكم طبيعته ونسبية الخير والشر، وعلاقتها بالمسيرة التاريخية للإنسان وقضية التوازن التى يجب أن تحكم الإنسان وتحد من أنانيته وفرديته مقابل العيش فى جماعة، وما تفرضه من متطلبات تدبير الحياة والعيش فى أمن وسلام، والانتقال من الصراع من أجل البقاء، للصراع من أجل السيطرة على الطبيعة.     

أزمة الفكر الغربى أم مأزق اخلاقى؟

توضح مؤشرات ودلائل مجتمع المخاطر أننا أمام محك جديد من التطور الحضارى والإنسانى، يحمل بين جوانبه العديد من التحديات والرسائل الإنسانية على مستوى الفكر والممارسة، فتنامى خطاب وتيار “المابعديات” ( مابعد الحداثة، مابعد العولمة، مابعد الحرب الباردة، مابعد الليبرالية، مابعد الدولة، مابعد الديمقراطية...) يشير بوضوح لهذا المحك الجديد الذى تمر به الحضارة الإنسانية، بعد ما فرضه النموذج الغربى والعولمة من أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية دافعة الى مرحلة جديدة من أزمات الإنسان المعاصر، وهو ما تكشف عنه مسألة إعادة إنتاج المرجعيات القديمة بالتساؤل عن” مابعد” ، والتحرك نحو المستقبل بتساؤلات “ماقبل” مع دراساتها ووضعها فى صيغ وأطر جديدة، يعبر بعضها عن محاولات للتطوير واستكشاف التحديات ومواكبة العصر، ويعبر بعضها الآخر عن الرغبة فى القفز إلى عدم اليقين.

بمعنى آخر، هذا التيار وتلك الخطابات المتعددة التى تبدو انعكاس لحالة من الرغبة فى الانتقال وتقديم تفسيرات معاصرة لما أفرزته أزمة العقل والسياسات والصراعات الدولية على الإنسان والمجتمعات من تحديات وسلبيات، تبدو مظاهرها متعددة وكاشفة عن أخطار حقيقية على الحضارة الإنسانية نفسها.

فالحديث عن الإنسانية نفسها وماتعنيه وعلاقتها بالإنسان مع التطور التكنولوجى والتقنى الكبير واستخدام التقنيات الحديثة فى مجال الهندسة الوراثية والذكاء الصناعى لتحسين حياة وصحة الإنسان ترافق معها السعى نحو ميكنة الحياة نفسها للحد الذى تبرز تلك المقابلة ما بين آنسنه الآلة وميكنة الإنسان. فتلك المقابلة تعكس بوضح حجم الأزمة وحجم الخلل البشرى الذى يحدثه فى تفاعلاته سواء مع نفسه أو فى المجتمع. فتجاوز الطبيعة والإخلال بالتوازن لم يعد قاصر على مضامين الأفكار الحاكمة والمرتبطة بوجود الإنسان نفسه سواء المتعلقة بتمكينه وتكريمه فى الأرض، أو المتعلقة بممارساته ونزوعه نحو الفردية والأنانية وانعكاساتها السلبية على الترابط الأسرى والروابط الإنسانية وتراجع المنظومات الاجتماعية والأخلاقية، فجميعها تعبر عن حقيقة المأزق الحضارى والإنسانى المتعدد الجوانب وما يتعلق به من أفكار فلسفية كبرى ارتبطت بقيم الحق والخير والجمال، وتصورات عن المدينة الفاضلة.

هذا المأزق الإنسانى يترجمه جانب آخر، يتجاوز الفكر إلى مافرضته العولمة من تأثيرات سلبية إلى الانتقال لطرح قضية مابعد العولمة، وما تتطلبه من بناء نظام دولى جديد، قادر على تجاوز النموذج الغربى كنموذج وحيد، والحد من تأثيرات التكتلات الاقتصادية العملاقة للشركات العابرة للقارات وسياساتها التنافسية وما فرضته من سياسات وثقافة مادية، أدت إلى التحول إلى أنماط انتاج واستهلاك مستدامين، وتنامى رغبات الاستغلال والسيطرة والاستنزاف للموارد، وربما تدميرها من أجل مصالح مالية واقتصادية بحتة، تجاوزت من خلالها  فكرة وهدف التنمية نفسها بالمحافظة على إنسانية البشر، بل تجاوز الرسالة الربانية لإعمار الأرض والمحافظة على التوزان البيئى، ليجنى الإنسان والأرض بمواردها وتوازناتها الطبيعية نتائج سياسات الجشع والاحتكار التى فرضتها الدول والقوى الكبرى وصراعها الخاص للسيطرة على العالم وموارده.

 وهو ما يتجلى بوضوح فى فداحة تلك النتائج، وما خلفته من أزمات عالمية تتعلق بالغذاء والمياه والطاقة والمناخ، وتكشف فى نفس الوقت عن مدى الاحتياج والإلحاح لصياغة سياسات عالمية داعمة للتنمية مرتكزة على نظم ايكولوجية تراعى فيها التوازن بين الاحتياجات وترشيد استخدام الموارد بالقدر الذى يحافظ على توازن الحياة، ويحقق عدالة فى توزيع الثروات وتجاوز تقسيم العالم إلى أثرياء وفقراء، ويحد من مظاهر مجتمع المخاطر كثمن غالى يدفعه الإنسان نتيجة عبثه (رغم المعرفة) بالبيئة والإخلال بتوازنها.

نحو نموذج تنموى متكامل  

يشير الاقتصاد الأخضر إلى منظومة متكاملة من المتطلبات لتحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة وعادلة، ويستند فى تحقيق ذلك إلى جملة من الركائز، مثل: العلم والتكنولوجيا، والتوازن البيئى، والرؤية المستقبلية الداعمة للمحافظة على الموارد وإدارتها بقدر كبير من الرشادة، فضلا عن النسق القيمى والأخلاقى الداعم لجملة من الأهداف، مثل: تحسين رفاهية الإنسان، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتحقيق التوازن بين احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية.  

واتساقا مع هذه الرؤية، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من المعانى والدلالات المرتبطة بالاقتصاد الاخضر وفلسفته كمدخل تنموى فاعل يعبر عن قصور نماذج التنمية السابقة، نذكر منها:

1ـ الاقتصاد الأخضر كنموذج تنموى يقوم على الموازنة بين المستهدفات الاقتصادية مثل تحقيق النمو والتنمية المستدامة وبين العوامل الاجتماعية والبيئية الداعمة لعدم الإخلال بالنظام البيئى، ورغم الإقرار بحجم التحديات التى تواجه تطبيق هذا النوع من الاقتصاد بمجالاته المتعددة، لاسيما فى الدول النامية، إلا أنه يظل هدف ورسالة حياة لتعامل الإنسان مع موارده، ومن ثم، يجب أن تتكاتف المؤسسات الدولية لدعم توفير سبل المعرفة والسياسات والأدوات للدول النامية، حتى لاتظل أسيرة استنزاف مواردها من قبل الدول والشركات الدولية الكبرى.

2ـ الاقتصاد الأخضر يجب أن يرتبط بفلسفة ورؤية للعالم تستند إلى سياسات تكاملية، وفلسفة جديدة للحياة وموقع المواطنين منها، بحيث تتسع لتشمل مجالات متعددة، مثل: الطاقة المتجددة، والمدن والمبانى الخضراء، والزراعة العضوية، وصياغة الغابات، والمحافظة على جودة المياه والاراضى الزراعية، وإدارة المخلفات. نحن نتحدث عن أسلوب حياة يستند إلى مقاربات فكرية وسياسات عولمية تتجاوز ما افرزته العولمة والحداثة والرأسمالية من تحديات تحيط بحياة الإنسان وإنسانيته سواء على مستوى الأفراد أو الدول.

3ـ الاقتصاد الأخضر يقوم على توظيف العلم والتكنولوجيا والمعرفة لخدمة البشرية، من خلال التطبيقات التقنية الداعمة لإيجاد مصادر بديلة للطاقة صديقة للبيئة وللإنسان، وتقديم منظومة صناعية آمنة قادرة على معالجة ما أحدثته الثورات الصناعية الثلاثة السابقة من تلوث وتأثيرات سلبية على صحة الإنسان والبيئة.

4ـ الاقتصاد الأخضر يوفر نمط حياة مستدام من خلال دفع الاستثمارات وتركيزها بمجالات متعددة تحافظ على التوازن البيئى وعمليات إنتاج نظيفة تحافظ على صحة الإنسان اعتماداً جذريًا على منتجات وخدمات النظام الإيكولوجي (كتوافر المياه العذبة والغذاء ومصادر الوقود) وهي منتجات وخدمات لا غنى عنها لتمتع الإنسان بالصحة الجيدة.

5ـ الاقتصاد الأخضر يتطلب نسق قيمى وثقافى واخلاقى، يدعم علاقة الإنسان بالبيئة ورسالته الإنسانية فى إعمال الحوكمة والإدارة الرشيدة للموارد كسبيل لتحسين حالة الرفاه البشرى  والإنصاف الاجتماعى بدون  مخاطر بيئية ملموسة.     
السمات السابقة للاقتصاد الأخضر، لا تخلو من تحديات وصعوبات عديدة، منها: حدود توافر وإتاحة التكنولوجية المطلوبة ودرجة أمانها، وإرادة تغير نمط الحياة، ودوافع توجيه الاستثمارات نحو هذا الاقتصاد، وتوفير البينية والمؤهلات والخبرات المطلوبة.

 ولكن إذا كان الهدف هو الوصول إلى تحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة وعادلة، فإن المطلوب إعادة صياغة القيم والأفكار والعلاقات التى تشكلت فى مواجهة الأخطار العالمية، وفى القلب منها تجاوز سطوة التفكير المادى، فضلاعن توافر قوانين ومؤسسات دولية تدفع نحو الانتقال من الاقتصاد التقليدى الاستهلاكى الذى يعتمد على استنزاف الموارد الطبيعية إلى الاقتصاد الأخضر بكل مايعنيه من اعتبارات إنسانية وحفظ لحقوق الأجيال المستقبلية وحماية للأرض.

فالعلم وعقلانية الإنسان يجب أن يكونا مصدرا للأعمار والخير ومواجهة التحديات والمخاطر التى تحيط بالإنسان نفسه، لا أن يكون مصدرًا للتساؤل عن معنى الإنسانية.