عكست التسوية المرحلية فى إدلب، التى لم تكن إيران حاضرة فيها، تغيرا فى حسابات القوى الضامنة لصيغة أستانا بشأن مناطق خفض التصعيد، وهى روسيا وتركيا وإيران. وكشفت أيضا عن حزمة من التفاهمات التى تشير إلى قدر من التغير النسبى فى علاقات تلك الدول بشأن الصراع انطلاقا من إدلب.
فبعد أن استضافت طهرانقمة ثلاثية شاركت فيها روسيا وتركيا فى السابع من سبتمبر 2018، وأنضجت اختلافا واضحا فى الرؤى بين الدول المذكورة بشأن عملية عسكرية واسعة فى إدلب، عُقدت قمة ثنائية روسية تركية بمدينة سوتشى الروسية فى السابع عشر من الشهر المذكور أسفرت عن التوصل لاتفاق بإقامة منطقة منزوعة السلاح بالمدينة، بدأ تطبيقه فى الخامس عشر من شهر أكتوبر 2018. وعُدّ الاتفاق الذى غابت عنه إيران بمنزلة نزع فتيل حرب واسعة النطاق فى إدلب، ولو بصورة مؤقتة ومرحلية.
فى هذا السياق، يمكن تحليل موقف إيران من مستقبل الصراع والتسوية المرحلية فى إدلب عبر تحليل شبكة المصالح والحسابات الإيرانية بشأنها من ناحية، وموقف إيران من اتفاق سوتشى الروسى- التركى فى الشأن نفسه من ناحية أخرى.
أولا: الحسابات الإيرانية فى إدلب
بالرغم من التنسيق الاستراتيجى بين روسيا وإيران تجاه الصراع السورى فى مجمله، فإن سياقات التفاعل بشأن إدلب، وتحديدا منذ انعقاد قمة طهران الثلاثية فى سبتمبر 2018، عكست اختلافا بدت مؤشراته فى تباين الموقف الإيرانى بشأن عملية عسكرية واسعة فى المدينة عن موقف الحلفين الروسى والسورى، واقترابه فى الرؤى من الموقف التركى الداعى إلى تأجيل العملية العسكرية فى إدلب لمصلحة محاولات تجريها تركيا مع فصائل المعارضة المسلحة الموجودة فى المدينة بأطيافها المختلفة لتسليم سلاحها، متعللة بالكارثة الإنسانية التى ستتعرض لها المدينة، على الرغم من تأكيد طهران الدائم على ضرورة إنهاء مختلف أشكال المعارضة المسلحة، وإعادة إدلب كاملة تحت سيطرة النظام السورى، عبر التنسيق مع النظام وروسيا، بغض النظر عن موقف تركيا من مهاجمة المدينة، حتى وإن أدى ذلك إلى إنهاء صيغة أستانا للتعاون الثلاثى المشترك.
يشير هذا السلوك إلى تراجع الاندفاعة الإيرانية بشأن استهداف إدلب عسكريا، مما يعكس استمرار إيران فى قراءتها لخريطة المصالح الدولية بشأن الصراع فى الشمال السورى، فى ضوء متغيرات العلاقة بينها وبين تركيا من ناحية، وبينها وبين الولايات المتحدة، صاحبة الوجود العسكرى فى الشمال السورى، من ناحية أخرى. ويعكس أيضا تقييم طهران لمصالحها فى إدلب، وموقع تلك المصالح فى قائمة أهدافها الاستراتيجية فى سوريا، من ناحية ثالثة.
إيران ترغب فى استكمال خريطة نفوذها العسكرى فى سوريا بما فيها الشمال السورى، لاسيما بعد حالة الخروج الاضطرارى من الجنوب، وفقا لتسويات روسية- أمريكية فى هذا الشأن، لكنها فى الوقت نفسه منطقة تقاسم نفوذ تركية- أمريكية، وبالتالى تختلف حسابات طهران هنا عن حساباتها فى مناطق نفوذها الأقوى كمناطق دير الزور، وحماة، وريف حمص الشمالى التى تؤمن طريق تواصلها من الحدود مع العراق حتى لبنان، وبادية الشام وشمال وجنوب العاصمة دمشق.
من هنا، يأتى تفسير الموقف الإيرانى الذى بدا مترددا بين التعجيل بعملية عسكرية ضد المعارضة فى إدلب، ثم التراجع بعد ذلك لمصلحة دور أكبر لتركيا بشأن مفاوضاتها مع الفصائل المسلحة الموجودة بها، حيث تتراجع الأهمية الاستراتيجية للشمال السورى فى قائمة المصالح الإيرانية.
أرجع البعض ذلك إلى حالة الهدوء التى تسود العلاقات الإيرانية مع تركيا، على أثر الموقف التركى المساند لإيران ضد العقوبات الاقتصادية التى فرضتها الولايات المتحدة بعد انسحابها من الاتفاق النووى الإيرانى بصورة منفردة. وبناء عليه، لا ترغب طهران فى فقدان منفذ لها لتجاوز تداعيات تلك العقوبات، حيث تمثل تركيا والعراق منفذان قويان لإيران فى هذا الشأن.
وبالتالى، لا تسعى إيران إلى الضغط على تركيا فى الشمال السورى، عبر عملية عسكرية فى إدلب ستؤثر فى نزوح العديد من المدنيين للحدود التركية- السورية، فى ظل الأزمة الاقتصادية التى تعانى منها تركيا على وقع تراجع عملاتها الوطنية فى مواجهة الدولار؛ نتيجة لعقوبات أمريكية طالت عددًا من المسئولين الأتراك وبعض المؤسسات الاقتصادية على خلفية أزمة القس الأمريكى أندرو برونسون.
هذا بخلاف تفضيل إيران لدخول أنقرة لإدلب- عبر الضغوط السياسية على المعارضة أو حتى عبر عملية عسكرية منفردة - بدلا من أن تشارك فى عملية عسكرية واسعة تكلفها مزيدًا من الأعباء المادية، فى الوقت الذى لا تمثل فيه إدلب أهمية قصوى لها كأهميتها بالنسبة لتركيا؛ حيث تؤمن الأخيرة بها مناطق نفوذها فى كل من عفرين وإعزاز وجرابلس، لاسيما بعد ترتيب نفوذها فى منبج وفقا لاتفاق بشأن المدينة مع الولايات المتحدة فى يونيو 2018، والذى بمقتضاه انسحب المقاتلون الأكراد -حلفاء واشنطن- إلى شرقى الفرات.
يُضاف إلى ذلك اتجاه إيران فى الفترة الأخيرة، وفى ظل أزمتها الدولية مع الولايات المتحدة، والضغوط الإسرائيلية عليها بشأن وجودها العسكرى فى سوريا، إلى عدم التورط فى مناطق نفوذ استراتيجية لغيرها من القوى داخل الأراضى السورية، بما يحرج الحليف الروسى، ويضيف مزيدا من الأعباء عليه، فقبلت نصيحة روسيا بتركها، لتتولى وحدها سبل الحفاظ على المكتسبات التى حققها تحالفهما داخل سوريا، بدءا من الحفاظ على نظام بشار الأسد، مرورا بالقواعد العسكرية لكل منهما، وصولا إلى القضاء على معظم المعارضة المسلحة، وحماية سوريا من التقسيم.
ثانيا: إيران واتفاق سوتشى
اتساقا مع معطيات الحسابات الإيرانية فى إدلب، السابق ذكرها، جاء ترحيب إيران بعقد اتفاق سوتشى حول المدينة بين روسيا وتركيا فى قمة ثنائية غابت عنها إيران، عُقدت فى السابع عشر من سبتمبر 2018 بمدينة سوتشى الروسية. وبغض النظر عن تفاصيل الاتفاق الذى جنب إدلب عملية عسكرية، تعددت القراءات حول انعكاسات الاتفاق على إيران فى سوريا ونتائجه بالنسبة لها.
فثمة رأى يقول إن الاتفاق يحجم بصورة غير مباشرة من الدور الإيرانى فى الشمال السورى، وتحديدا فى مناطق غرب الفرات، ويعطى الأفضلية لتركيا ولحالة التنسيق الروسية- التركية المتنامية، خاصة أن نص الاتفاق عللا إقامة منطقة منزوعة السلاح على مسافة 15 إلى 20 كيلومتر بدأ تطبيقها فى الخامس عشر من أكتوبر 2018، يعنى ضرورة انسحاب الميليشيات الإيرانية الموجودة فى مناطق تقع على حدود مدينة إدلب، والتى تتولى حماية محافظات الساحل السورى، والحاضنة الشعبية للنظام فى اللاذقية، ما قد يؤدى إلى خلافات روسية - إيرانية.
كما أن حصر الاتفاق فى الإشراف العسكرى التركى- الروسى على تنفيذه يعنى استثناء مشاركة إيران فى عملية تطبيق المنطقة منزوعة السلاح، فى خطوة تهدد صيغة أستانا التى أقرت إشراف كل من تركيا وإيران وروسيا على تطبيق كل اتفاقات الهدن فى مناطق خفض التصعيد التى تعد إدلب واحدة منها.
ووفقا لهذا التصور، فإن إيران أدركت توجهات موسكو فى الآونة الأخيرة، الراغبة بالفعل فى المحافظة على علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا فى سوريا، التى تستهدف الإبقاء على تركيا ضمن سياق صيغة التعاون الثلاثية التى تمثلها أستانا، واستخدام تلك العلاقة فى الضغط على واشنطن والدول الأوروبية، مما دفعها (أى إيران) إلى التريث بشأن إدلب حتى تتضح معالم التنسيق الروسى– التركى، وخريطة المصالح فى الشمال السورى، لقياس مدى تأثر مصالحها الاستراتيجية المتاخمة لهذا النطاق الجغرافى فى سياق علاقتها بحلفاء صيغة أستانا، التى ترى موسكو أنها ستتهدد بخروج تركيا منها، حال الإقدام على عملية عسكرية فى إدلب.
في المقابل، تشير قراءةمغايرة إلى أن الاتفاق قد يفتح المجال أمام كل من النظام السورى وحليفه الإيرانى، ومن خلفهما روسيا، إلى استكمال سياسات الاستعادة التدريجية لمناطق سيطرة المعارضة السورية عبر تطبيق أشكال مختلفة من اتفاقات الهدن، وأن موافقة إيران على الاتفاق ما هو إلا تكتيك مرحلى يعتمد على عامل التوقيت، ومدى نجاح تركيا فى إقناع الفصائل المصنفة إرهابيا -كجبهة تحرير الشام- بنزع سلاحها الثقيل فى منطقة نزع السلاح المنوط اتفاق سوتشى بتطبيقها. وبناء على ذلك، فإنه فى حالة فشل تركيا فى مهمتها، فإن تحرك النظام السورى مدعوما بالحليف الإيرانى قد يكون حاضرا على خريطة الصراع فى الشمال السورى.
أما القراءة الثالثة لتحليل الموقف الإيرانى من اتفاق سوتشى بشأن إدلب، فتشير إلى التباين بين الموقف الروسى والإيرانى بشأن مسار الصراع فى سوريا خلال النصف الثانى من عام 2018. فوفقا لهذا التصور، فإن روسيا ترغب فى إحداث قدر من التوازن فى العلاقة بينها وبين كل من حلفائها ومناهضيها فى بؤر الصراع التى تتداخل فيها القوى الدولية والإقليمية، خاصة فى ظل الرفض الأوروبى- الأمريكى لعملية عسكرية شاملة فى إدلب على غرار ما حدث فى حلب، وأن تراجعها عن -أو تأجيلها- العملية العسكرية فى المدينة يدخل ضمن هذا التصور، باعتبار أن تطورات الصراع والظروف الإقليمية التى تزامنت مع معارك حلب تختلف إلى حد كبير عن مثيلتها خلال النصف الثانى من عام 2018، وتحديدا تطورات العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة، وبين الأخيرة وكل من إيران وتركيا على حد سواء.
لقد أدركت إيران ذلك عبر رصدها للتغيرات التى اعترت الموقف الروسى تجاه وجودها العسكرى فى سوريا؛ كعدم استساغة طهران لموقف روسيا من الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة على أهداف لها فى سوريا، وموقفها من الوجود الإيرانى فى الجنوب السورى على سبيل المثال. وبالتالى، تراجعت طموحات طهران أو تصوراتها بشأن موقف روسى واضح تجاه علاقاتها معها فى سوريا، والتى أصبحت رهينة لتطورات المصالح الروسية مع غيرها من القوى كالولايات المتحدة وتركيا، الأمر الذى انعكس فى تراجع موقف إيران من شن عملية عسكرية روسية سورية مشتركة فى إدلب. فوفقا لهذا التصور، فإن تغيرات الموقف الروسى من الحليف الإيرانى فى سوريا فى الفترة الأخيرة مثلت كابحا لطموحات إيران تجاه الشمال السورى، ولو مرحليا.
فى النهاية، يمكن القول إن لإيران حساباتها ومصالحها الاستراتيجية التى رسختها فى سوريا على مدار الأعوام الثمانية الماضية، وإن تراجعها عن المشاركة فى عملية عسكرية ضد المعارضة المسلحة فى إدلب محسوب بتلك المصالح، ومدى تأثرها بتداعيات التدخل العسكرى فى إدلب، حال حدوثه.
ومن ثم، فإنها، وتحت ضغط تعقيدات وتشابك المصالح مع غيرها من القوى فى سوريا، وضغوط أزمتها الاقتصادية بفعل العقوبات الاقتصادية الأمريكية، فضلا عن متغيرات العلاقة مع روسيا، والتى باتت تخضع لمصالح الأخيرة مع غيرها من القوى، وتحديدا تركيا-فأنها آثرت التراجع المرحلى المؤقت عن فكرة استكمال القضاء على الوجود المسلح للمعارضة فى إدلب، حتى يتم إيضاح ما ستسفر عنه عملية تطبيق اتفاق إقامة المنطقة منزوعة السلاح فى إدلب بإشراف روسى - تركى من نتائج وتفاهمات.