تبدو التفاعلات السودانية الراهنة مفتوحة على توزانات حرجة، ومستقبل غير محسوم الإتجاهات رغم إزاحة الرئيس عمر البشير عن سدة الحكم، ثم نجاح الحراك الاحتجاجي في إزاحة وزير الدفاع عوض بن عوف خلال 24 ساعة لاحقة. ولعل مصدر هذه الشكوك مرتبط بعدد من المعطيات. أولها، طبيعة اتجاهات المجلس العسكري نفسه، ومدى ثقة قوى الحراك في مسألة تسليم السلطة للمدنيين. المعطى الثاني، هو التضاغط بين القوى السياسية بشأن المعادلة السياسية المستقبلية في السودان وطبيعة عناصرها. ويكمن المعطى الثالث في القوى الحاملة للسلاح داخل العاصمة السودانية، ومدى السيطرة الفعلية على مخازن السلاح، وما إذا كان هناك قوى أخرى لديها قدرات تسليحية.
وأخيرا فإن موقف الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة يبدو متباينا من حراك "الحرية والتغيير"، كما أنه ليس جزءا أصيلا من هذا الحراك ولا أطروحاته السياسية، وربما هذا ما يفسر خلو وفد التفاوض الأول من جانب "إعلان الحرية والتغيير" مع المجلس العسكري من ممثلي قوى مايسمى بالهامش في السودان. وهو الأمر الذي ترتب عليه موقف سلبي من جانب عبد الواحد محمد نور -زعيم حركة تحرير السودان في دارفور- ضد الحراك.
المعطى الإقليمي في هذه التفاعلات يبدو متباينا نسبيا أيضا، حيث تدعم كل من السعودية والإمارات المجلس العسكري الراهن على المستويين الاقتصادي والسياسي، وذلك على خلفية تولي كل من رئيس المجلس ونائبه مسئولية مهام القوات السودانية في تحالف دعم الشرعية باليمن، بينما تتمسك مصر بـ"دعم خيارات الشعب السوداني"، و"ثقتها في الجيش"، وتتحسب لمخاطر التضاغط بين القوى السياسية على سلامة واستقرار مؤسسات الدولة السودانية.
ويمكن القول في هذا السياق إن التفاعلات السياسية بين طرفي المعادلة السياسية الراهنة في السودان لازالت بعيدة عن التوافق في المدى المنظور، وربما تنذر باستمرار الحراك لفترة طويلة قادمة قد يتعرض فيها السودان لمواجهات مسلحة، خاصة في دارفور؛ البطن الرخو الذي تختبر فيه عادة توازنات القوى بين الأطراف.
ويقف عدد من الأسباب وراء الموقف المأزوم راهنا بين أطراف المعادلة السودانية الداخلية، نلخصها فيما يلي:
أولا، تركيب المجلس العسكري نفسه؛ فرغم أن رئيسه -عبد الفتاح برهان عبد الرحمن- يحظى بقبول قائم على دعم إقليمي بالأساس بالنظر إلى دوره في دعم تحالف الشرعية بحرب اليمن، فإن ثلاثة من أعضاء هذا المجلس يُشار إلى توافقهم مع الحركة القومية الإسلامية، مثل الفريق عمر زين الدين الذي عمل مديرا لمكتب نافع على نافع رجل الأمن القوي، أو جلال الشيخ الذي عمل نائبا لصلاح قوش مدير المخابرات السوداني الأشهر، فضلا عن الطيب بابكر، مدير جهاز الشرطة.
ثانيا، سياسات المجلس العسكري المرتبطة بنظام عمر البشير. فرغم إعلان المجلس اعتقال عمر البشير ورموز نظامه وإيداعهم سجن كوبر، وضبط مبالغ مالية كبيرة في معية الرئيس السابق بمقر إقامته، لكن لا دليل على هذا حتى الآن، حيث لم يزر أحد هؤلاء المعتقلين ولم تُبث صور من مناطق احتجازهم، بينما تنتشر شائعات عن وجود محتجزين في مزارع خاصة بمنطقة "سوبا" وهو مايجعل مصداقية المجلس العسكري على المحك.
ثالثا، وجود أزمة ثقة بين رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان والقوى المدنية حول قضايا عدة، واعتقاد هذه القوى فى أنه يشكك فى قدرتها على استلام السلطة، وعدم ثقتها فى رغبته فى ذلك، رغم إعلان المجلس استعداده لتسليم السلطة بعد دراسة المقترحات التى قُدمت إليه.
رابعا، سعي المجلس العسكري أكثر من مرة لتفكيك اعتصام القيادة العامة بأساليب ناعمة، ثم إعلانه صراحة مؤخرا عن ضرورة تفكيك المتاريس حول القيادة العامة لفتح الطريق أمام الحركة والمواصلات.
خامسا، يشكل إرجاء إلغاء قانون النظام العام الذي يعطي للشرطة سلطة التحكم في الحياة الاجتماعية للمواطنين، وخياراتهم الشخصية، فرصة لإلقاء الشبهات حول الاتجاهات الإيديولوجيةللمجلس العسكري ومدى انحيازه لبعض السياسات المنسوبة إلى الحركة القومية الإسلامية في السودان تاريخيا.
سادسا، التضاغط الحاصل بين الحراك الإحتجاجي، من ناحية، ونخب الحركة القومية الإسلامية صاحبة المصالح في النظام السابق، من ناحية أخرى، وهي التي تملك مصادر الثروة الأساسية والمتحكمة في المسارات الاقتصادية للبلاد، حيث تسعى هذه القوى لتكون جزءا من المعادلة السياسية المستقبلية. وتقوم في سبيل ذلك بأمرين: أولهما، التواصل مع المجلس العسكري والضغط عليه وطرح مقاربات لشكل النظام المطلوب. وثانيهما، محاولة تفكيك قوى الحرية والتغيير التي تنضوي تحتها القوى السياسية السودانية التاريخية منها والحديثة، فضلا عن تجمع المهنيين وذلك بمحاولة شيطنة الأخير (نواة المعارضة الأساسية) باعتباره ممثلا للشيوعيين، كما تقول بذلك خطاباتهم على المنابر أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
سابعا، موقف المجلس العسكري من الاستخدام المفرط للقوة الذى تمارسه السلطة السودانية الآن ضد أي دعم للحراك الاحتجاجي بالخرطوم في المعسكرات الدارفورية.
ثامنا، إقدام المجلس العسكري على تعيين موظفين جدد في بعض المواقع، خصوصا الإعلامية، من النخب المنتمية للنظام السابق، ربما بسبب عدم معرفة بالنخب المهنية في المجالات المختلفة على خلفية القطيعة بين النظام السابق ونخبه المنتمية للحركة القومية الإسلامية، وباقي النخب المهنية.
ويبدو أن الخطاب الذى ينطوى على نوع من التشدد والتعالى تجاه الحراك الاحتجاجي يمكن أن يفتح الباب أمام مخاطر تفكك معادلة الفاعلين حاليا والوصول إلى حالة أكثر سيولة، وذلك لاعتبارات تتعلق بتركيب المجلس العسكري من ناحية، وقدرات الحراك الاحتجاجي من ناحية أخرى، ومشكلات التضاغط بين القوى السياسية، من ناحية ثالثة. فعلى مستوى المجلس العسكري، فإن نائب رئيس المجلس -محمد حمدان دقلو حميدتي- قائد قوات الدعم السريع يتسم بإقدامه على نوع من التحالفات المتغيرة غير المستقرة، وفي الأغلب لن ينحاز إلى سياسيات متشددة من جانب المجلس العسكري ضد المحتجين. وعلى مستوى آخر، فإن وجود رموز للنظام القديم داخل المجلسهي محل رفض الشارع يجعل إمكانية الخلاف واردة، الأمر الذي يهدد تماسك المجلس العسكري ذاته.
أما على مستوى الحراك الاحتجاجي، فإنه من الملاحظ وجوده في أقاليم وأحياء العاصمة إلى جانب اعتصام القيادة العامة. كما أنه يملك قيادة لديها خبرات سياسية متراكمة علىمدى الخمسين عاما الأخيرة في مجال صناعة الإنتفاضات وصياغة التحالفات، والتفاوض مع المؤسسة العسكرية السودانية، وكلها عوامل لاترشح هذا الحراك للتراجع أما المجلس العسكري.
وبالتأكيد سوف يكون أكثر السيناريوهات خطرا تلك المتعلقة بمواجهات في الشوارع بين الإسلاميين وباقي القوى السياسية المحتقنة ضدهم.