محمد جمعة

باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يُعد حادث إطلاق النار على مسجدين في مدينة "كرايست تشيرش" في نيوزيلاندا، في 15 مارس 2019، واحدًا من بين أكثر الحوادث الإرهابية فتكا على مستوى العالم، وأخطر هجوم إرهابي وقع في تاريخ نيوزيلندا، وهي الدولة التى لم تشهد أي عمل إرهابي بمثل هذا التعقيد وهذه الضخامة من قبل (وفقا لمؤشر الإرهاب العالمي 2018، تحتل نيوزيلاندا الترتيب رقم 114 من أصل 138، أي أن مستويات الإرهاب هناك قليلة للغاية أو تكاد تكون معدومة). ويسلط الحدث ضوءا كاشفا على عنف وإرهاب اليمين المتطرف في الغرب الذي يتقدم الصفوف حاليا، وربما سينافس في خطورته على الغرب -في مدى قريب- إرهاب حركات السلفية الجهادية.

والشاهد أنه بينما تنمو الحركات السلفية الجهادية داخل الدول الغربية بين الفئات الأكثر تهميشا هناك، لا تقتصر المواقف اليمينية المتطرفة على هوامش المجتمع، ولكن يمكن العثور عليها بشكل متزايد ضمن مكونات التيار الرئيسي هناك. كذلك بينما تواجه العناصر السلفية الجهادية القادمة من الشرق الأوسط صعوبات في دخول دول غربية لتنفيذ عمليات إرهابية ضخمة، لا تواجه عناصر اليمين المتطرف صعوبات تذكر للسفر إلى أي مكان اختاروه موقعا كي يضربوا ضربتهم ضد من يعتبرونهم "أعداء" وعلى رأسهم المسلمين. أيضا، هناك صعوبة شديدة في الفصل بين أحزاب اليمين التي تعمل بشكل مشروع وتكتسب كل يوم زخما جديدا في بلادها، والعناصر اليمينية المتطرفة التي أسست -بفضل تقدم تقنيات التواصل عبر الإنترنت وسهولة الانتقال من بلد لآخر- شبكة من النظراء والأنصار والمؤيدين عابرة للقوميات بحق، والتي عادة ما تبدأ نشاطها اليميني بالمرور على هذا الحزب اليميني أو ذاك، وتتغذى على خطابات يمينية يشكل العداء للأجانب، ورفض الأقليات والتعددية الثقافية، والدفاع عن هوية إثنو-قومية موحدة وعن التقاليد القومية التاريخية، والدعوة للحد من الهجرة، القاعدة المشتركة بين كافة تياراتها.

ولتفكيك هذه الظاهرة بغرض الفهم ودراسة تأثيراتها وتداعياتها في المستقبل، ربما يتعين الإجابة على عدد من التساؤلات تتعلق بماهية الجماعات اليمينية المتطرفة؛ وصور تجلياتها الحركية، والأسباب السياسية والمجتمعية لصعودها؛ وأخيرا الاستجابات المتصورة لمجابهة مخاطرها.

أولا: ماهية الجماعات اليمينية المتطرفة في الغرب

وفقا للشرطة الأوروبية (اليوروبول) فإن الجماعات الإرهابية اليمينية المتطرفة هي تلك التي "تسعى إلى تغيير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي بأكمله وفقًا لنموذج يميني متطرف"[1]. أما التطرف اليميني فهو مفهوم أوسع بكثير يشمل مجموعة متنوعة من الجماعات ذات الإيديولوجيات المختلفة، والتي تتراوح بين: عصابات الشباب الأقل أيديولوجية، إلى الخلايا الإرهابية النازية الجديدة، إلى الناشطين المناهضين للإسلام، والأحزاب المسجلة التي تسعى إلى التغيير من خلال النظام السياسي نفسه. ومع ذلك، هناك بعض السمات المشتركة بينها، وهي: العنصرية، وكراهية الأجانب، والقومية المتطرفة، والسلطوية[2].

وقد قدرت بعض الدول أنه بات لديها أعداد أكبر من مؤيدي اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة. ففي ألمانيا، قدرت المخابرات الألمانية الفيدرالية Verfassungschutzأن عدد المتطرفين اليمينيين في عام 2013 بلغ ما يقترب من 22 ألف عنصر، بما في ذلك حوالي 9500 متطرف يميني ممن يحتمل أن يكونوا عنيفين. أما في السويد، فمن المعروف أن هناك ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف متطرف يميني ناشط، مقارنة بأقل من 200 شخص في النرويج والدنمارك. وقد شهدت مسيرة يوم الاستقلال الوطني في بولندا، والتي يخرج فيها عدد كبير من المؤيدين لليمين المتطرف، أكبر نسبة إقبال في عام 2013 بمشاركة 66 ألف شخص في وارسو بحسب تقديرات الشرطة. وشهدت بلدان مثل بولندا ارتفاعًا في جرائم الكراهية بنسبة 25% خلال الفترة من 2009 وحتى 2012.[3]

وعلى الرغم من أن التطرف اليميني غالباً ما يكون متجذرًا في السياقات والقضايا المحلية، فإن له أيضًا عناصر وتأثيرات تتخطى الحدود الوطنية بحيث تطال الساحات الغربية عموما. إذ تتشابه الأساليب من بلد لآخر بشكل ملحوظ. ففي عصر يزداد فيه الاتصال بالإنترنت، أصبحت هذه الاتجاهات أكثر شيوعًا. على سبيل المثال، كثيرا ما تنتقل الاتجاهات التي تولد في ألمانيا إلى الجمهورية التشيكية، ويمكن أن نشاهدها لاحقًا في سلوفاكيا (كما هو الحال مع حركات "القوميين المستقلين"). وقد لاحظ بعض الخبراء في النرويج أن حركة النازيين الجدد النرويجيين أصبحت أكثر تنظيماً نتيجة للإلهام والمساعدة من اليمين المتطرف السويدي.

ثانيا: من هم عناصر اليمين المتطرف؟

بشكل عام، يوجد أربعة أنواع من التطرف اليميني في الغرب. الأولى، هي "مجموعات الشباب" و"دعاة تفوق الجنس الأبيض" وجماعات حليقي الرؤوس. الثانية، هي الخلايا الإرهابية والذئاب المستوحدة. الثالثة، هي الحركات السياسية والجماعات شبه العسكرية. وأخيرا، الحركات النازية ودعاة الهوية "الإثنو – قومية" الموحدة والحركات المعادية للإسلام.

وعلى الرغم من أن هذه الفئات تتمايز فيما بينها، لكن مع ذلك ثمة تداخلات بينها. وهم يشكلون معًا ما يمكن تسميته بــ "قمة الجبل الجليدي"، أي العناصر المتطرفة البارزة والمتجذرة في البنية التحتية المعقدة، أى ذات الصلة بالتاريخ، والسياق الاجتماعي الاقتصادي، والمواقف العامة، والتطور السياسي لكل بلد[4].

1- مجموعات الشباب و"دعاة تفوق الجنس الأبيض" و"مجموعات حليقي الرؤوس"

هذه الفئة هي مجموعات متنوعة للغاية. وغالبًا ما تكون عصابات الشباب محلية، وتتألف من الشباب (دون سن 18 عاما)، وينخرطون في ممارسات الغرض منها مضايقة واستفزاز الأفراد والشركات المحلية التي يعتبرونها نشاذا على الثقافة القومية. وتتكئ هذه المجموعات غالبًا على تصورات بسيطة وسطحية حول العنصرية، أكثر ما تتكئ إلى أيديولوجيات متبلورة. وقد تتحد حول الرموز اليمينية المتطرفة الشعبوية، والتي قد لا يعرف بعض المنخرطين في هذه الجماعات حتى تاريخها أو معانيها. وغالبًا ما تكون الفترة التي يقضيها الشاب أو المراهق منخرطا في مثل هذه الأنشطة قصيرة.

أما فيما يتعلق بفئة "دعاة تفوق الجنس الأبيض" فهي أيديولوجية تدعو إلى تعريف الهوية الوطنية لصالح أصحاب البشرة البيضاء، وهي متجذرة في فكرة الإيمان بسيادة العرق الأبيض والنقص في جميع الأجناس الأخرى. وتشير بعض الدراسات إلى أنه يوجد في كل بلد غربي، تقريبا، حركة صغيرة تدعو إلى تفوق الجنس الأبيض أو حركة نازية جديدة[5]. ولا تزال تلك الحركات هي الأكثر ثباتًا، وتتمدد دوليا باضطراد مستمر. وعلى الرغم من أن هذه الحركات قد تكون صغيرة وضعيفة محليًا، إلا أن عناصرها قد يكونون جزءًا من شبكة تربطهم عالميًا. وغالبا ما تتشابك وتتداخل هذه الحركات مع حركات أخرى، بما في ذلك "حليقو الرؤوس"، ومجموعات مشاغبين كرة القدم، ومشجعو موسيقى "بلاك ميتال".

2- الخلايا الإرهابية والذئاب المستوحدة

تشمل هذه الفئة الأفراد والمجموعات الصغيرة التي تقوم بأعمال عنف متعمدة، بدافع من أيديولوجيات يمينية متطرفة. وقد يكون الأفراد مرتبطين بمجموعات، أو مروا عبر عدد من المجموعات في مسارهم الإيديولوجي. على سبيل المثال، كان "أنديرز بيهرينج بريفيك" – سيأتى ذكره لاحقا - ذئبا منفردا مر عبر العديد من الأحزاب والحركات السياسية ودعمته شبكة من الإيديولوجيين والمدونين على الإنترنت، قبل أن يقوم بأكبر عمل إرهابي يميني في أوروبا منذ عقود، أسفر عن سقوط مئات القتلى والجرحى. وقد تشكل مجموعات صغيرة من الأفراد خلايا إرهابية قد تكون مستقلة أو مرتبطة بطريقة أو بأخرى بتنظيمات أوسع. وتُعد جماعة "الاشتراكية القومية السرية" National Socialist Underground-وهي جماعة إرهابية ألمانية يمينية متطرفة تم الكشف عنها في عام 2011- مثالًا رئيسيًا على خلايا تعمل دون أن يتم اكتشافها منذ عقود، لتنفذ منذ نشأتها وحتى الكشف عنها سلسلة من عمليات قتل المهاجرين والسطو على البنوك والتفجيرات.

3- الحركات السياسية والجماعات شبه العسكرية

تتزايد هذه الحركات في شرق ووسط أوروبا، وغالبا ما تتحالف مع حركات وأحزاب سياسية. ففي بولندا وسلوفاكيا تم تصميمها على غرار "الحرس المجري" الذي تم حله من قبل محكمة بودابست في عام 2009. وتدعي هذه الميليشيات المدنية الدفاع عن السكان في ظل ما تزعم أنه "غياب" لأي شكل من أشكال الدفاع من جانب الحكومة. بالإضافة إلى ذلك، تشير إحدى الدراسات إلى أنه جرى تدريب شبه عسكري في كل بلد أوروبي تقريبا بواسطة مجموعات صغيرة من الأفراد (غالبًا لا تزيد عن 10 - 15 شخصًا) ضمن إطار أنشطة اجتماعية غير رسمية أو معسكرات منظمة[6].

3- الحركات النازية ودعاة الهوية "الإثنو – قومية" الموحدة والحركات المعادية للإسلام

تعتبر حركات الدفاع عن السكان الأصليين والمناهضة للإسلام هي الشكل الأكثر  تطوراً وحداثة داخل طيف اليمين الأوروبي المتطرف، وهي تقوم أساسا على أفكار أهمها الحفاظ على الهوية العرقية والثقافية، ومعارضة الهجرة والتعددية الثقافية. وتدعو هذه الحركات إلى الدفاع عن القيم الغربية أو القومية ضد العديد من "الأعداء" والمتسللين، والتي قد تشمل طالبي اللجوء، والمسلمين، وأولئك الذين يدافعون عن التعددية الثقافية. وهناك حركات من هذا النوع متجذرة في فرنسا وهولندا وألمانيا ودول الشمال. وقد اكتسبت الحركات المعادية للإسلام زخماً بعد 11 سبتمبر، وترتبط ببعضها بعضا عبر أوروبا وأمريكا الشمالية. وينخرط أيدولوجيون بارزون مناهضون للإسلام مثل باميلا جيلار وروبرت سبنسر في حوار عبر الحدود، ويعملون على إقامة شراكات مع مجموعات أوروبية مثل مجموعة "أوقفوا أسلمة أوروبا"[7].

ويوضح الجدول التالي الأنشطة الرئيسية لحركات اليمين المتطرف.

جدول رقم (1): أنشطة اليمين المتطرف

النشاط

تجليات النشاط

جرائم كراهية، تخريب وشغب متقطعة

- التسكع والتحرش بأصحاب المتاجر وأفراد المجتمع.

- الاعتداء الجسدي ضد الأقليات، مثل الاعتداء والبصق

- تدنيس المقابر اليهودية والمساجد.

- رسم جرافيتي على الحوائط تصور عبارات ورموز يمينية متطرفة.

- مشاحنات عنيفة مع مجموعات تدعم الأيديولوجيات البديلة أو المضادة.

- ممارسة الشغب في مباريات كرة القدم.

تظاهرات في الشوارع

- هتافات عنصرية أو تنطوي على كراهية للأجانب، غالباً تحت تأثير الكحول.

- "فرز" مجموعات أصغر من المتظاهرين كي يرتكبوا أعمال عنف أثناء التظاهرات (غالباً ما تؤثر على المجتمعات المحلية أكثر من التظاهرات نفسها)

- الترويج للأدب العنصري أو التحريضي أو فيديوهات تحريضية لإذكاء التوترات بين المجتمعات.

- الحضور الدولي، غالبا في التجمعات السنوية لليمين المتطرف.

- احتلال المساحات العامة أو المباني الرئيسية (مثل المكاتب الحكومية).

- استعراض لافتات أو أعلام مثيرة للاستفزاز.

- اشتباكات عنيفة مع المتظاهرين المضادين.

- الحشد عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت وفي الواقع.

تكتيكات الصدمة

- تعبئة سريعة وعفوية للنشطاء للخروج في احتجاجات أو تظاهرات (يصعب على أجهزة إنفاذ القانون اكتشافها أو السيطرة عليها).

- غالبًا ما يتم تنزيل مقاطع فيديو بالممارسات وتحميلها على YouTube، حيث يمكن أن تنتشر بسهولة وتكون بمثابة مصدر إلهام للآخرين.

- تصوير الحشود المشاركة في الأحداث أو في منشآت عامة للحصول على أقصى تغطية إعلامية.

- تقديم محتوى ممتع ومثير للشباب والأعضاء الجدد.

خطاب كراهية وتحريض

- خطاب كراهية وتدوينات استفزازية وتحريضية على مواقع تدوين شعبية أو المنتديات.

- استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمضايقة عناصر من داخل المجتمع على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الثقافة والإساءة إليهم.

- تحميل الصور والفيديو الاستفزازية أو المثيرة للجدل التي تستهدف دين أو ثقافة أخرى.

- نشر مواد تدريبية وتعليمات إرشادية لتنفيذ أعمال العنف.

- الاستخدام التلقائي لعبارات عنصرية ضد الأجانب أو تمييزية ضد أفراد في الشارع.

- خطاب الكراهية المخطط له والمقصود من قبل قادة سياسيين ومشاهير وقادة الحركات.

تدريب شبه عسكري

- نشاط اجتماعي غير رسمي (ممارسة مستهدفة).

- معسكرات تحفيز في أماكن نائية.

- التدريب على تقنيات قتال عسكرية متقدمة والتعرف على الأسلحة الآلية.

- تشكيل مجموعات حراسة أهلية ونشرها بحيث تكون واضحة للعيان (غالبًا ما يرتدون الزي الرسمي) في المناطق ذات الوجود الكبير لـ" العدو "المتصور (أي المهاجرين وطالبي اللجوء).

إرهاب متعمد

- قنابل حارقة، مولوتوف، قنابل ومتفجرات تُستخدم ضد الحكومة والأقليات والنشطاء اليساريين وغيرهم من "الأعداء"، غالبًا بهدف إشعال حرب عرقية أو إرسال رسالة خوف ورعب.

- حملات إطلاق النار ضد أهداف تابعة لـ"العدو" المتصور.

- تدبير أعمال قتل تستهدف مكافحي اليمين المتطرف.

المصدر: بيانات الجدول مترجمة بتصرف من:

Vidhya Ramalingam. "Old Threat, New Approach: Tackling the Far Right Across Europe", op., cit.

 

وتقوم الحركات اليمينية المتطرفة المنظمة أيضًا بقدر كبير من أعمال جمع البيانات وأعمال الاستطلاع. وقد تشمل جمع معلومات عن الغرباء الذين يتعاملون مع الحركة، مثل مسؤولي الشرطة والعاملين في المجال الاجتماعي. وفي كثير من الحالات، يتم توزيع أسماء وتفاصيل عن "الأعداء" (مثل النشطاء اليساريين أو السياسيين المحليين أو قادة الأقليات) عبر الإنترنت.

وتوفر الجماعات اليمينية المتطرفة أيضًا أنشطة اجتماعية للشباب (والبالغين في بعض الحالات) مما يجعلهم عرضة للتأثر بنظام معتقداتهم. وقد أشار البعض في بولندا إلى أن اليمين المتطرف (مرتبط بشكل خاص باتحادات كرة القدم) ينظم أنشطة خدمية للمجتمع، ويجمع التبرعات ويقدم الرعاية الاجتماعية للمحرومين في المجتمع.

أخيرًا، فإن اليمين المتطرف في أوروبا بارع أيضًا في التسويق والترويج. سواء من خلال أساليب تسويق حرب العصابات لجذب الأفراد دون الاتصال المباشر (مثل الملصقات والنشرات والمنشورات والمجلات والإعلانات)، وتنظيم حفلات موسيقية، وبيع الأدب والموسيقى والبضائع، أو الاتجار غير المشروع بالأسلحة والمواد والسلع الأخرى.

ثالثا: السياق الاجتماعي والسياسي لنشأة اليمين المتطرف

يتفاعل اليمين المتطرف داخل سياقات اجتماعية وسياسية يمكن أن توفر في بعض الحالات بيئة أكثر خصوبة لازدهاره وانتشاره، أو قد تشكل حواجز أمام نجاحه. وهناك ثلاثة معايير رئيسية هي الأهم في هذا السياق: موروثات الحرب العالمية الثانية والنظام السوفيتي، وتاريخ الهجرة والتغير الديموغرافي، والاتجاهات العامة الأوسع.

1- ميراث الحرب العالمية الثانية والنظام السوفيتي

صاغت تجارب وذكريات الحرب العالمية الثانية بعمق قصص اليمينيين المتطرفين الحديثين، وكذلك الطريقة التي يتعامل بها الجمهور الأوسع معهم. ففي البلدان التي كانت لديها حركات مقاومة قوية خلال الحرب العالمية الثانية، مثل النرويج والدنمارك وهولندا، فإن الوصمة الاجتماعية ضد النازية التقليدية والجديدة كانت ولا زالت قوية. ومع ذلك، حتى في البلدان التي تعاني من حساسية مفرطة ضد أشكال وتجليات اليمين المتطرف، قد تكون هناك مستويات عالية من المشاعر المعادية للمهاجرين. وفي هذه البلدان، قامت الحركات القومية والمناهضة للإسلام بصبغ أيديولوجياتها بطابع نضالي، على سبيل المثال من خلال المقارنة بين دور الإسلام في المجتمعات الغربية، والاحتلال النازي.

2- تاريخ الهجرة والتغير الديموغرافي

أيضا تلعب الهجرة والديموغرافيا دورًا كبيرا، إذ تتميز بلدان مثل المملكة المتحدة والسويد وألمانيا وهولندا بتاريخ طويل من الهجرة، وتميل إلى مستويات أعلى من التنوع العرقي والديني. في هذه الحالات، غيرت الجماعات اليمينية المتطرفة أهدافها بشكل كبير على مر العقود من المجموعات المستهدفة "الكلاسيكية" (مثل المجتمعات اليهودية والسود والآسيويين) إلى المجتمعات الإسلامية والغجر وحتى أوروبا الشرقية. أما في بلدان متجانسة إلى حد كبير مثل المجر وسلوفاكيا، مع عدد صغير من المهاجرين وعدد كبير من الغجر، فيتعرض الغجر للتهميش والتمييز، ويعيشون في ظروف اجتماعية- اقتصادية سيئة، ويتم تمثيلهم بشكل مفرط في إحصاءات البطالة والجريمة.

والملاحظ أن أكثر الخطابات والسلوكيات تطرفا تجاه المهاجرين الأجانب، هي تلك الموجهة ضد المهاجرين المسلمين والإسلام من خلال برنامج سياسي يركز على إشاعة الخوف والسلبية تجاه المسلمين في المجتمعات الغربية، وتقديم صورة "الآخر" (الإسلام) بوصفه عقيدة جامدة، متطرفة، قمعية، تحمل العداء للغرب.

هذا الموقف نتلمسه بشكل مباشر وصريح في برامج بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية المتطرفة مثل؛ الجبهة الوطنية الفرنسية؛ الحزب النمساوي اليميني الشعبي؛ الحزب الدنماركي التقدمي؛ والحزب اليميني الشعبي الدنماركي[8].

3- الاتجاهات العامة الأوسع

في جميع أنحاء أوروبا لا تقتصر المواقف اليمينية المتطرفة على هوامش المجتمع، ولكن يمكن العثور عليها بشكل متزايد في التيار الرئيسي. ولقد عززت البحوث التي أجريت عن اليمين المتطرف في أوروبا حقيقة أن النشطاء اليمينيين المتطرفين هم في كثير من الحالات "أشخاص عاديون تمامًا، مندمجون اجتماعيًا، مرتبطون بطريقة أو بأخرى بالمجموعات والأفكار السائدة". وقد انتهت إحدى الدراسات إلى أن أجزاء كبيرة من السكان (31٪) ستشعر "بالضيق الشديد" من وجود مؤسسة إسلامية في مجتمعهم، وأنه من المرجح أن يدعم 37٪ من الناخبين حزبًا وعد بخفض أعداد المسلمين في البلاد. وفي أوروبا الوسطى والشرقية، أظهرت الأبحاث مستويات عالية من الدعم الشعبي للإيديولوجيات اليمينية المتطرفة؛ ففي المجر أشارت دراسة إلى  أن أكثر من 80٪ من الشباب لن يجلسوا بجوار أحد أطفال "الغجر" في الفصل الدراسي[9].

ومع ذلك، فإن المزيد من الانفتاح المجتمعي على الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة لا يُترجم بالضرورة إلى قدرة أكبر على ممارسة العنف ذي التأثير الكبير. ففي المجتمعات التي تكون فيها الإيديولوجيات اليمينية المتطرفة مقبولة بشكل علني، مثل بولندا والمجر وسلوفاكيا، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن الحركات اليمينية المتطرفة قد تمارس المزيد من السيطرة على مؤيديها. وهذا يعني أنه قد تحدث جرائم كراهية وتحريض بشكل أكبر، ولكن سيكون هناك ميل أقل نحو ارتكاب أعمال إرهابية. أما في الأماكن التي تكون فيها الحركات اليمينية المتطرفة غير مقبولة علنًا ويتم الدفع بها تحت الأرض، فقد يعني ذلك أن هناك خطرًا أكبر من احتمال تخطيط الأفراد والمجموعات الصغيرة لأحداث ذات تأثير كبير لمواجهة القمع السائد لإيديولوجياتهم.

أخيرا، فإن اليمين المتطرف أعاد اختراع سياسة مناسبة للوضع في القرن الحادي والعشرين، وعلى عكس قادة المجتمع والقادة السياسيين الرئيسيين، فإنهم يتمتعون بالمرونة والقدرة على الحركة مع الزمن. ويمكنهم الاستفادة من التكنولوجيات الحديثة.

والملاحظ أن الهجمات الإرهابية التي شنها يمينيون متطرفون قد زادت بشكل كبير خلال العقد الماضي. فخلال الفترة (2007- 2011) كان عدد هجمات اليمين المتطرفة في الولايات المتحدة خمسة أو أقل في السنة. ثم ارتفع عدد الهجمات إلى 14 في عام 2012، ثم قفز في النهاية إلى 31 في عام 2017. أما في عام 2018، فقد شهدت الولايات المتحدة المزيد من الهجمات من هذا النوع. ففي 27 أكتوبر 2018، قتل روبرت باورز 11 شخصًا في معبد "تري أوف لايف" اليهودي في بيتسبرج بولاية بنسلفانيا. وكان هذا الشخص يتبنى وجهات نظر معادية للمهاجرين ومعادية لليهود وروج لهذه الأفكار على شبكة "جاب" GAP، وهي شبكة تواصل اجتماعي تبنتها القوميات البيضاء. وقبل يوم واحد من هذا الحادث، أرسل سيزار سايوك، الذي كان مدفوعًا بوجهات نظر عنصرية ومعادية للسامية، مجموعة من الطرود المفخخة، تضمنت  16 قنبلة بدائية، إلى قادة أمريكيين بارزين.

وفي الوقت نفسه، زادت الهجمات التي ينفذها يمينيون أيضًا في أوروبا: من صفر هجمات في عام 2012 إلى 9 هجمات في عام 2013؛ 21 في عام 2016 ، 30 في عام 2017. وبحسبما أقر مفوض أمن الاتحاد الأوروبي -السير جوليان كين- فإنه لا توجد دولة عضو واحدة في الاتحاد الأوروبي لم تتأثر بشكل أو بآخر بالتطرف اليميني العنيف[10].

رابعا: إرهاب يميني سري وذئبقي في الغرب

على ضوء ما سبق يمكن القول إن الديمقراطيات الغربية تواجه خطرا من الصعب تلافيه أو التعامل معه لسببين على الأقل. فمن ناحية، تكون معظم الهجمات عفوية، ويتم تنفيذها على يدي فاعلين غير منظمين من اليمين المتطرف، وغالبًا ما تكون تحت تأثير الكحول أو المخدرات. والأسلحة الأكثر شيوعًا في الهجمات من هذا النوع هي السكاكين والعصي وقضبان الحديد. وعادة لا يتم تعريف مثل هذه الهجمات بأنها إرهابًا.

من ناحية أخرى، فإن معظم الهجمات الواسعة النطاق التي تتسبب في خسائر متعددة ترتكبها ذئاب مستوحدة أو خلايا مستقلة صغيرة. هذه الهجمات نادرة الحدوث، وعادة ما تكون متعمدة، وتستخدم الأسلحة النارية والمتفجرات. وعلى الرغم من أن الجناة عادة ما يهاجمون أهدافًا مماثلة، فإنهم يعملون بمعزل عن بعضهم البعض دون اتصال مباشر أو تعاون رسمي بينهم. لكن هذا لا يعني أن هذه الذئاب المستوحدة والخلايا المستقلة لا تستلهم من بعضها البعض.

ففي البيان الذي نشره إرهابي كرايست تشيرش، ذكر أن النرويجي أندريز بيهرينج بريفيك هو مصدر الإلهام الحقيقي الوحيد له. وكان بريفيك في 22 يوليو 2011 قد فجر قنبلة تزن 2100 رطلا في حي الحكومة النرويجية في قلب أوسلو، أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص، قبل أن يبدأ بإطلاق النار وقتل 69 شخصا في أوتويا، وهي جزيرة صغيرة تبعد مسافة 25 ميلا من العاصمة. وأصيب 158 شخصًا بجروح خطيرة في الهجمات. وتم اختيار أهدافه من ممثلي الحكومة وأعضاء جناح الشباب في حزب العمل الحاكم، بوصفهم من "الخونة الماركسيين"، الذين سهلوا عمداً "غزو المسلمين" للنرويج[11]

وكان الهجوم الإرهابي لبريفيك فريدًا من نواحٍ عدة. فإلى جانب ارتفاع عدد القتلى، كان واحدا من الحالات القليلة التي يكون فيها مرتكب الجريمة متطرفًا مستوحدا تمامًا واندفع إلى التطرف عبر الإنترنت. كما أنه كان الهجوم الإرهابي اليميني المتطرف الوحيد بهذا القدر من التعقيد الذي وقع في العقود الثلاثة الماضية والذي يجمع بين المتفجرات والأسلحة النارية. ويبدو أن هذه السمات يتقاسمها أيضا منفذ هجوم كرايست تشيرش، الذي حمل متفجرات في إحدى سياراته، ويبدو أنه اندفع أيضا نحو التطرف عبر الإنترنت دون التفاعل مع جماعات اليمين المتطرف المنظمة.

النقطة الخطيرة أيضا أن إرهابي "كرايست تشيرش" في نفس البيان، يدعي أيضًا أنه اتصل "بفرسان تمبلار الجدد " ليباركوا الهجوم (كانت منظمة فرسان تمبلار Knights Templarمنظمة إرهابية خيالية أنشأها بريفيك عمداً لإلهام هجمات في المستقبل).[12]

ومن المبكر جدا بالطبع الجزم بما إذا كانت فرسان تمبلار Knights Templar قد ولدت بالفعل من جديد، أو ما إذا كان هناك أعضاء أو خلايا أخرى، كما يوحي إرهابي كرايست تشيرس Christchurch. ولكن إذا كان هذا صحيحًا، فسيكون هذا تطورًا غير مسبوق في التاريخ الحديث للإرهاب اليميني، بمعنى أن مثل هذه الشبكات الإرهابية العابرة للقوميات لم تكن موجودة منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. بعد أن تم الكشف عما تسمى بشبكة "الأوركسترا السوداء"، التي كانت مقرها في إيطاليا، لكنها تلقت التدريب والدعم في البرتغال.

ومثل بريفيك، تحدث إرهابي كرايست تشيرش في بيانه مع نفسه، شارحا دوافعه واستعداداته وتفضيلاته الأيديولوجية. على وجه الخصوص، يبرر قتل الأطفال، بحجة أن "أطفال الغزاة لا يبقون أطفالًا، فغدا يصبحون بالغين ويتكاثرون، ليوجد المزيد من الغزاة ليحلوا محل شعبك". ولم يبرر بريفيك مطلقًا قتل الأطفال في بيانه الخاص، ولكن 33 من ضحاياه في أوتويا، الجزيرة التي نفذ فيها الهجوم الثاني، تقل أعمارهم عن 18 عامًا.

وبالنظر إلى أن إرهابي كرايست تشيرش استهدف المساجد والمسلمين بدلاً من الأطفال البيض، فقد ينتهي به الأمر بحيازة مكانة أكبر داخل الحركة السرية أكثر من بريفيك. وفي الواقع، هناك بالفعل دلائل منشورة على العديد من منتديات اليمين المتطرف بأن هناك من القراء من يدعمون الهجمات.

والملاحظ بحسبما يشير محللون غربيون أن عدد الأحداث المميتة التي تحركها معتقدات اليمين المتطرف أعلى بكثير من تلك التي يحفزها التطرف الإسلامي. ولكن التهديد اليميني يتسم بطابع سري وغير منظم بشكل أساسي، وبالتالي يحتاج صناع السياسة إلى معرفة المزيد عن سبب انجذاب بعض الناس إلى هذا العالم المظلم.

خامسا: صعود اليمين المتطرف في نيوزيلاندا

اكتسب الحراك اليميني المتطرف في نيوزيلاندا زخما في الفترة الأخيرة، بحيث يمكن القول إنه بات لمنفذ أو منفذي هجوم "كرايست تشيرش" أنصار ومؤيدون يمكن أن يستلهموه وينفذوا أعمالا مماثلة داخل نيوزيلاندا أو خارجها. ففي الثاني من فبراير 2019، خرج المئات من النيوزيلانديين في مسيرة ضد اتفاقية الهجرة التي ترعاها الأمم المتحدة تحت ستار منظمة جديدة تطلق على نفسها اسم "السيادة لنيوزيلندا". وتبشر المجموعة الجديدة بقضية مركزية نشرت حولها إعلانات في الصحف النيوزيلاندية، تتعلق بدعم حكومة نيوزيلندا للاتفاق العالمي بشأن الهجرة. وكانت المعارضة للاتفاقية قد ظهرت لأول مرة في مواقع مثل موقع بريتبار اليميني المتطرف وموقع "ديلي ستورمر" التابع لحركة النازية الجديدة الذي حذر من أنها "ستجلب 60 مليون ملون إلى أوروبا".[13]

ويشير "بول سبونلي" -وهو نائب رئيس كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ماسي- والذي قضى عقودا يدرس الهجرة والهوية في نيوزيلندا، في مقال مهم له تحت عنوان "دليل المبتدئين لليمين المتطرف"، نشره في صحيفة هيرالد نيوزيلاندا New Zealand Herald أنه يرى أن هناك دائرتين محتملتين لمؤيدي اليمين المتطرف في نيوزيلندا: الأشخاص الساخطين وأصحاب العقلية التآمرية[14].

وفي حين أن معظم اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا مدفوعون في الأغلب الأعم بأسباب اقتصادية، يعتقد بول سبونلي أن اليمين المتطرف في نيوزيلندا قد يكون مدفوعًا بالمخاوف الاجتماعية حول التعددية الثقافية وفقدان الهيمنة التقليدية للذكر الأبيض. ويقول سبونلي إن هناك أشخاصًا في نيوزيلندا يشعرون بالحرمان الشديد من حقوقهم، وأنهم يشعرون كما لو أن التركيز على التعددية الثقافية الليبرالية المعاصرة هو شيء  يهدف إلى استبعادهم. بينما تعج خطابات اليمين المتطرف بلغة "إسلاموفوبيا" قاسية[15]

وعلى الرغم من أن العدد الإجمالي للمنخرطين في الحراك اليميني المتطرف في نيوزيلاندا لا يزال صغيراً، فقد اندمج العديد منهم عبر الإنترنت في عدد من مجموعات فيسبوك المترابطة. في هذه المجموعات يتشاركون المقالات الإخبارية من مصادر هامشية، ويشعرون بالقلق من "الغزو الإسلامي" القادم، خاصة بعد توقيع اتفاقية الأمم المتحدة للمهاجرين. على سبيل المثال، في مجموعة "السترات الصفر" في نيوزيلاندا، وهي مجموعة على موقع "فيسبوك" يديرها جزئياً جيسي أندرسون، زعيم حركة "السيادة لنيوزيلندا" يكشف بحث بسيط عن دعوات لحظر الإسلام في نيوزيلندا.

ويقدم منشور آخر خطابا أكثر تطرفا، إذ يكتب أحد المعلقين "بوريروا حيث أعيش هي مدينة للمهاجرين بما في ذلك نيوتاون في ولنجتون". "ادمج ذلك مع أكثر من 9 مساجد في أوكلاند. جزئياً هنا و99٪ من طعامنا حلال بموجب الشريعة الإسلامية". ويحذر من أنها "مسألة وقت حتى تتحول نيوزيلندا بالكامل إلى منطقة محظورة"، في إشارة إلى نظرية المؤامرة الشائعة هناك بأن الهجرة الإسلامية في أوروبا حولت بعض المدن إلى "مناطق محظورة".[16]

سادسا: إخراج مسرحي لحادث "كرايست تشيرش" يلهم هجمات أخرى مماثلة

يبدو أن الغرض من حادث "كرايست تشيرش هو تحفيز الآخرين على تنفيذ هجمات مماثلة ضد المسلمين في المقام الأول، ولكن أيضًا ضد أي شخص أو جهة تدعم التعددية الثقافية وسياسات الهجرة العادلة، بما في ذلك جمعيات الإغاثة ورعاية اللاجئين والمنظمات غير الحكومية ورجال الخير ونخبة الأعمال - بغض النظر عن أصولهم العرقية والدينية. فقد نشر "برينتون ترانت" Brenton Tarrantالمقبوض عليه بيانا من 74 صفحة، يتحدث فيه عن دوافعه لتنفيذ الهجوم. وأطلق صفحة على فيسبوك لنشر بث حي للعملية أثناء ارتكابها، واستخدم "كاميرا خوذة" معلقة على رأسه لتصوير الحادث وبثه على الهواء. ويبدو أيضا أن الشبكات والأفراد اليمينيين - بما في ذلك برينتون ترانت- يستخدمون بشكل متزايد الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لإصدار بيانات دعائية وتنسيق التدريب وتنظيم السفر لحضور الاحتجاجات وغيرها من الأحداث، وجمع الأموال، وتجنيد الأعضاء، والتواصل مع المتطرفين الآخرين. واستخدمت الشبكات اليمينية Facebookو Twitter(حيث دونوا منشوراتهم أسفل هاشتاجات مثل #nationalistأو قومي و #ultraright  يمين متطرف) و YouTubeو Instagram، وكذلك مواقع مثل تطبيقات Gabو Voice over Internet Protocolمثل Discord، للتواصل عبر البلدان والقارات. بالإضافة إلى ذلك، تظل مواقع الويب مثل "دايلي ستورمر" Daily Stormerمؤثرة بين العديد من النشطاء من النازيين الجدد والمدافعين عن هيمنة الجنس الأبيض.

أيضا، يسافر المتطرفون اليمينيون بشكل متزايد إلى الخارج لعقد لقاءات وتبادل وجهات النظر مع أفراد مشابهون لهم في التفكير. وقد أتاحت هذه الروابط الأجنبية للجماعات اليمينية المتطرفة فرصة لتحسين تكتيكاتها، وتطوير أساليب أفضل لمكافحة الاستخبارات، وتعزيز وجهات نظرها المتطرفة، وتوسيع شبكاتها العالمية. ويبدو أن جزءا مهما من مسيرة تارانت نحو التطرف العنيف وقعت في بلدان أوروبية مثل فرنسا حيث، كما جادل في بيانه، "كانت الدفعة الأخيرة له في اتجاه التطرف تتمثل في مشاهدته حالة المدن والبلدات الفرنسية." وأشار تارانت إلى أنه بينما سمع عن "غزو فرنسا من قبل غير البيض" غيرت زيارته إلى فرنسا رأيه، إذ يقول: "نعم وصلت إلى فرنسا، وجدت أن القصص ليست صحيحة فحسب، بل إنها أقل بكثير من الواقع".[17]

وبناء على البعد العولمي للتطرف اليميني، يجب فهم هجوم كرايست تشيرش -والمهاجم – بوصفه جزءا من اتجاه دولي متنامٍ يتطلب مزيدًا من الاهتمام والمزيد من الاستثمار من جهة الحكومات والقطاع الخاص.

سابعا: ما الذي ينبغي عمله؟

في البداية ينبغي الإشارة إلى أن عواقب الكلمات قد تكون خطيرة للغاية. إذ إن شيطنة المجتمعات المسلمة -غالبًا من قبل سياسيين يمينيين زعموا أنهم صُدموا بعد هذا الحادث المأساوي- يسهم في الاستقطاب المجتمعي ويلهم العنف. على سبيل المثال قدم البريطاني بوريس جونسون تعازيه وأعرب عن صدمته بعد الهجوم، لكنه كتب في السابق أن النساء اللائي يرتدين البرقع يشبهن "لصوص البنوك". كما زعم السناتور الأسترالي اليميني فريزر أنينج، أن سبب سفك الدماء في شوارع نيوزيلندا اليوم هو برنامج الهجرة الذي سمح للمتعصبين المسلمين بالهجرة إلى نيوزيلندا في المقام الأول. ويبدو أن الإرهابيين يتغذون على هذا الاستقطاب ويسعون إلى تفاقمه.

ولاشك أن أجهزة إنفاذ القانون والمخابرات تحتاج إلى تحويل بعض موارد مكافحة الإرهاب نحو مكافحة التطرف اليميني. لكن التعرف على أفراد مثل برينتون تارانت -مرتكب كرايست تشيرش- لن يكون سهلاً. إذ يعمل الكثير من المتطرفين اليمينيين بمفردهم أو في شبكات صغيرة. وغالبًا ما لا يتحدثون عن مخططاتهم عبر وسائل يمكن اعتراضها أو اكتشافها من قِبَل أجهزة إنفاذ القانون مثل الهاتف أو البريد الإلكتروني، ومع ذلك، فإنها نشطة في وسائل التواصل الاجتماعي.

بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الأجهزة الحكومية إلى العمل عن كثب مع القطاع الخاص -بما في ذلك شركات وسائل التواصل الاجتماعي- لمكافحة التطرف اليميني، مثلما فعلت كثيرًا لمكافحة تطرف السلفية الجهادية. وفي الواقع، مارست بعض الحكومات الأوروبية، بما فيها فرنسا والمملكة المتحدة، ضغطًا كبيرًا بالفعل على شركات التواصل الاجتماعي من أجل تقليل المحتوى الذي يتبنى الإرهاب أو يدعمه بشكل أو بآخر، حتى لو أدى ذلك إلى انتهاك شروط خدمات الشركة. ويتطلب تقييد وصول المتطرفين إلى وسائل التواصل الاجتماعي من الشركات مواصلة تخصيص وقت يعمل فيه الموظفون والموارد الهندسية لاكتشاف هذا المحتوى وإغلاقه.

أيضا ينبغي خلال المرحلة القادمة على المساجد والجماعات الإسلامية، وكذلك المنظمات غير الحكومية والسياسيين الداعمين في جميع أنحاء العالم، مراجعة ترتيباتهم الأمنية وأن يكونوا في حالة تأهب قصوى لاحتمال وقوع حوادث مماثلة. والدرس الذي نتعلمه من هذا الهجوم أن الأهداف اللينة معرضة للخطر على وجه التحديد لأنه من غير المتوقع تعرضها للهجوم، مما يبرز أهمية وجود خطط لمواجهة الهجمات وتنفيذ تدريبات منتظمة على الاستجابة لهذه الحوادث حال وقوعها بشكل فعال.

لقد قطعت العديد دول العالم خطوات كبيرة في مواجهة تهديد القاعدة وداعش. وسيتطلب التهديد الذي يمثله الإرهابيون اليمينيون تقييماً رصيناً ومدروساً بنفس القدر من قبل القادة في جميع أنحاء العالم لمنعه من النمو بشكل أكبر.


[1] Europol, TE-SAT 2013 EU Terrorism Situation and Trend Report", European Police Office, 2003. https://www.europol.europa.eu/activities-services/main-reports/te-sat-2013-eu-terrorism-situation-and-trend-report

[2] Vidhya Ramalingam. "Old Threat, New Approach:Tackling the Far Right Across Europe", Institute for Strategic Dialogue, 2014. https://www.isdglobal.org/ISD_New_Approach_Far_Right_Report.pdf

[3] Ibid.

[4] Diego Muro. "What does Radicalisation Look Like? Four Visualisations of Socialisation into Violent Extremism", Barcelona Center for International Affairs, 2016. https://www.cidob.org/es/publicaciones/serie_de_publicacion/notes_internacionals/n1163/what_does_radicalisation_look_like_four_visualisations_of_socialisation_into_violent_extremism

[5]Vidhya Ramalingam. "Old Threat, New Approach:Tackling the Far Right Across Europe", Op., Cit.

[6] Ibid.

[7]Diego Muro. "What does Radicalisation Look Like? Four Visualisations of Socialisation into Violent Extremism", Op., Cit.

[8] رابح زغوني، "صعود اليمين المتطرف في أوروبا:تعبير عن عداء سياسي أم مجتمعي للإسلام؟"، في: بوستي توفيق (محرر)، الإسلاموفوبيا في أوروبا: الخطاب والممارسة (برلين: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، 2019)، ص 136.

[9] Vidhya Ramalingam. "Old Threat, New Approach:Tackling the Far Right Across Europe", op-cit.

[10] Seth G. Jones. "The New Zealand Attack and the Global Challenge of Far-Right Extremism,Washington D.C., CSIS, 15 March 2019. https://www.csis.org/analysis/new-zealand-attack-and-global-challenge-far-right-extremism

[11] JACOB AASLAND RAVNDAL. "The Dark Web Enabled the Christchurch Killer", Foreign Policy, 16 March 2019.https://foreignpolicy.com/2019/03/16/the-dark-web-enabled-the-christchurch-killer-extreme-right-terrorism-white-nationalism-anders-breivik/

[12] Ibid.

[13] Marc Daalder, "The furious world of New Zealand’s far right nationalists". https://thespinoff.co.nz/politics/02-02-2019/will-the-far-right-movement-rise-in-new-zealand/

[14] Paul Spoonley, "A beginner's guide to the Alt Right", NZ Herald, 7 August 2018. https://www.nzherald.co.nz/hawkes-bay-today/opinion/news/article.cfm?c_id=1503459&objectid=12101943

[15] Ibid.

[16]Marc Daalder, "The furious world of New Zealand’s far right nationalists", Op., Cit.

[17]Seth G. Jones. "The New Zealand Attack and the Global Challenge of Far-Right Extremism", Op., Cit.