في 20 أكتوبر 2018 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اتجاهه للانسحاب من "معاهدة القوى النووية متوسطة المدى"، الموقعة بين واشنطن وموسكو خلال فترة الحرب الباردة، وتحديداً في عام 1987. وقد أرجعت واشنطن، على لسان رئيسها، هذه الخطوة إلى انتهاك روسيا للمعاهدة. في المقابل، اتهمت موسكو واشنطن بعدم الالتزام بالمعاهدة. أعقب ذلك، وفي 4 ديسمبر، إعلان ترامب إمهال موسكو 60 يوما للالتزام بالمعاهدة.[1]
ومن الجدير بالذكر، أن الطرفين قد تعهدا خلال تلك المعاهدة بعدم "تصنيع أو إجراء تجارب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنّحة أو متوسطة، وتدمير كافة منظومات الصواريخ ومنصاتها التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000 إلى 5500 كلم، ومداها القصير من 500 إلى 1000 كلم.
هذا التطور المهم يثير تساؤلا حول دوافع واشنطن من وراء هذه الخطوة، وما هي السيناريوهات المحتملة لمرحلة ما بعد التهديد الأمريكي بالانسحاب من المعاهدة.
أولاً: الدوافع الأمريكية
على الرغم مما قد تبدو عليه تصريحات ترامب بشأن المعاهدة أنها تعبر عن تحول مفاجيء، لكن الواقع يشير إلى أن هذه التصريحات جاءت نتيجة لموقف مدروس وفي إطار تحولات أمريكية مرتقبة. وفي هذا الإطار، يمكن الحديث عن دافعين رئيسيين قد يفسرا لنا هذا الموقف الأمريكي من المعاهدة.
1- الضغط على موسكو للتراجع عن تطوير ترسانتها الصاروخية
المقصود هنا أن واشنطن تحاول خلق حالة من الارتباك والقلق داخل دائرة صنع واتخاذ القرار الروسي حول إمكانية تدشين مرحلة سباق تسلح نووي مرة أخرى على الساحة الدولية، لاسيما أن واشنطن سبق وأن قد ألغت في عام 2001 معاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، الأمر الذي يعني قدرتها على اتخاذ موقف مماثل تجاه المعاهدة المعنية، وذلك رداً على النشاط السياسي والعسكري الروسي المتزايد، بدءا من الدور الروسي في الأزمة السورية، ومرورا بضم شبة جزيرة القرم في عام 2014، وانتهاء بالصفقات العسكرية الروسية المتتالية، خاصة تلك التي أجريت مع الصين في مارس 2018 والتى بلغت قيمتها 6.5 مليار دولار.[2]
ويرتبط بذلك أيضا سعي واشنطن إلى دفع موسكو لوقف تطوير منظومة الصواريخ العسكرية التى تثير القلق الغربي، ووضع حد لتصنيعها وتطويرها، وعلى رأسها الصواريخ من طراز "9 إم 729"، القادرة على حمل رؤوس نووية. ولعل ما يؤكد القلق الأمريكي بشأن هذه الصواريح مطالبة واشنطن روسيا وقف إنتاجها أو تعديل مداها كشرط لتراجع واشنطن عن الانسحاب من المعاهدة[3]. الأمر ذاته فيما يتعلق بصواريخ "إس إس 20" التى يصل مداها إلى 5000 كيلومتر وتتمتع بالدقة العالية في إصابة أهدافها، سواء داخل أوروبا الغربية أو شمال أفريقيا أو منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن قدرتها على ضرب أهداف في ولاية ألاسكا الأمريكية.
2- دفع الصين للانضمام للمعاهدة
لايمكن إغفال القدرات العسكرية الصاروخية للصين كمتغير مهم في الموقف الأمريكي من "معاهدة القوى النووية متوسطة المدى"، وذلك على خلفية نجاح الصين في تطوير ترسانتها الصاروخية. ويمكن الإشارة هناك إلى مؤشرين مهمين. الأول، ما ذهب إليه قائد القوات الأميركية في المحيط الهاديء الأدميرال هاري هاريس، في عام 2017، من أن الترسانة الصاروخية للجيش الشعبي الصينى التى يندرج 95% منها في المدى 500- 5500 كلم، تهدد القواعد والسفن الأميركية في المحيط الهادىء. المؤشر الثاني تأكيد الرئيس ترامب في 22 أكتوبر 2018 أنه "ينبغي على الصين الانضمام للمعاهدة، وضرورة أن تتوقف كل الأطراف عن مساعي تطوير أسلحة نووية متوسطة المدى".
ثانياً: سيناريوهات محتملة للموقف الأمريكي النهائي من المعاهدة
انطلاقاً من الدوافع السابق ذكرها، هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة للموقف الأمريكي النهائي من المعاهدة.
السيناريو الأول: انسحاب واشنطن من المعاهدة
هذا السيناريو مرجح إلى حد كبير، ويدعمه مؤشران رئيسيان. الأول، تصريح وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف بأن موسكو أصبحت تتعامل مع إعلان الرئيس ترامب نيته الانسحاب من المعاهدة المعنية على أنه أمر واقع، وأنها تجهز إجابات على شكاوى واشنطن من عدم التزام روسيا بهذه المعاهدة، وهو ما يعنى ترجيح روسيا لهذا السيناريو، إن لم يكن لديها معلومات بذلك. كما أن كلمة وزير الخارجية الأمريكي بومبيو حول الحديث الأمريكي السابق مع موسكو حول انتهاك الأخيرة للمعاهدة لما يقرب من ثلاثين مرة منذ عام 2013، والذي قابله إنكار روسي،[4] تعكس اتخاذ واشنطن قراراً نهائياً بالانسحاب من المعاهدة لكنها قد تسعى إلى كسب دعم ومساندة القوى الأوروبية، لاسيما عقب تصاعد الخلاف بين الجانبين في بعض الملفات. كذلك، يمكن تفسير المساعي الروسية لانتهاج كافة السبل الدبلوماسية الممكنة التى يمكن من خلالها دفع واشنطن للجلوس على طاولة الحوار -بما في ذلك الموافقة على ضم دول أخرى إلى المعاهدة،[5] رغم اقتناعها شبة التام بعزم واشنطن على الانسحاب من المعاهدة- بالحرص على منع أية محاولات لاتهام موسكو بالتراخي في تلك المسألة وإلقاء اللوم على موقف واشنطن المتشدد.
المؤشر الثاني، هو إقرار ترامب لأكبر ميزانية للدفاع الأمريكي في تاريخ واشنطن لعام 2019 والتى بلغت 717 مليار دولار أمريكي[6]، بهدف تعزيز القدرات العسكرية للجيش الأمريكي، وهو ما يتسق مع المساعي الأمريكية لتعزيز القدرات النووية الصاروخية في المستقبل ومنافسة موسكو وبكين، ما يعني أن الانسحاب من المعاهدة يمثل أحد المداخل أو الشروط المهمة للوصول إلى هذا الهدف.
لكن هذا السيناريو ينطوي على مخاوف جمة، أبرزها عودة سباق التسلح النووي كمحاولة لتعزيز القدرات الصاروخية الأمريكية مقارنة بنظيرتها الروسية والصينية، وهو الأمر الذي من المحتمل أن يرهق الميزانية العسكرية الروسية، ما قد يهدد أمن الدول الأوروبية، فضلاً عن احتمال قيام موسكو بنشر صواريخ لها على حدودها، وربما في أراضي حلفائها إذا أقدمت واشنطن على نشر صواريخ لها بالقرب من الحدود الروسية، وهو ما يعنى وجود احتمال كبير لارتفاع حدة التوتر في العلاقات بين الجانبين[7].
السيناريو الثاني: سحب ترامب نيته بالانسحاب مقابل شروط محددة
يقوم هذا السيناريو على محاولة ترامب الحصول على امتيازات محددة مقابل العودة إلى الاتفاقية، ليس في مواجهة روسيا فقط ولكن أيضا في مواجهة الصين. بمعنى أكثر وضوحا، قد يسعى ترامب هنا إلى تحقيق هدفين مرتبطين ببعضهما، الأول هو ضمان التزام روسيا بالمعاهدة بشكل واضح وصريح. الهدف الثاني، هو انضمام الصين إلى المعاهدة كوسيلة لكبح القدرات العسكرية الصينية، ذلك أن انضمام الصين إلى المعاهدة سيفرض عليها تدمير نسبة كبيرة من ترسانتها الصاروخية. لكن نجاح ترامب في الوصول إلى هذا الهدف سيظل صعبا، لأسباب تتعلق بطبيعة المعاهدة، كونها معاهدة ثنائية بالأساس، الأمر الذي يعني الحاجة إلى التفاوض على معاهدة جديدة. كما أن خضوع موسكو وبكين لشروط ترامب في هذا المجال يعنى الانصياع الروسي والصينى لواشنطن، وهو ما لا يتسق مع موقع كل منهما داخل النظام العالمي.
السيناريو الثالث: تراجع ترامب عن الانسحاب من المعاهدة
ويعد هذا السيناريو هو الأضعف احتمالا؛ فكما سبق القول يبدو أن قرار الانسحاب من المعاهدة هو قرار مدروس بشكل جيد، وبالتالي لم يكن الهدف من التهديد بالانسحاب هو التراجع في لحظة محددة، لاسيما أنه لا توجد مؤشرات على انقسام داخل الإدارة الأمريكية حول موقف ترامب من المعاهدة على غرار العديد من القرارات الأخرى لترامب. كذلك، يلاحظ أنه عقب إعلان ترامب موقفه من المعاهدة، تمكنت واشنطن من جذب الاتحاد الأوروبي لصفها ودعم موقفها من المعاهدة، بل والعمل على دفع الدول الأوروبية للضغط على موسكو للإلتزام بالمعاهدة. أضف إلى ذلك أن تراجع ترامب عن الانسحاب سينال من مصداقيته في مواجهة روسيا وبوتين.
خلاصة القول، هناك مساع أمريكية جادة لتعزيز القدرات العسكرية الأمريكية، لاسيما ترسانتها الصاروخية التى تُوصف بالمتواضعة مقارنة بنظيرتها الروسية والصينية، وهو ما يدفع للترجيح بانسحاب واشنطن من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى عقب انتهاء مهلة الستين يوم التى منحتها واشنطن لموسكو. ذلك أن الانسحاب من المعاهدة يبدو أنه بات شرطا ضروريا للتحلل من القيود والالتزامات المفروضة على قدرة واشنطن على تحديث قدراتها العسكرية في مواجهة المنافسين الرئيسيين: روسيا والصين.
[1] "واشنطن تمهل موسكو 60 يوماً للالتزام بالمعاهدة النووية"، موقع العربية، 5/12/2018. (تاريخ الدخول 17 ديسمبر 2018) متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/6IoH0
[2] "الصين تتعاقد على أسلحة روسية بـ6.5 مليار دولار"، سبوتينك عربي، 12 مارس 2018. (تاريخ الدخول 15 نوفمبر 2018). متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/A1bmn
[3] "معاهدة القوى النووية.. أميركا تحدد لروسيا الصاروخ المشكلة"، سكاي نيوز عربية، 7/12/2018 (تاريخ الدخول 18 ديسمبر 2018، الساعة 2:00 مساءٍ). متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/d9MRJ
[4] العربية، مرجع سبق ذكره.
[5] "بوتين: لا شيء يمنعنا من إضافة دول جديدة لمعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى"، النهار، 18/12/2018. (تاريخ الدخول 18 ديسمبر 2018، الساعة 3:30 مساءٍ)، متاح على الرابط
http://cutt.us/LQO14
[6] "إقرار ميزانية الدفاع الأمريكية لعام 2019 بقيمة 717 مليار دولار"، الخليج أونلاين، 2/8/2018. (تاربخ الدخول 16 نوفمبر 2018). متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/VajK
[7] "روسيا ترد على نشر صواريخ عند حدودها"، سبوتنيك عربي، 23/11/2018 (تاريخ الدخول 18 ديسمبر2018)، متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/q1wap