أمل مختار

خبيرة في شئون التطرف والعنف - رئيس تحرير مجلة المشهد العالمي للتطرف والإرهاب - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لطالما أرادت الولايات المتحدة التخلص من النظام التشافيزي اليساري الحاكم في فنزويلا منذ عشرين عاما عندما وصل الرئيس السابق هوجو شافيز إلى الحكم من خلال انتخابات 1999. وما فشلت في تحقيقه عام 2002 من خلال دعمها للانقلاب العسكري الفاشل على شافيز، يبدو أنها تحققه الآن في عهد خلفه الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، عقب أيام من بداية فترته الرئاسية الثانية. 
 
بعد أن أنهى الرئيس الأمريكي السابق أوباما فترة رئاسته الثانية بإعادة العلاقات الأمريكية- الكوبية عقب انقطاع وصراع دام نصف قرن، ظهرت سياسة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب تجاه جيرانه الجنوبيين تسير في اتجاه مخالف تماما. فقد بدأت ملامح تلك السياسة في الاتضاح مع التلويح باستخدام القوة العسكرية الأمريكية ضد فنزويلا في عام 2017، ثم بعد ذلك أصبحت أكثر وضوحا عندما رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية الفنزويلية التي جرت في مايو 2018 وفاز فيها مادورو بفترة رئاسية ثانية. 
 
لكن الأمر لم يعد يحتمل أدنى شك عندما وصف مستشار ترامب للأمن القومى، جون بولتون، في نوفمبر 2018، ثلاث دول لاتينية، هي: كوبا وفنزويلا ونيكارجوا، بـ"القوى المدمرة للقمع والاشتراكية والشمولية". واعتبر "ترويكا الاستبداد" سببا في عدم الاستقرار الإقليمي ومعاناة الإنسانية. وأعلن بولتون أن الولايات المتحدة "لن تسترضي بعد الآن الحكام المستبدين والطغاة بالقرب من شواطئنا في هذا النصف من الكرة الأرضية".
 
لقد أصبح الظرف المحلي والإقليمي مهيأ أكثر من أي وقت مضى للتخلص من الرئيس اليساري المعادي للولايات المتحدة الأمريكية، بل والإجهاز على التيار الشافيزي لفترة طويلة. ومن ثم، لم يكن إعلان رئيس البرلمان الفنزويلي خوان جوايدو –المنتمي لتيار المعارضة اليمينية– نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد في 23 يناير 2019، أي بعد حلف مادورو اليمين لفترة رئاسته الجديدة بـ13 يوما فقط، إلا إشارة لانطلاق التجربة الأمريكية باختبار نموذج جديد للتخلص من الأنظمة الحاكمة المناوئة لها أو التي قد تمثل بابا مفتوحا أمام قوى دولية كبرى لتغيير شكل النظام الدولي الحالي. 
 
هذه الدراسة تحاول فهم ما يحدث في نصف الكرة الغربي من العالم، من خلال وصف المأزق السياسي والاقتصادي الفنزويلي والذي يمثل الظرف المحلي لاختيار "النموذج الجديد" للتخلص من الأنظمة المناوئة في المنطقة، والإطار الإقليمي الداعم بامتياز للمراهنة الأمريكية، والوقوف عند دلالة التوقيت. فضلا عن تحليل الآليات الأمريكية لتحقيق هدفها في مقابل رصد وتحليل موقف الدول –القليلة– الرافضة للخطوة الأمريكية شديدة الجرأة. وأخيرا تتناول الدراسة تداعيات الحدث محليا وإقليميا ودوليا. 
 
المأزق السياسي والاقتصادي في فنزويلا
 
تبدأ قصة فنزويلا الحديثة بفشل آخر المحاولات الأمريكية بالتخطيط لانقلاب عسكري في الدول اللاتينية، حيث دعمت الولايات المتحدة انقلابا عسكريا ضد شافيز في سنة 2002، لكنه انتهى خلال ساعات عندما تحرك الملايين لتحرير شافيز من قصر الرئاسة وإنهاء التحرك العسكري الفاشل ضده، والذي تسرعت إدارة بوش في الاعتراف به. ومن ثم، خرج شافيز من هذا الحدث أكثر رفضا للولايات المتحدة، وأكثر شعبية وقوة. وقد زادت شعبيته وتياره عندما استفاد من ارتفاع أسعار النفط الذي تمتلك بلاده أعلى احتياطي منه في العالم لرفع مستوى معيشة ملايين الفقراء بالدعم المباشر دون الالتفات لأهمية تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية أو تنويع مصادر الناتج المحلي الإجمالي. فضلا عن انفاقه الكبير على دول الجوار، وعلى رأسها كوبا، بهدف خلق تكتلات لاتينية يسارية قوية مناوئة للولايات المتحدة. وقد لاقت هذه السياسات رواجا كبيرا بين الشعوب والأنظمة اليسارية الحاكمة التي تجتمع على رفض الولايات المتحدة صاحبة السمعة "السيئة" في التدخل في شئون المنطقة، والمسئولية عن دعم انقلابات عسكرية دموية أودت بحياة عشرات الآلاف من الشباب، خاصة من داخل تيار اليسار، في المنطقة. 
 
وفي المقابل، انسحبت المعارضة اليمينية من المشهد الفنزويلي تماما بصورة طوعية، واكتفت بالتنديد بطريقة إدارة شافيز الشعبوية للبلاد من خلال منصات الإعلام التابعة لرجال الأعمال. لكن الوضع بدأ يتغير تدريجيا عندما قدمت المعارضة هنريك كابريليس مرشحا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أكتوبر 2012 أمام شافيز الذي كان يترشح لفترة رئاسية رابعة. وقدم شافيز نفسه باعتباره قائدا للثورة البوليفارية ضد "الإمبريالية" الأمريكية، في حين تحدث مرشح المعارضة عن المشكلات الاقتصادية التي بدأت في الظهور مع انخفاض أسعار النفط عالميا. وحصل مرشح المعارضة على 45% من الأصوات بينما فاز شافيز بنسبة 54% من الأصوات. وكانت هذه النتائج هي الإشارة الأولى التي شجعت المعارضة اليمينية على العودة إلى المشهد السياسي والانتخابي.
 
لكن شافيز الذي أصر على دخول الانتخابات الرئاسية رغم مرضه العضال لم يتمكن من حلف اليمين الدستورية، ولم يظهر حتى توفي في إحدى مستشفيات كوبا. ومن ثم جاء نائبه الأقل قوة وشعبية –سائق الشاحنة– نيكولاس مادورو، وأجريت انتخابات أخرى بين كابريليس ومادورو في سنة 2013 فاز فيها الأخير بفارق ضئيل جدا، حيث حصل مادورو على 50.7% بينما حصل كابريليس على 49.1%، ما دفع المعارضة إلى التشكيك في نزاهة الانتخابات.
 
ومنذ ذلك التاريخ يشهد الشارع الفنزويلي احتجاجات متفرقة، وسقوط ضحايا، واعتقال لرموز المعارضة اليمينية. فضلا عن تراجع حاد -بدأ منذ 2014- في معدلات النمو الاقتصادي، وصل اليوم إلى مرحلة الأزمة الإنسانية. فمع انخفاض أسعار النفط، وانخفاض إنتاج شركة النفط الحكومية من 3.2 مليون برميل من عشرة أعوام إلى 1.4 مليون برميل حاليا، نتيجة سوء إدارة القطاع منذ تأميمه، أدى ذلك إلى تدني غير مسبوق في توافر العملة الأجنبية. ونظرا لأن الاقتصاد الفنزويلي يعتمد على النفط بنسبة 96% من دخله، فقد أصيب بعجز حاد في شراء، ومن ثم توفي، الغذاء والدواء وكافة السلع الأساسية. ومن ثم، تزايدت معدلات التضخم إلى أكثر من مليون بالمئة في 2018، ووفقا للتقديرات من المرشح أن تتصاعد إلى 10 ملايين بالمئة. وهو ما يعني انهيار كامل للعملة المحلية، وهذا يفسر ما قامت به حكومة مادورو من تغيير عملتها البوليفار إلى البوليفار السيادي بعد حذف خمسة أصفار من العملة. لكن هذا الإجراء لم يكن كافيا لاحتواء الأزمة الاقتصادية أو أزمة التضخم، إذ لم يعد لدخول ومدخرات ورواتب المواطنين أي قيمة، وتحول الناس إلى نظام المقايضة. مع الأخذ في الاعتبار النقص الحاد للسلع في دولة لا تنتج إلى النفط والمعادن الخام. في هذا الإطار، بدأت تظهر حركة واسعة من الهجرة والفرار غير النظامي عبر الحدود لدول الجوار حتى وصل عدد اللاجئين الفنزويليين إلى 3.2 مليون مواطن. ويزيد الأمر سوءا حالة الرفض لاستقبالهم من دول الجوار في كولومبيا والبرازيل، وغيرها، لأسباب اقتصادية ما نتج عنه أعمال عنف شعبية على الحدود.
 
في إطار ذلك المأزق الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه فنزويلا منذ 2014، نجحت المعارضة في الحصول على الأغلبية في الانتخابات التشريعية التي أجريت في 2015، ومن ثم أصبحت تسيطر على البرلمان لأول مرة منذ 1999. 
 
وقد سمح البرلمان الفنزويلى –ذي الأغلبية اليمينية– في أبريل 2017 بفتح تحقيق بشأن الفساد ضد الرئيس نيكولاس مادورو، استنادا إلى معلومات وردت حول قضية الفساد الكبرى الخاصة بشركة البناء البرازيلية "اودبريشت"، والمنظورة أمام محاكم البرازيل والتي طالت مؤسسات وسياسيين من دول لاتينية مختلفة. 
 
وفي رد مباشر على هذا التطور، أنشأ مادورو في أغسطس 2017 ما عرف بـ"الجمعية التأسيسية"، التي مُنحت صلاحية حل البرلمان وتعديل الدستور من خلال انتخابات قاطعتها المعارضة، واحتجت عليها قوى إقليمية ودولية عديدة. 
 
وبصورة عامة، وعلى مدار عشرين عاما، سيطر التيار الشافيزى على كافة مؤسسات الدولة وأصبحت بكاملها، سواء القوات المسلحة أو المحاكم أو الهيئات الحكومية، تدين بالولاء لشافيز ومن بعده مادورو. وامتلكت المعارضة البرلمان الذي تم شل حركته بحكم قضائي والاحتجاجات التي تتحرك تلقائيا تعبيرا عن حالة الغضب من الجوع والفقر الذي وصل إلى معدلات غير مسبوقة. 
ومع اختفاء أغلب رموز المعارضة الكبار، إما بالسجن أو النفي، ظهر الشاب خوان جوايدو (35 عاما) باعتباره رئيسا جديدا للبرلمان منذ 5 يناير 2019، ليعلن نفسه رئيسا شرعيا للبلاد لفترة انتقالية حتى انعقاد انتخابات رئاسية مبكرة، نظرا لعدم اعتراف المعارضة وبعض الدول الخارجية بنتائج انتخابات الرئاسة الأخيرة. ومنذ 23 يناير (2019) أصبح  لفنزويلا لأول مرة رئيسان يصف كل منهما نفسه بالشرعي، وانقسم المجتمع الدولي إلى أكثرية داعمة لجوايدو وأقلية داعمة لمادورو. 
 
كيف يدير مادورو الأزمة؟ وكيف يدير جوايدو الفرصة؟
 
يبدو خوان جوايدو أكثر هدوءا؛ فهو أمام فرصة تاريخية لطالما حلم بها منذ أن بدأ عمله السياسي بالمشاركة في مظاهرات الطلاب ضد شافيز في 2007، ثم انضمامه لتكتل الإارادة الشعبية في 2009، ثم تصعيده إلى مناصب قيادية بعد سجن القيادات الكبرى، وعلى رأسها لوبيز، في 2014. فمنذ إعلان نفسه رئيسا انتقاليا، يدعو جوايدو المواطنين للاستمرار في التظاهر السلمي، وعمل إضراب شامل. 
 
جوايدو لا ينفي تواصله مع قوى خارجية، بل يظهر من تحليل كلماته أنه يعلن عن امتنانه للتأييد الدولي له، ولا يحصره في الولايات المتحدة بل يشير إلى تأييد الدول اللاتينية الكبرى. كما أنه يعلن متابعته للمهلة الأوروبية التي أعطاها الاتحاد الأوروبي لمادورو لقبول الانتخابات المبكرة، ويرتب خطواته بناء عليها. ولم يتأخر جوايدو عن طلب الدعم من القوات المسلحة، وهو ما اتضح في تصريحه المهم: "إن جبهتنا ما زالت تحتاج دعم الجيش"، وقلل من خطورة اندلاع حرب أهلية في حالة حدوث انشقاقات على غرار انشقاق الملحق العسكري في سفارة فنزويلا في واشنطن. معتبرا ذلك نوع من الضغط على مادورو حتى يقبل انتخابات رئاسية مبكرة وليس لإشعال صراع داخلي مسلح. 
 
أضف إلى أن جوايدو لم يقم بمعاداة الصين وروسيا، الحليفتين الأهم والأكبر لمادورو، بل أرسل إليهما رسائل طمأنه، عندما قال: "إن مصالح روسيا والصين ستكون في وضع أفضل بتغييرهما الطرف الذي تدعمانه في فنزويلا .... مادورو لا يحمي فنزويلا ولا يحمي استثمارات أحد وليس صفقة جيدة". كما أعلن أنه سيتولى السيطرة على أصول فنزويلا فى الخارج لمنع حكومة مادورو من التصرف بها. وبدأ بالفعل بتعيين  لجان لإدارة شركتي النفط: "نفط فنزويبلا" Petróleos de Venezuela (PDVSA)، و CITGO. 
 
أما مادورو (57 عاما) الرئيس المنتخب، والحاكم للبلاد منذ 2014 (كان قبل ذلك وزيرا للخارجية منذ 2006، ونائبا للرئيس منذ 2012) فقد الكثير من أوراق قوته، خاصة بعد موجة انحسار تيار اليسار في القارة. فعندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية في فنزويلا خلال عامي 2014 و2015، وتصاعد الصراع بين النظام والمعارضة، قامت الخارجية البرازيلية والأرجنتينية، في عهد الرئيستين اليساريتين ديلما روسيف وكريستينا كريشنر، بجولات مكوكية أنهت الصراع وانتصرت لشرعية مادورو. أما الآن فهو محاط بأنظمة رافضة له في دول الجوار، فضلا عن التدهور الحاد في مستوى المعيشة والأمن، ومن ثم تراجع شعبيته في موطنها الأصلي بين فقراء فنزويلا. 
 
وعلى الرغم من الموقف الأمريكي الحاد والرافض لمادورو، إلا أنه وحكومته أعلنوا مرار منذ تفاقم الأزمة أن مادورو لا يرفض التواصل والحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي باتت فيه الولايات المتحدة لا تعترف به رئيسا شرعيا للبلاد! لكن ورقة القوة الحقيقية لمادورو هي دعم القوات المسلحة له وللتيار الشافيزي، وهو ما ينقلنا إلى العامل الرئيسي في تلك الأزمة وهو موقف الجيش الفنزويلي قيادة وقواعد، ومدى إمكانية تغيير بوصلته أو حدوث انشقاقات بداخله. 
 
موقف القوات المسلحة
 
تتألف القوات المسلحة الفنزويلية من الجيش والبحرية وسلاح الجو والحرس الوطني الفنزويلي وأخيرا "الميليشيا الوطنية الفنزويلية"، والقائد الأعلى لها هو الرئيس الفنزويلي ويبلغ عدد القوات 113 ألف جندي. "الميليشيا الوطنية" أنشأها هوجو شافيز، وتضم أعضاء في الخدمة، بما في ذلك جنود الاحتياط العسكريين وموظفي الدولة والمؤسسات العامة على جميع المستويات. الهدف الرئيسي من هذه الميليشيا هو الدفاع عن "الثورة البوليفارية" من الأعداء الداخليين والخارجيين. وقد أعلن مادورو عقب اندلاع الأزمة الأخيرة أن حكومته ستشكل 50 ألف عنصر من الميليشيا الوطنية. وأضاف "إننا نسعى جاهدين للوصول إلى مليوني رجل من رجال الميليشيا بحلول 13 أبريل المقبل (2019)". 
 
ومنذ تولي الرئيس السابق شافيز -وهو ضابط جيش سابق- الحكم، بدأ في تمكين جنرالات الجيش من المناصب المهمة بالدولة، في البنوك والشركات، فرئيس شركة النفط الحكومية PDVSA هو رئيس الحرس الوطني. كما أن وزير الدفاع يمتلك امتياز توزيع المواد الغذائية.
 
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تتحدث عن بعض الانشقاقات المستقبلية المحتملة، وعن حوار سري بين قيادات عسكرية وبين المعارضة، إلا أن الشواهد حتى الآن تقول إن ولاء قيادات الجيش لمادورو والشافيزية لا يستند فقط إلى عوامل إيديولوجية أو وطنية أو حتى منفعية -مع الاعتراف بوجود تلك الأسباب- لكنها تستند إلى عامل آخر مهم وهو الخوف من المحاسبة القضائية في حالة تغير النظام في فنزويلا. فعلى الرغم من تلويح المعارضة بإصدار عفو عام وعدم فتح التحقيق في قضايا فساد -من المؤكد أنها موجودة كما هي موجودة في معظم دول القارة- إلا أن الخبرة اللاتينية التي شهدت حالات عديدة من إلغاء قوانين العفو بعد فترات زمنية مختلفة، ومن ثم محاكمة جنرالات ونخب سياسية اعتقدت أنها نجت إلى الأبد بقرارات العفو. ومن ثم، فإن الخوف من المحاكمة المستقبلية ربما يكون السبب الأقوى لاستمرار دعم القوات المسلحة لمادورو. 
 
الأزمة في ظل بوادر حرب باردة جديدة
 
كما سبقت الإشارة، فإن تسلسل الأحداث يوحي بأن الأزمة الفنزويلية بدأت ككرة الثلج عقب وفاة شافيز، وأخذت في التصاعد حتى أغلقت النفق. لكن القرار الأمريكي بإنهاء حكم مادورو "المارق" وبناء نظام فنزويلي "أليف"، لم يكن له أن يتأخر أكثر من ذلك، لأن عوامل أخرى لو تُرك لها وقت أطول لكانت غيرت مسار الأزمة تماما. 
 
خلال 2018 اتخذت حكومة مادورو خطوات نحو تنويع شركائها التجاريين، وتحديدا روسيا والصين وتركيا. وبدأت تلوح في الأفق إمكانية للخروج من المأزق الاقتصادي، ومن ثم تهدئة الشارع واستقرار الأمر لمادورو والتيار الشافيزي لفترة أطول. ففي نهاية عام 2018 وقع مادورو وبوتين اتفاقيات بشأن صادرات القمح الروسي لفنزويلا، فضلا عن عقود بقيمة 6 مليار دولار تتعلق بقطاعي النفط والتعدين. وفي سبتمبر من العام نفسه زار مادورو الصين -الدائن الأول لبلاده- للحصول على مساعدة لإنقاذ اقتصاده المنهار. وبالفعل اتفقا على التزامات مالية لزيادة إنتاج النفط والذهب، إضافة إلى الاستثمار في أكثر من 500 مشروع تنموي داخل فنزويلا.
 
من جانب آخر، اتجهت حكومة مادورو لتوسيع دائرة شركائها، وبيع الذهب الخام الذي تملكه فنزويلا الغنية بالمعادن والفقيرة بسبب الفساد وسوء الإدارة، إلى دول أخرى إلى جانب روسيا والصين. ودخلت تركيا على هذا الخط، التي زارها مادورو أربع مرات منذ 2016 كما قام أردوغان بزيارة كراكس في 2018، وهي زيارة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين. وتشير التقارير إلى أن تركيا استقبلت ما قيمته 900 مليون دولار من الذهب الفنزويلي الخالص خلال العام 2018 بحجة صقله هناك وإعادته إلى فنزويلا مرة أخرى، لكن ليس هناك أي دليل على إعادته. كما أعلنت المعارضة الفنزويلية مرارا أن هناك صفقات بيع بين الحكومتين تتم خارج القانون، وهو ما تعتبره المعارضة استنزافا لثروات الشعب والأجيال القادمة مقابل إنقاذ النظام الحالي وإعطاءه فترة بقاء أطول وليس فرص تنمية حقيقية. وفي الثاني من فبراير الجاري أعلنت شركة "نور كابيتال" للاستثمار التي مقرها أبوظبي أنها اشترت ثلاثة أطنان من الذهب الفنزويلي، وكان من المقرر أن تصل الصفقة إلى 15 طن، لكنها أعلنت لاحقا التزامها بالقرار الأمريكي الذي حظر تعامل نظام مادورو على الذهب الفنزويلي. 
 
في ضوء العوامل والاعتبارات السابقة، يمكن فهم الموقف الروسي الرافض بشدة للتدخل الأمريكي في الأزمة الفنزويلية، فقد اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما يحدث في فنزويلا محاولة انقلاب جديدة حرضت عليها الولايات المتحدة. وإلى جانب أردوغان، كان الرئيس بوتين من بين أول الزعماء الذين اتصلوا بالرئيس الفنزويلي عقب اندلاع الأحداث الأخيرة. 
 
وفي 28 يناير 2019 فشلت واشنطن فى استصدار بيان من مجلس الأمن من شأنه الاعتراف برئيس البرلمان جوايدو رئيسا انتقاليا شرعيا للبلاد، بسبب الرفض الروسي والصيني. 
 
الموقف الإقليمي والدولي
 
إقليميا عكست الأزمة حالة من الاستقطاب، تشكل على أساس حالة تيار اليسار بها وطبيعة علاقاتها مع الولايات المتحدة. وفي ظل الخسائر المتتالية لتيار اليسار في الانتخابات الرئاسية في أغلب دول المنطقة، أصبح نظام مادورو عبئا عليها، على المستويين السياسي والاقتصادي، ومن ثم كان من الطبيعي أن تدعم جوايدو في هذا الصراع (ينطبق ذلك على البرازيل، والأرجنتين، وشيلي، وكولومبيا، وكوستاريكا، وغواتيمالا، وهندوراس، وبنما، وباراغواي، وبيرو). في المقابل، دعمت كل من بوليفيا وكوبا ونيكارجوا -آخر معاقل التيار اليساري في المنطقة- مادورو، بالإضافة إلى المكسيك التي يحكمها الرئيس اليساري أوبرادورو، ومشكلاته العديدة مع الرئيس الأمريكي وخاصة حول ملف الهجرة والحدود. 
 
أما دوليا فقد أيدت كندا واستراليا جوايدو فورا، في حين أرجأت الدول الأوروبية -مع بداية الأزمة- قرارها وأعطت مادورو مهلة ثمانية أيام للإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة أو الاعتراف بجوايدو. وقد جاء القرار الأوروبي بعد نهاية المهلة بأن الاتحاد الأوروبي "يدعم بشكل كامل الجمعية الوطنية (البرلمان) في فنزويلا وزعيمها" خوان جوايدو، باعتبارها "المؤسسة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيا وتجب حمايتها"، و"ضرورة إجراء انتخابات رئاسية جديدة في فنزويلا وحل النزاع سلميا". كما شدد تصريح الاتحاد الأوروبي على: "إننا موحدون في سعينا إلى تجنب أي حل للنزاع عسكريا أو باستخدام العنف". وقد شكل الاتحاد الأوروبي مجموعة اتصال تضم ثمانية بلدان أعضاء بالاتحاد الأوروبي (فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، والبرتغال، وإسبانيا، والسويد، وبريطانيا)، بالإضافة إلى بوليفيا، وكوستاريكا، وإكوادور، وأوروجواي.
 
وتستهدف مجموعة الاتصال العمل على حل الأزمة خلال 90 يوما، من خلال انتخابات رئاسية مبكرة. وفي المقابل، يتشكل الموقف الدولي الداعم لمادور من روسيا والصين وتركيا وايران وحزب الله اللبناني. 
 
كيف أدارت الولايات المتحدة الأزمة حتى اللحظة؟
 
لا شك أن التخطيط الأمريكي لإزاحة نظام مادورو بدأ قبل يوم 23 يناير الماضي كما سبقت الإشارة. وكانت أولى الخطوات الأمريكية في هذا الإطار هي الإعلان الفوري، وفي نفس يوم بدء الأزمة، عن الاعتراف بجوايدو رئيسا انتقاليا لفنزويلا، واعتماد سلطته على أصول مالية تابعة لحكومة فنزويلا وبنكها المركزي لدى بنك نيويورك الاحتياطي الاتحادي، وأي بنوك أخرى داخل الولايات المتحدة.كما ضاعفت الولايات المتحدة من العقوبات الاقتصادية على شركة النفط الفنزويلية بهدف خنق الاقتصاد الفنزويلي، وإلزام شركة Citgo بإيداع جميع عائداتها فى حساب مجمّد فى الولايات المتحدة. 
 
كذلك، قام البنك المركزى فى إنجلترا بمنع حكومة مادورو من سحب ذهب تقدر قيمته بـ 1.2 مليار دولار. وأشار تقرير صادر عن بلومبرج إلى أن قرار بنك إنجلترا بحرمان مسئولى مادورو من سحب الذهب جاء بعد ضغط من كبار المسئولين الأمريكيين، ومن بينهم وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومى جون بولتون، على نظرائهم البريطانيين لوقف تعامل النظام على أصوله فى الخارج، وفي مقدمتها الذهب الذي يمثل جزءا كبيرا من احتياطى العملات الأجنبية لفنزويلا والبالغ 8 مليار دولار والذى يملكه البنك المركزى الفنزويلى. ومن غير المعروف مكان باقى الاحتياطى، لكن تدور التكهنات حول الدول الداعمة لمادورو وعلى رأسها تركيا. 
 
في المقابل، حمل جوايدو إلى المواطنين وعود أمريكية بمساعدات مالية لتحسين مستوى المعيشة في البلاد.
 
وفي حوار ترامب مع شبكة سي بي إس الأمريكية في مطلع فبراير الجاري أوضح أن التدخل العسكري في فنزويلا قيد الدراسة، قائلا: "بالتأكيد، التدخل العسكري خيار متاح". كما أعلن في تحدي واضح أن مادورو طلب مقابلته خلال الشهور القليلة الماضية، لكنه لم يوافق لأن "موعد التغيير قد حان" وفقا لتعبير ترامب. وفي تحد واضح أيضا، قبلت الولايات المتحدة ترشيح جوايدو لكارلوس الفريدو فيشيو، عضو المعارضة الفنزويلية، لتولي مهمة سفير فنزويلا في واشنطن. بينما رفض ترامب ترحيل البعثة الدبلوماسية الأمريكية في كراكس بعد طردها من قبل حكومة مادورو، على أساس أن مادورو وحكومته فقدت شرعيتهما وبالتالي ليس لهم الحق في طرد البعثة الدبلوماسية الأمريكية، والتي لا تزال حتى كتابة هذه السطور موجودة وآمنة في كراكس.
 
وفي الإطار ذاته، تم استحداث منصب المبعوث الخاص لفنزويلا، وتعيين إليوت أبرامز للقيام بهذه المهمة، وهو محامي أمريكي يهودي عمل في مناصب سياسة بالخارج خلال إدارتي رونالد ريجان وجورج بوش الابن. ويوصف أبرامز على نطاق واسع بأنه زعيم المحافظين الجدد. وقد أُدين أبرامز في قضية إيران/ كونترا التي باعت من خلالها إدارة الرئيس ريجان أسلحة لإيران واستخدمت عائدها بشكل غير قانوني لدعم متمردي الكونترا في نيكاراجوا بأميركا اللاتينية، وأدين قضائيا بحجب معلومات عن الكونجرس. وأمضى أبرامز عقد التسعينيات معزولا سياسيا يعمل في مراكز أبحاث. وخلال ولاية بوش الإبن الأولى كان أبرامز كبير مستشاري الرئيس لمنطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وخلال الولاية الثانية شغل أبرامز منصب رئيس "إستراتيجيّة الرئيس لنشر الديموقراطية في العالم". ويقوم أبرامز الآن بمهمة تمكين الديمقراطية في فنزويلا وفقا لرؤية الرئيس الحالي ترامب. علما بأنه رجل يحمل سمعة سيئة جدا في أمريكا اللاتينية وخاصة لدى ابناء تيار اليسار. 
 
التداعيات المحلية والإقليمية والدولية
 
وفقا للمعطيات السابقة، يبدو أن الوقت قد حان لتغيير النظام في فنزويلا، لكن لا يمكن تحديد المدى الزمني الذي ستُنجز فيه المهمة على وجه الدقة. كما أنه لا يمكن تحديد الخسائر المادية والإنسانية التي ستقع جراء تحقيق هذه المهمة. فعلى الرغم من قوة التصريحات الروسية الرافضة للخطة الأمريكية لتغيير النظام في فنزويلا، إلا أن الواقع يشير إلى أن روسيا لا تملك أي قواعد عسكرية في المنطقة، ولا تقدر على التحرك العسكري لتغيير موازين القوة في فنزويلا كما حدث في سوريا. في المقابل، فإن مادورو ونظامه لن يكون أمامه ما يخسره هو ونظامه والتيار الشافيزي المتغلغل في كافة مؤسسات الدولة أكثر من خسارته لمنصب الرئاسة بهذه الطريقة. 
 
ومن الجدير بالذكر الإشارة هنا أن كافة الأحزاب اليسارية التي خسرت الرئاسة في الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية، كان ذلك من خلال انتخابات نزيهة وفي إطار آليات وطنية محلية، وما زالت هذه الأحزاب لديها مؤيديين وقدرة على خوض الانتخابات مرة أخرى والعودة إلى الرئاسة أو أغلبية البرلمان، وهو ما تشهده دول مثل شيلي والمكسيك والأرجنتين، وغيرهم. أما في حالة فنزويلا فالنظام الشافيزي لم يقبل بتداول السلطة بينه وبين تيار اليمين وفقا للآلأيات المحلية الطبيعية، ومن ثم فالتغيير هذه المرة سيكون مدعوما ومدفوعا بفاعليين دوليين، من المؤكد سيكون لهم دور في فنزويلا في المستقبل، سواء في الشأن الاقتصادي أو السياسي. وهو ما يعني فتح أبواب من المخاوف لدى تيار بالكامل أصبح متمكنا في كافة مفاصل الدولة وأهمها الجيش.
 
ومن ثم، فإننا أمام خيارين كلاهما سينتهي بتغيير النظام، الأول بخسائر إنسانية أقل وذلك في حالة نجاح مجموعة التواصل الأوروبية/ اللاتينية من عقد صفقة مطمئنة لكافة الأطراف. والثاني بخسائر إنسانية كبيرة في حالة فشل المفاوضات السلمية وتفاقم الأزمة إلى انشقاقات في الجيش الفنزويلي أو تدخل عسكري أمريكي.
 
على أي حال، ما زال النموذج الأمريكي الجديد لتغيير الأنظمة المناوئة له قيد الرصد والمتابعة والتحليل، لكنه على أي حال سيلقي بظلال جديدة ومقلقة على منطقة أمريكا اللاتينية، ومن الممكن أن يمثل تجربة قابلة للتكرار في دول أخرى، في حالة نجاحها بخسائر قليلة. أو أن تصبح مسمارا جديدا في هيكل النظام الدولي الحالي الذي تسعى بعض الدول الكبرى والصاعدة لتغييره أو حتى "تقليم مخالبه".