د. أيمن السيد عبد الوهاب

مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

«الأنا» و»الآخر» مفردات خطاب يومى للمواطن المصرى، تتجاوز فى معانيها الدلالية منطق المصلحة والسيطرة وتجهيل الآخر، إلى كونها تعبير حقيقى عن حجم المستجدات والتطور الذي شهده المجتمع المصرى فى بنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

فانقطاع عملية التحديث وعدم اكتمالها كما تعكسها تجربة تطور وتحول المجتمع المصرى ودولته، نجد إنها فرضت الكثير من التشوه والازدواجية على أنماط العلاقات البينية بين القوى التقليدية ومؤسساتها وهياكلها وبين القوى الجديدة وبنيتها من ناحية، بل إن تعقد عملية التحول من الريف للمدينة، فيما يُعرف «بترييف المدينة» يعبر بوضوح عن الكثير من المظاهر والاختلالات التى يشهدها المجتمع والمرتبطة بقصور عملية التحديث وانعكاساتها على مؤسسات الضبط الاجتماعى من ناحية ثانية، بمعنى أدق، إن تغير حياة المصريين بفعل الحداثة قد تركت بصمتها على المجتمع المصرى التقليدى، بنفس الدرجة التى تعكسها حالة التنازع حول منظومة القيم والثقافة التقليدية المترسخة فى العقل الجمعى.

وهو مايمكن تلمسه بوضوح فى العديد من الاختلالات والقضايا المجتمعية التى تُعانى منها المجتمعات، ومنها المجتمع المصري، مثل: تنامى الفردية والأنانية على حساب الجماعة، تراجع وضعف التكوينات الاجتماعية التقليدية رغم استمرارها، تغير علاقات القوة والترابط داخل التكوينات الاجتماعية مما اضعف عملية تنظيم قوة المجتمع، تنامى المطالب بالحقوق والحريات والندية داخل تكوينات ومجتمعات لا تزال الثقافة التقليدية تغلف الإطار والسياق المجتمعى السائد فيها. والحقيقة أن المجتمع المصرى لا يمثل استثناءً فى هذا السياق، فالعديد من دول العالم تُعانى من تنامى الفردية التى كرستها قيم وثقافة المجتمعات الصناعية ومافرضتها الحداثة والعولمة من تأثيرات سلبية على العلاقات والارتباطات الاجتماعية، وإن كان بدرجات متباينة.

إن تعقد شبكة التفاعلات والعلاقات فى المجتمع المصرى، وتنازع المرجعيات الفكرية والقيمية المرتبطة بهوية المجتمع، وضعف مؤسسات التنشئة الاجتماعية (القبيلة، والعشيرة، والعائلة، والأسرة، والمدرسة، والجامعة)، والاختلاف حول الأنماط السلوكية والأخلاقية ومدى توافقها مع شخصية الإنسان المصرى، تشكل جمعيها تحديات ومداخل لفهم حجم التحول الذى يشهده المجتمع المصرى، وإذا ما أضفنا ما فرضته العولمة بتجلياتها وثقافتها وأدواتها من تأثيرات على المجتمعات التقليدية، وبدرجة أكبر على المجتمعات الحديثة، فإننا نكون أمام متطلبات حتمية من شأنها أن تدفع عملية التحديث، وأن تدفع بالمجتمع المصرى بعيدًا عن الكثير من التشوهات التى أصابته نتيجة التردد فى استكمال عملية التحديث، وهنا يمكن التأكيد على عدد من النقاط:

ـ أهمية تجاوز محاولات المزج بين المتناقضات، وهو ماتعكسه الكثير من مظاهر تعدد الولاءات والهويات من ناحية، والاستقطابات الاجتماعية والسياسية من ناحية ثانية. فالمجتمعات الحديثة تبنى على المصالح والتفاهمات وتوافق الأفكار، بينما المجتمعات التقليدية تستند بالأساس إلى الارتباطات والعلاقات التقليدية المتعلقة بالنسب والعرق والدين.

ـ الوقوف على طبيعة البنى الاجتماعية وخصوصا العائلة وقراءة دورها على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وارتباطها بتلك العلاقة الديناميكية التى حكمت علاقة الدولة بالمجتمع والتفاعل بينهما لتحقيق السيطرة الاجتماعية والسياسية.

ـ تحديد نمط وطبيعة العلاقات الواجبة لبناء دولة حديثة، لاسيما ما يتعلق بطبيعة علاقاتها مع قوى المجتمع التقليدى وتكويناته وثقافته.

ـ بناء منظومة ثقافية وقيمية تمثل إطارًا ومساحة للإدراك العام يُمكن التوافق عليها، تتواكب مع  الثقافة الكونية وتحد من تآثيراتها السلبية المتعلقة بالهوية الوطنية والخصوصية الثقافية وسيادة الدول.

ـ التفاعل مع التنوع الثقافى كثراء مجتمعى يتطلب بناء ثقافة داعمة لمنظومة من القيم الإيجابية: العقلانية، التعددية، الإبداع والإنجاز، المشاركة، الإقرار بالنظام العام.

إن متطلبات البناء الاجتماعي، لا تتعلق فقط بالبحث في مظاهر الخلل المجتمعي وما يشهده من تشوهات، ولكن بالأساس تتطلب التوافق وحسم الكثير من القضايا الثقافية والاجاتماعية التي مثلت قيودًا على حركة المجتمع وتطوره، وتضرب ماهيته ودرجة تجانسه، فالبحث في عوامل الضبط الاجتماعي ودور مؤسسات التنشئة، يجب أن يسبقها التوافق علي ركائز البناء الاجتماعي كمحدد حاكم لعملية التحول واستكمال عملية التحديث، إن الحاجة لمشروع فكرى تنويرى تظل محددًا حتميًا للنهوض المجتمعى وبناء الدولة، وفى القلب منهما بناء الإنسان المصرى.