في ظل تعقد الأزمة الليبية وتعثر معظم محاولات التسوية الدولية لها، علاوة على صعوبة الرهان على طرف واحد من اجل تسوية الأزمة حيث لا يقدر الأوروبيين وحدهم على صناعة حل سياسي ولا الأطراف الإقليمية لتعدد مراكز القوي الفاعلة في الداخل الليبي لذلك خصص عدد يوليو 2018، من دورية "بدائل" الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لمناقشة كيف يمكن تعزيز الدور المصري في الأزمة الليبية.
حيث توضح دكتورة إيمان رجب خبير في الأمن الإقليمي بمركز الأهرام ورئيس تحرير الدورية في افتتاحية العدد التي تحمل عنوان "مصر وليبيا" أن مصر تعد من الدول الإقليمية المؤثرة في ليبيا بسبب تأثرها المباشر باستمرار الوضع المتأزم في ليبيا، وما يخلقه هذا الوضع من تحديات وتهديدات تمس الأمن القومي المصري سواء فيما يتعلق بسعي العناصر الإرهابية للتسلل عبر الحدود المشتركة من اجل تنفيذ عمليات في الداخل المصري.
كما توضح دكتورة إيمان رجب أن ليبيا ظلت مقصدا للمصريين الباحثين عن عمل في الخارج، ولذا يعد تأمين فرص عمل للمصريين هناك بعد استقرار الأوضاع مصلحة رئيسية لمصر. كما أن استمرار حالة الشلل السياسي والإداري للمؤسسات الليبية يجعل عبء تأمين الحدود المشتركة يقع على مصر بصورة كبيرة، حيث لا يوجد في ليبيا شريك مؤسسي يمكن الاعتماد عليه.
وفى الدراسة الرئيسية لهذا العدد والتي تحمل عنوان " مصر والأزمة الليبية: تعقيدات الداخل وجهود التسوية"، يجادل الدكتور أحمد خميس مدرس العلوم السياسية بجامعة حلوان ومؤلف الدراسة الرئيسية في هذا العدد، بأن المدخل الرئيسي للبحث عن فرص تسوية الأزمة الليبية هو القبيلة التي تعد صاحبة الدور المحوري في الأزمة، خاصة مع نجاحها في تشكيل تحالفات متعددة في الفترة التالية على سقوط القذافي. ويرى الدكتور أحمد أن اتفاق الصخيرات الذي تم التوصل إليه في 2015، قد ترتب عليه تحول في خريطة تحالفات القبيلة، وان هذه الخريطة الجديدة من المهم استيعابها جيدا ومراعاتها في أي جهود تبذل من أجل تسوية الأزمة في ليبيا.
وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، تناول الجزء الأول جهود التسوية المصرية للأزمة الليبية في ظل تعقيدات الأزمة. فيما يهتم الجزء الثاني بسياسات الدولة المصرية في التعامل مع الأزمة الليبية، أما الجزء الثالث والأخير فهو عن السيناريوهات المحتملة للأزمة الليبية.
أولا: جهود التسوية المصرية للأزمة الليبية:
تعرضت الدراسة في الجزء الأول لشرح أبعاد الأزمة الليبية بافتراض محورية القبيلة في الأزمة الليبية، كما استعرضت الدراسة أيضا الخريطة الجيو-سياسية للقبائل الليبية وتم تقسيمها إلى مرحلتين تناولت الأولي قبل اتفاق الصخيرات عام 2015، والمرحلة الثانية مرحلة ما بعد الصخيرات. وتنقسم الخريطة الجيو سياسية في المرحلة الأولى، إلى معسكرين: الزنتان وحلفاؤها (حفتر وحلفاؤه)، الذي يتشكل من قبائل ورشفانة و ترهونة والزنتان وورفلة ومدينة زليتين في الغرب الليبي، وعدد من قبائل المنطقة الشرقية مثل العبيدات والبراعصة والعواقير والحاسة. إضافة إلى العسكريين السابقين من بقايا جيش القذافي مثل قوات الصاعقة-وقوامها 3 آلاف مقاتل.
أما المعسكر الآخر فأشارت الدراسة إلى المناوئين لحفتر ويضم هذا التحالف، المؤتمر الوطني العام والحكومة الانتقالية، وكتائب مصراتة وتعد من أكثر الكتائب من حيث العدد والكفاءة القتالية والتجهيزات العسكرية.
ثانيا سياسات الدولة المصرية في التعامل مع الأزمة
أكدت الدراسة على أن ما تقوم به مصر من جهود لتسوية الأزمة الليبية يرجع إلى الأهمية الاستراتيجية لليبيا بالنسبة للدولة المصرية. وتناولت الدراسة بالتحليل السياسات المصرية من خلال محورين، يناقش المحور الأول الأهمية الاستراتيجية لليبيا، وأكدت الدراسة على أهمية ما تمثله ليبيا بالنسبة إلى مصر من أهمية جيو-استراتيجية، يقع على رأسها، الحدود الممتدة بين الطرفين، ومسئولية مصر عن تأمينها منفردة في ظل حالة عدم الاستقرار في ليبيا. إضافة إلى موقع ليبيا في حوض البحر المتوسط؛ مما يجعل منها قاعدة لتوزيع الجيوش وقيادة العمليات الحربية، وتخزين الأسلحة بمختلف أنواعها، وسهولة وسرعة نقلها إلى أي مكان.
كما أكدت الدراسة على أن مصر تعمل على التصدي لنفوذ التنظيمات الإرهابية والمسلحة، خاصة مع تزايد التوقعات بتحول ليبيا إلى مركز بديل لنشاط تنظيم داعش، عقب هزيمته وانحساره وانسحابه من مراكز نفوذه في كل من سوريا والعراق.كما أن حالة الانقسام وعدم الاستقرار التي تسود ليبيا بيئة تجعلها مواتية لانتشاره، كما تعمل مصر على تأمين والحفاظ على العمالة المصرية. وبالتالي يعد استقرار ليبيا ووجود حكومة قوية بها هو ضمانة للأمن القومي المصري. هذا بالإضافة إلى سعي مصر لحل الأزمة الليبية من أجل تعزيز دورها في أي تسويات سياسية داخل ليبيا، بما لا يضر بالمصالح المصرية.
أما المحور الثاني فيحلل الجهود المصرية لتسوية الأزمة في ليبيا. حيث حددت الدراسة الموقف المصري من الأزمة استنادا إلى كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في افتتاح أعمال القمة العربية بمدينة شرم الشيخ في مارس 2015، والتي أكدت على أن "استعادة الأمن والاستقرار في ليبيا لا يحتل فقط أهمية قصوى بالنسبة لمصر لاعتبارات الجوار الجغرافي والصلات التاريخية القديمة، ولكن للإقليم والمنطقة العربية ككل على ضوء تشابك التهديدات ووحدة الهدف والمصير، فضلًا عن الاعتبارات المتصلة بصون السلم والأمن الدوليين الذي بات يتأثر بما تشهده الساحة الليبية من تطورات وتنامي لخطر الإرهاب" .
وأشارت الدراسة أيضا إلى المبادئ الحاكمة لدعم مصر للعملية السياسية في ليبيا، التي أعلنها وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال كلمة مصر في اجتماع اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى حول ليبيا في أديس أبابا في 8 نوفمبر 2016، والتي تمثلت فيما يلي:
- أهمية توحيد الجهود والمحافظة على سلامة العملية السياسية والاتفاق السياسي في ليبيا بحيث تلتزم الجهود الدولية والإقليمية بالإطار العام للعملية السياسية الجارية.
- أهمية توافق العملية السياسية مع تطلعات الشعب الليبي مع عدم فرض أي ترتيبات أو اتفاقات عليه، بما يمكن من استعادة مؤسسات الدولة الليبية باعتبارها السلطة الشرعية الوحيدة التي لها حق استخدام القوة لفرض الأمن مع تفكيك وتسريح كافة الميليشيات الليبية.
- حيادية كافة الجهود المبذولة لدعم العملية السياسية بحيث يتم إدانة أي طرف يفسد العملية السياسية الجارية، وتشجيع كافة الأطراف للقيام بواجبهم لتنفيذ الاتفاق السياسي.
كما ترى مصر أن الأمم المتحدة هي الإطار الوحيد لتسوية الأزمة الليبية، لذا فيجب تكاتف جميع الأطراف الإقليمية والدولية ذات الصلة لدعم جهود الأمم المتحدة خاصة فيما يتعلق بمتابعة تنفيذ اتفاق الصخيرات.
ثالثًا: سيناريوهات الأزمة الليبية:
حددت الدراسة ثلاث سيناريوهاتمحتملة لمستقبل الأزمة الليبية.السيناريو الأولاستمرار الوضع الحالي، ويفترض هذا السيناريو عدم التوصل إلى توافق سياسي بين الأطراف الرئيسية في ليبيا، واستمرار الصراع بين حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن اتفاق الصخيرات عام 2015 والمعترف بها دوليا، برئاسة فايز السراج، وبرلمان غير معترف بهذه الحكومة، وجيش وطني برئاسة المشير خليفة حفتر، ومليشيات مسلحة منتشرة في مختلف أنحاء الدولة.
أما السيناريو الثاني فهو التسوية الكاملة للأزمة، ويفترض هذا السيناريو حدوث توافق سياسي بين الأطراف الليبية، يستند في أحسن الأحوال إلى وجهة النظر الأممية كما يعبر عنها المبعوث الأممي غسان سلامة، بحيث تتم الموافقة على إعلان جدول زمني للانتخابات في ليبيا والالتزام بمخرجاتها وذلك في إطار اتفاق الصخيرات. وقد يتم ذلك بناء على قناعة مختلف الأطراف بتحقيق بعض مصالحها، وأن الحسم العسكري لن يتم لأي منها، وأن استمرار الوضع الحالي ليس في صالح أي طرف بمفرده.
وفيما يتعلق بالسيناريو الثالث فهو تجدد المواجهات المسلحة على نطاق واسع (تصاعد الأزمة)، ويفترض هذا السيناريو تصاعد الأزمة بين الأطراف الليبية، وزيادة التدخلات الإقليمية والدولية فيها، ومن ثم، زيادة وتيرة الفوضى، وعدم الاستقرار على نحو يصبح معه حلم ليبيا الموحدة بعيد المنال. حيث يفترض هذا السيناريو سعي كل طرف داخلي بدعم إقليمي ودولي ما إلى المواجهات المسلحة من أجل فرض السيطرة على الأرض.
وحول مدى توافق أي من هذه السيناريوهات مع المصالح المصرية، فيمكن القول إن الجهود التي تبذل من مصر خلال الفترة الحالية والسابق توضيحها، تشير إلى أن السيناريوهات الأفضل بالنسبة لها هو الانتقال من الوضع الحالي نحو تسوية كاملة للأزمة تضمن الحفاظ على تماسك الدولة الليبية.