انطلقت حملة "خليها تصدي-زيرو جمارك" على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة موقع فيسبوك، خلال الأشهر الماضية منذ أواخر عام 2018. بدأت صفحة الحملة في جمع العديد من الأعضاء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي حتى وصلت اليوم إلى ما يزيد عن مليون وثلاثمائة ألف عضو. الهدف من الحملة تمثل في مواجهة الارتفاع غير المسبوق وغير المبرر في أسعار السيارات، خاصة بعد القرارات الخاصة بالإصلاح الاقتصادي وتعويم الجنيه. الحملة كان لها تأثير ملموس على سوق السيارات في مصر، وتمكنت من تحقيق نتائج تمثلت في خفض أسعار السيارات في السوق المصري من قبل الغالبية العظمى من الوكلاء، وكان لها دور مهم في إحداث حالة من الركود في مبيعات سوق السيارات في السوق المصرية.
نحن هنا لسنا بصدد سرد تفاصيل الحملة والأنشطة المختلفة التي قامت بها كي تتمكن من تحقيق أهدافها، لكن يسعى هذا المقال إلى تحليل العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع من ناحية، ثم تحديد نوع القضايا التي من الممكن أن تحدث على أرضيتها حشد مجتمعي يصنع تغييرا ملموسا. وتشير الحملة إلى أن الغلاء وجشع التجار والوكلاء على رأس هذه القضايا. كما أنها تؤكد أن المواطن له دور في إصلاح أوضاع خاطئة أو غير صحيحة، سواء في المجتمع أو في السوق أيا كانت السلعة، طالما تم ذلك بطرق سلمية، وقانونية، وبخطاب قادر على جذب المؤيدين.
الجدير بالذكر أن حملة "خليها تصدي" جاءت لكي تثبت أن إدعاءات ركود المجال العام في مصر غير صحيحة، وأنها إدعاءات قصيرة النظر لا تمتلك رؤية كلية لماهية المجال العام، سواء بمفهومه النظري، أو بمفهومه العملي والفعلي في سياق المجتمع المصري. ما يحدث في المجال العام المصري في الآونة الأخيرة يدل على تحول في الأرضية التي ينشأ من خلالها الحراك، حيث باتت القضايا الاقتصادية، والمجتمعية، وحتى الرياضية، أكثر قدرة على صناعة تغيير ملموس بالمقارنة بالقضايا السياسية، وهو ما يدل على تراجع في قدرات القوى السياسية المتنوعة على التواصل مع المجتمع بشكل عام، ويفضح حالة من التفسخ داخل صفوف هذه القوى.
أعادت الحملة إلقاء الضوء على دور وسائل التواصل الاجتماعي في إحداث حالة من التعبئة والحراك في المجال العام. كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في السنوات الماضية، حيث كانت إحدى وسائل الحشد للتحركات الجماهيرية في ثورات 25 يناير و30 يونيو. كما كان هناك بعض القضايا التي حركت وسائل التواصل الاجتماعي فئات من المجتمع من خلالها، وأدت إلى التوصل لنتائج ملحوظة. على سبيل المثال وليس الحصر، كان هناك حملة ضد برنامج المذيعة ريهام سعيد، بعد أن قامت في إحدى الحلقات باختراق الحياة الخاصة لأحد ضيوفها من خلال التليفون المحمول، وهو ما شهد الكثير من التذمر على مواقع التواصل الاجتماعي، وخلق نوع من "الاستياء العام" لدى الكثير من المتابعين. وكانت النتيجة أن عددا من الشركات الراعية للبرنامج أصدرت بيانات أعلنت فيها وقف رعايتها للبرنامج. وانتهى الأمر بوقف للبرنامج لعدة أسابيع. هذا التأثير الذي تبلور اجتماعيا واقتصاديا يحدث مرة أخرى من خلال حملة "خليها تصدي-زيرو جمارك".
هناك عاملان رئيسيان ساهما في نجاح حملة "خليها تصدي-زيرو جمارك"، هما الانتشار الكبير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، واتفاقية الشراكة المصرية- الأوروبية التي بموجبها لا يتم فرض جمارك على السيارات الأوروبية بدءاً من يناير 2019. هذان العاملان خلقا عددا من التغيرات في سوق السيارات في مصر، سواء في معدلات العرض والطلب، وبالتبعية، في معدلات المبيعات، سواء في أسواق الجديد أو المستعمل. هناك ما يقرب من 23 شركة قامت بخفض أسعار السيارات التي تقوم ببيعها، سواء كانوا وكلاء، أو موزعون، أو تجار. وفي تلك المسألة نقطة تحليلية يجب الإشارة إليها.
حملة "خليها تصدي" استطاعت أن تتجاوز حواجز الطبقية في المجتمع المصري، وتخلق cross-class أو أرضية متنوعة الطبقات لمؤيديها. فقد تفاعل مع الحملة وانضم إليها فئات مختلفة من المجتمع، ذلك أن شراء السيارات في مصر هو أحد مؤشرات الانتماء لطبقة اجتماعية محددة. ومن الممكن تقسيم المجتمع إلى ثلاث فئات فيما يتعلق بشراء السيارات. الفئة الأولى، هي الطبقة المتوسطة الدنيا lower middle class، الفئة الثانية هي الطبقة المتوسطة العليا upper middle class، والفئة الثالثة هي الطبقة العليا upper class. هناك نوعيات ودرجات مختلفة من السيارات تتعامل معها كل فئة من هذه الفئات الطبقية، لكن الجدير بالذكر أن كل نوعية من هذه السيارات، طبقت الشركات والموزعون والتجار المعنيون ببيعها خصومات على الأسعار بعد بدء الحملة وانتشار نفوذها المجتمعي، وهو ما يعني أن العمل العام على أرضية مكافحة الغلاء لم يعد يرتبط بالضرورة بالطبقة (على الرغم من وجود تفاوت طبقي فعلي داخل المجتمع المصري)، ولكنه بات عملا تتشارك فيه مختلف الطبقات بشرائحها المختلفة وبشكل متوازٍ.
وللتدليل على ذلك نجد أن هناك ثلاث فئات من الوكلاء قاموا بتخفيض أسعار السيارات التي يقومون باستيرادها وتوزيعها في سوق السيارات المصرية، وكل فئة من الوكلاء تتفق مع إحدى طبقات المجتمع الثلاث التي ذكرناها من قبل. فقد قام وكلاء سيارات مثل Jaguar، و Land Rover، و BMW بتخفيض أسعار السيارات التي يقومون بتوزيعها، وهي سيارات أوروبية تخضع لاتفاقية الشراكة، ولكنها سيارات تقبل عليها الطبقة العليا من المجتمع، حيث لا يقل ثمن أي سيارة عن ما يقرب من 750000 جنيه، ويتعدى ثمن السيارة المليون جنية في أغلب الأحيان. في ذات الوقت، أعلنت شركات مثل Renault، Opel، Ford، عن تخفيضات في أسعارها، وهي سيارات يتم تجميعها أو إنتاجها في دول أوروبية، وهي سيارات لديها عدد من النماذج التي تستهدف المستهلكين من الطبقة المتوسطة لطبيعة أسعارها. وفي النهاية، قام وكلاء السيارات الصينية (لاحظ هنا أن السيارات الصينية لا تتمتع بفوائد اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية) بتخفيض أسعار السيارات التي تقوم باستيرادها بمعدل يتراوح بين 11000- 14000 جنيه، وهي سيارات تقبل على شرائها الطبقة المتوسطة الدنيا.
المغزى من هذه التحولات العملية على أرض الواقع يتلخص في نقطتين. الأولى، هي قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على تعبئة المجتمع، وهو استنتاج تم اختباره كثيرا وطالما أثبت صحته. الثانية، هي ضرورة إدراك أن القضايا التي باتت قادرة على إحداث حالة من التعبئة داخل المجتمع المصري، وقادرة على إحداث تحالف طبقي ليست قضايا الحريات أو التحول الديمقراطي، ولكنها قضايا اجتماعية واقتصادية، socio-economic issues، حيث أصبحت هذه القضايا هي الحاكمة لأبعاد المجال العام في الفترة الراهنة.
هناك عدد من الدلالات المهمة أيضا لنجاح الحملة. أولها، أنه بات هناك توجه واضح من قبل المجتمع المصري لمكافحة الغلاء من خلال العمل الجماعي، وهي أرضية تختلف تماماً عن الأرضيات الحقوقية، وأرضيات التحول الديمقراطي التي شهدها المجتمع المصري في سياق السنوات الماضية فيما يتعلق بالعمل الجماعي، أو بدور وسائل التواصل الاجتماعي. ثانيها، أن هناك إدراك مجتمعي بواقع جشع وكلاء وتجار السيارات دون سبب مقنع، وهو ما أدى إلى زيادة أعضاء الحملة لما يتعدى المليون. ثالثها، أن هناك تحولات قانونية وإجرائية في سوق السيارات في مصر، وهو ما من شأنه التأثير على الأسعار من ناحية، والتأثير على حركة العرض والطلب من ناحية أخرى. لذا، يشهد مجال بيع السيارات في مصر عددا من التحولات المؤسسية والمجتمعية، وكان لوسائل التواصل الاجتماعي دوراً رئيساً في تبلور هذه التحولات لمصلحة المواطن.
قد تكون السيارات إحدى السلع التي تحظى باهتمام نسبة محدودة من الشعب المصري وفقاً للتصنيف الطبقي، لكن نمط تلاحم الطبقات وقدرتها على إحداث تغيير في صناعة القرار هو أحد أهم مكاسب حملة خليها تصدي. وعملية إحداث التغيير المجتمعي هي في الحقيقة غير مرتبطة بالسياسة، ولكنها مرتبطة بقضايا يومية يواجهها المواطن المصري، قد تكون أكثر بساطة في مغزاها بالمقارنة بالقضايا السياسية، لكنها مما لا شك فيه أكثر تأثيراِ في حياة المواطن المصري اليومية، وتلك هي النقطة الأهم.