د. عبد العليم محمد

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

شهدت الأحزاب العمالية الإسرائيلية، أو أحزاب اليسار الصهيونى، تحالفات عديدة منذ نشأتها، الأول منها نشأ فى 19 مايو عام 1965 وجمع بين حزب "ماباى" وحزب "أحدوت هاعافودا، ونشأ الثانى فى يناير عام 1968، وجمع بين أحزاب "ماباى" و"أحدوت هاعافودا" و"رافى" فى حزب واحد أطلق عليه "حزب العمل الإسرائيلى". ويضاف إلى هذين التحالفين تحالف ثالث نشأ فى 19/1/1969 وجمع بين حزب العمل وحزب "مابام" الذى وجد نفسه وحيداً بعد حرب عام 1967، حيث رأى فى هذا التحالف فرصة لتعزيز مكاسبه بعد الحرب على الصعيد الداخلى والخارجى. كما أن حزب العمل رأى فى هذا التحالف فرصة لتصفية أية قوة سياسية عمالية تقف على يسار الحزب. ولم تخل هذه التحالفات من معارضة أقلية داخل هذه الأحزاب بسبب نزوع بعض قياداتها هذه نحو اليمين.

ولقد لعبت أحزاب اليسار الصهيونى وتحالفاتها دورا حاسما ورئيسيا فى نشأة الدولة الإسرائيلية وتعزيز مكانتها، ووقفت وراء تشكيل أغلب المؤسسات فى الدولة، ومثلت التيار النافذ فى الحركة الصهيونية وبلورة أجندتها التى استهدفت إقامة وطن قومى لليهود، وتدمير الشعب الفلسطينى، وتوطيد سيطرة إسرائيل على الأراضى الفلسطينية. والعديد من المفردات والمصطلحات المتداولة فى الأدبيات الإسرائيلية حول "جيل المؤسسين"، وقيم "الريادة والرواد" تنسب إلى قادة هذه الأحزاب العمالية واليسار الصهيونية، وهى تلك القيم التى طبعت الكيان الإسرائيلى بطابعه منذ البدايات وحتى صعود حزب الليكود واليمين القومى فى عام 1977. وتمثلت هذه القيم فى "الجماعية" و"الانضباط" و"التقشف" والروح القتالية، وهى القيم التى عصفت بها التطورات اللاحقة فى المجتمع الإسرائيلى سواء الديموجرافية أو الاجتماعية والاقتصادية فيما بعد.

ولا شك أن الأزمة العميقة التى يعيشها حزب العمل وريث الأحزاب اليسارية الصهيونية تمتد جذورها لعقود عديدة مضت منذ نشأة الدولة الإسرائيلية؛ فبادئ ذى بدء عانت هذه الأحزاب من تناقضات وتعارضات فى بنيتها الإيديولوجية وممارساتها وسياساتها فى الواقع؛ تناقضات مبدئية وأخلاقية وإنسانية، ذلك أن الجمع بين مفهوم اليسار فى هذه الحقبة وبين مفهوم الصهيونية كانا متناقضين وعلى طرفى نقيض أحدهما تجاه الآخر، فاليسار فى تلك الفترة كان ينطوى على قيم التحرر، والمساواة، ومناهضة الكولونيالية، وتجنب الدين والعرق كأساس للتمييز بين البشر أو كأساس للدولة، فى حين أن الصهيونية منذ البدء كانت حركة استيطانية إحلالية زاوجت بين الدين والقومية، وتأثرت بميراث الحقبة الاستعمارية والاستيطانية فى الغرب، واستهدفت بشكل واضح اقتلاع الشعب الفلسطينى من أرضه وإقامة كيان يهودى عنصرى فى مواجهة المحيط العربى والفلسطينى بالقوة والعدوان والتحالف مع القوى الاستعمارية الغربية. وقد انخرط اليسار الصهيونى فى تنفيذ أجندة الحركة الصهيونية قبل نشأة الدولة وبعدها واستمر فى تنفيذ سياسات تهميش الفلسطينيين وفرض حالة الطوارئ عليهم بعد نشأة إسرائيل. كما استغرقت النخبة اليسارية الصهيونية العمالية فى مشاعر الاستعلاء والعنصرية والنخبوية ليس فحسب إزاء الأقلية الفلسطينية التى بقيت وتمسكت بجذورها فى فلسطين، ولكن أيضا فى مواجهة اليهود من ذوى الأصول الشرقية من البلدان العربية وأثيوبيا وغيرها من البلدان.

لم تجدي سياسات الأحزاب اليسارية الصهيونية طيلة عقود فى معالجة تلك التناقضات بل عمقتها على ما يبدو. خطاب هذه الأحزاب عن حل إنسانى للقضية الفلسطينية، وبالذات قضية اللاجئين، والتعايش السلمى بين إسرائيل وجيرانها والحدود الآمنة لإسرائيل والتى يمكن الدفاع عنها، أسفر عن مزيد من الاستيطان وتقوية وتعزيز القوة الإسرائيلية والتفوق على المحيط العربى، وشن الحروب إزاء المحيط العربى. ولم تتمكن هذه الأحزاب من تبنى وانتهاج سياسات من شأنها أن تقود إلى الاتساق بين الخطاب الذى تبنته هذه الأحزاب وبين واقع السياسات التى تتبناها، بل اتسعت الهوة والشقة بين الخطاب والواقع على نحو عمق من حدة التناقضات التى تعانيها هذه الأحزاب إلى حد اعتبار أن خطابها بات مجرد ألفاظ ودعاية ذات رنين إنسانى وأخلاقى ولكنها عاجزة أمام ضغط السياسات والمؤسسات التى تتولى السيطرة عليها هذه الأحزاب.

عقدة الذنب لاحقت، وربما لا تزال تلاحق، رموز وأحزاب اليسار الصهيونى من جراء السياسات التى أفضت إلى الواقع الراهن، سواء تعلق الأمر بمصير حل الدولتين أو بالتسوية السياسية مع الدول العربية، لأن هذا التيار الصهيونى عجز عن تبنى سياسات وتخليق بدائل يمكنها الصمود فى مواجهة الواقع ومقاومة سياسات اليمين القومى والدينى فى إسرائيل؛ فالاستيطان والحرب والعدوان تم وضع لبناتهما الأولى فى عهد حزب العمل ولم يفعل اليمين القومى والدينى سوى أن عزز من تفاقم هذه الأوضاع.

ويمكن رصد بعض التحولات التى وقفت وراء استفحال التناقضات فى بنية الأحزاب اليسارية الصهيونية دون أن يعنى ذلك التخفيف من مسئولية هذه الأحزاب وقياداتها فيما آلت إليه الأمور، فثمة من ناحية آثار عدوان عام 1967 على الدول العربية واحتلال سيناء وبقية أراضى فلسطين الانتدابية والجولان، حيث ترتب على هذا العدوان أن تعمقت الميول والاتجاهات الدينية اليمنية والقومية المتطرفة التى رأت فى نتائج العدوان تحقيقا للوعد الإلهى لإسرائيل باستعادة أرض الآباء وفق الأسطورة الدينية، وإنجاز مهمة أرض "إسرائيل الكاملة".

من ناحية ثانية، فإن الهجرة اليهودية التى سبقت العدوان ولحقته كان أغلبها من اليهود الشرقيين "السفاراديم" والحريديم المتدينين والذين يميلون إلى التصويت لصالح اليمين القومى واليمين الدينى. تغيرت إذن التركيبة الديموجرافية للمجتمع الإسرائيلى، وزاد عدد اليهود الشرقيين مقارنة بعدد اليهود "الإشكنازيم" الغربيين، وتشكلت نخبة جديدة من اليمين القومى والدينى بجانب النخبة العمالية الغربية، وهو الأمر الذى مهد الطريق إلى صعود الليكود بزعامة "مناحم بيجين" إلى الحكم في عام 1977 لأول مرة منذ نشأة إسرائيل، وأصبح حزب العمل منذ ذلك التاريخ يترأس المعارضة فى الكنيست.

من ناحية ثالثة، وعندما تمكن حزب العمل من العودة إلى الحكم مرة أخرى فى أوائل التسعينيات بزعامة إسحق رابين، حيث تمكن هذا الأخير من عقد اتفاق أوسلو فى عام 1993، لكن تميز المسار الذى تبناه بالتردد وعدم الحسم والتشكك فى طبيعة السلام مع الفلسطينيين وتأجيل قضايا الوضع النهائى لمدة خمس سنوات، حيث صرح مرارا وتكرارا بأن الزمن ليس مقدسًا، ورفض الالتزام بالأجندة الزمنية المتفق عليها، وبذلك أضاع العمل فرصته فى إنجاز اتفاق تاريخى مع الشعب الفلسطينى. وانتهى الأمر بتكثيف حملات التحريض على أوسلو ورابين من جانب الليكود الذى أفضى إلى اغتياله وصعود الليكود مرة أخرى فى عام 1996.

وعندما وصل اتفاق أوسلو إلى مرحلة مفاوضات الوضع النهائى وقضايا المرحلة الدائمة فى عام 2000، وكان ايهود باراك قد وصل على رأس العمل فى انتخابات عام 1999 إلى الحكم، انتهى الأمر بتحميل القيادة الفلسطينية مسؤولية الفشل فى المفاوضات، وهوما كشف عنه تصريح باراك "أنه لا يوجد شريك فلسطينى فى السلام". وتلقف الإعلام الإسرائيلى والأمريكى هذه المقولة، وتحمل الجانب الفلسطينى الانتقاد والمسؤولية إلى أن تحدث روبرت ميلر المشارك فى الوفد الأمريكى فى هذه المفاوضات وأوضح حقيقة الموقف.

وانضمت رموز اليسار الصهيونى إلى باراك وحملت عرفات المسؤولية عن فشل المفاوضات واعتبروا أن عرض باراك على عرفات هو أفضل فرصة متاحة للفلسطينيين، وأن هؤلاء لا يريدون السلام بل يريدون تدمير إسرائيل.

رحل باراك وصعد شارون الذي تبنى خطة فك الارتباط مع غزة وانسحاب القوات الإسرائيلية وتدمير المستوطنات فى غزة عام 2005 إثر المقاومة، ولحقت العديد من الرموز اليسارية بخطة شارون وأيدتها باعتبار أنها تدخل فى إطار خطة الانفصال عن الفلسطينيين التى وضع حزب العمل معالمها تحت شعار "هم هنا ونحن هناك".

بالإضافة إلى هذه التطورات المهمة فى مسيرة حزب العمل وإسرائيل والخريطة السياسية، كان حزب العمل قد تعرض للعديد من الانشقاقات فى فترة السبعينيات وإن كانت غير ذى بال، حيث خرجت شلوميت ألونى أواخر عام 1973 وأنضم إليها فيما بعد "لوسى سريد" وأعضاء آخرون شكلوا معا حركة "راتس" (حقوق المواطن). كذلك انشقت مجموعة أخرى شكلت ما عرف بحركة التغيير "شينوى". وقد أفضت هذه الانشقاقات بالإضافة إلى حرب عام 1973 إلى سقوط حزب العمل عام 1977 وصعود الليكود.

وفى انتخابات الكنيست الحادى والعشرون وقبل موعد إجرائها فى 9 أبريل تعرض المعسكر الصهيونى لانشقاق "ليفينى" عن حزب العمل وإنهاء الشراكة بين حزب العمل وحزب "الحركة"  الذى تقوده "ليفنى" بعد خمس سنوات.