د. زياد عقل

خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لم يعد من الممكن فصل كرة القدم عن المشهد السياسي أو عن المجال العام ككل، وذلك نظرًا لكم العوامل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تتقاطع مع كرة القدم كلعبة رياضية في الفترة الحالية. على الصعيد السياسي، أدت عولمة كرة القدم إلى تحويلها إلى إحدى أدوات القوة الناعمة المتاحة أمام الدول. وبات تنظيم البطولات الدولية والقارية بمثابة دور جديد تقوم به الدول لتحقيق مصالحها وترسيخ تواجدها، وهو ما ينطبق على حالة مصر داخل القارة الأفريقية. على الصعيد الاجتماعي، ظهرت تنظيمات جماهيرية في مختلف أرجاء العالم على خلفية تشجيع كرة القدم، وبالتالي أصبحت كرة القدم أحد عوامل التعبئة في المجال العام للمجتمعات في سياقات متعددة. أما اقتصاديا فقد بات هناك الكثير من الاستثمارات ذات الصلة بهذه اللعبة، سواء تلك المتعلقة بانتقالات اللاعبين والأرباح الطائلة التي تدرها، أو المتعلقة بحقوق البث والرعاية، أو تلك التي تتعلق بتنظيم البطولات وما يجلبه هذا التنظيم من عوائد لاقتصادات الدول المُنظمة. تضافر تلك العوامل سويًا يجعل من غير الممكن فصل كرة القدم عن المشهد السياسي الكُلي.  

لقد فازت مصر بتنظيم بطولة كأس الأمم الأفريقية لعام 2019، وهي البطولة التي ستقام للمرة الأولى بقواعد جديدة. أولًا، كانت البطولة تُقام في شهر يناير كل عامين، وبمشاركة 16 فريقا، لكن الاتحاد الأفريقي اتخذ عددا من القرارات العام الماضي بشأن هذه البطولة، كان أهمها إقامتها في شهر يونيو بدلا من يناير، وزيادة عدد الفرق من 16 إلى 24، وهو ما يعني أن الدولة المنظمة يجب أن تكون مؤهلة لاستضافة هذا العدد من الفرق، وتتمتع بقدرات تنظيمية تسمح باستيعاب هذا العدد من المنتخبات المشاركة.

كان من المُقرر أن تتولى الكاميرون تنظيم بطولة عام 2019، لكن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم رأى أن استعدادات الكاميرون لاستضافة البطولة دون المستوى، ما أدى إلى سحب التنظيم منها، وفتح باب الترشح أمام دول القارة. وانحصرت المنافسة بين المرشحين الأبرز هم المغرب، ومصر، وجنوب أفريقيا، وبعد انسحاب المغرب، باتت المنافسة بين مصر وجنوب أفريقيا، وفازت مصر بأغلبية الأصوات، حيث حصلت جنوب أفريقيا على صوت واحد فقط.

ومما لا شك فيه، يعبر التصويت لصالح مصر عن ثقة الاتحاد الأفريقي في قدرة مصر التنظيمية، وكفاءة البنية الأساسية الرياضية في مصر، والتي تطورت كثيرًا خلال السنوات الأخيرة نظرًا للاستثمارات المهمة التي حظي بها قطاع الرياضة، بالإضافة إلى توافر حالة أمنية مستقرة تسمح بإقامة بطولة قارية. الفوز بالتنظيم له عدد من الدلالات والمكاسب، لكنه أيضًا يضع عددا من التحديات أمام اتحاد الكرة المصري -المسئول المباشر عن تنظيم البطولة- وأمام الدولة المصرية المستضيفة للبطولة، وأمام جماهير كرة القدم التي عانت لفترة طويلة من عدم السماح لها بحضور مباريات بطولة الدوري العام، وهي البطولة الأكبر في المشهد الرياضي المصري. لذا، فإن تنظيم كأس الأمم الأفريقية به الكثير من المكاسب والفوائد، لكنه يطرح عددا من التحديات يجب أن تكون الجهات المسئولة مدركة لها، وقادرة على التعامل معها حتى تخرج البطولة بشكل يليق بمصر، وبمكانتها في القارة الأفريقية.

دلالات مهمة

على المستوى السياسي، يعمل النظام السياسي المصري منذ سنوات على إعادة إحياء دور مصر في القارة الأفريقية، نظراِ لأهمية وجود علاقات قوية ومستقرة مع دول القارة، بشكل يضمن الحفاظ على المصالح المصرية والأمن القومي المصري، بالإضافة إلى ارتباط ذلك بمسألة مكافحة الإرهاب. في هذا السياق، تأتي أهمية أدوات القوة الناعمة باعتبارها واحدة من أهم أدوات تنفيذ السياسة الخارجية وتعظيم المصلحة الوطنية. في هذا الإطار، تأتي أهمية البطولة الأفريقية التي تحظى باهتمام كبير من قبل شعوب القارة. بهذا المعنى فإن فوز مصر بتنظيم بطولة 2019 سيعظم من القوة المصرية الناعمة في أفريقيا، بشكل خاص، وسيؤكد دورها كفاعل أساسي في أفريقيا، بشكل عام.

وتتأكد هذه الاستنتاجات في ضوء عاملين. الأول، أن فوز مصر بتنظيم البطولة جاء مكملا للاهتمام الكبير الذي أولته مصر بالقارة الأفريقية خلال السنوات القليلة الماضية، والاهتمام الذي أولاه الرئيس عبد الفتاح السيسي بالمصالح المصرية بالقارة، وهو الاهتمام الذي عكسته بشكل مباشر جولات السيد الرئيس لدول القارة، بالإضافة إلى المنتديات الأفريقية العديدة التي احتضنتها مصر. الثاني، أن المدة الزمنية بين فتح باب الترشح لتنظيم البطولة والإعلان عن فوز مصر بتنظيمها كانت مدة قليلة، ومن ثم فإن فوز مصر بالتنظيم -وبهذه النسبة المرتفعة من الأصووات- جاء ترجمة مباشرة للرصيد السياسي المصري المهم بالقارة.

على المستوى الأمني، يشير فوز مصر بالتنظيم بأعلى نسبة من الأصوات، إلى تغير رؤية وإدراك الفاعلين الأفريقيين للحالة الأمنية في مصر، وهو ما يعد مكسب استراتيجي في حد ذاته. فبعد كل ما بذلته القيادة السياسية في الأعوام التي مضت في مكافحة الإرهاب الذي انتشر بعد ثورة 30 يونيو، فإن الاعتراف بتحسن واستقرار الحالة الأمنية في مصر، واختيارها لتنظيم بطولة قارية، هو بالتأكيد دليل على نجاح الدولة المصرية في صنع حالة من الاستقرار تسمح باستضافة جماهير من كافة دول القارة. والجدير بالذكر أن الحالة الأمنية ومدى استقرارها هي أحد العوامل الثابتة لدى الاتحادات الرياضية في اختيار المنظمين للبطولات الدولية أو القارية.

هذه الدلالات السياسية والأمنية تفتح المجال أمام الحديث عن المكاسب السياسية والأمنية التي يمكن أن تحققها مصر من خلال تنظيم البطولة. لكن رغم هذه المكاسب، هناك الكثير من التحديات التي تفرضها هذه البطولة أمام مصر، خاصة في وضع كرة القدم في السياق المحلي في الوقت الراهن. بمعنى آخر، فإن تعظيم المكاسب المتوقعة سيظل مرهونا بالقدرة على مواجهة هذه التحديات.

تحديات

تُعد العملية التنظيمية لإدارة الجماهير هي التحدي الرئيسي الذي يواجه مصر في تنظيم تلك البطولة. لقد عادت جماهير كرة القدم للمدرجات خلال الموسم المحلي الحالي، لكن بأعداد محددة لا تتجاوز 5000 مشجع لكل فريق. وفي سياق الدوري المصري، يكون للجهات الأمنية الكلمة العليا -وهو أمر منطقي- في تنظيم الحضور الجماهيري للمباريات. وفي بعض الأحيان تتغير الملاعب التي تلعب عليها الأندية لأسباب أمنية، وفي أحيان أخرى، يُمنع الجمهور من حضور المباراة نظرا لحساسيتها، وكان المثال الأخير هو المواجهة بين النادي الأهلي ونادي بيراميدز، نظرًا للتوتر المستمر بين الناديين، حيث تم إقامة المبارة بالفعل دون وجود جمهور.

دلالات هذا المشهد تقول إنه مازالت هناك بعض الحساسية إزاء مسألة الحضور الجماهيري في مدرجات ملاعب كرة القدم. جمهور الكرة في مصر كان محروما من التواجد في المدرجات لسنوات عديدة منذ أحداث استاد بورسعيد في فبراير 2012. هذه البطولة من المتوقع أن تشهد تواجد جماهيري كثيف، وهو ما سيضع الكثير من التحديات أمام الجهات المسئولة عن تأمين المباريات. ونظرًا لشعبية لعبة كرة القدم في مصر، يطرح تنظيم هذه البطولة عددا من التساؤلات حول حاجة منظومة كرة القدم في مصر لمنظومة إدارية تكون قائمة على التواجد الجماهيري في المدرجات.

علي الرغم من التوتر المتواجد بين الجماهير في سياق المسابقة المحلية في مصر، وكان آخرها ما حدث في مباراة الزمالك والاتحاد السكندري الأسبوع الماضي بين الجماهير من مشادات، يظل المنتخب المصري قيمة قادرة على تجميع الآراء المتعارضة، ووجهات النظر المختلفة في سياق كرة القدم. ولعل الدليل على ذلك هو تنظيم مباريات تصفيات كأس العالم، فحين كانت تقام مباريات الدوري العام دون جمهور، كانت تقام مباريات المنتخب المصري في ظل حضور جماهيري يتجاوز 80000، خاصة في مباريات المنتخب القومي أمام أوغندا والكونجو. ومن ثم، فإن القيمة الوطنية لمنتخب مصر ستقلل بالتأكيد من احتمالات التوتر بين الجماهير، لكن تظل هناك أبعاد تنظيمية في مباريات كرة القدم من الضروري أن يتم مراعاتها.

خلاصة القول، إنفوز مصر بتنظيم كأس الأمم الأفريقية لعام 2019 يعد أحد نجاحات السياسة الخارجية المصرية على الصعيد الأفريقي، كما أنه يشير إلى تنوع في استخدام مصر لأدوات القوة الناعمة. لكن على الجانب الآخر، هناك العديد من الملفات ذات الصلة بالسياق المحلي لكرة القدم يتعين معالجتها حتى تخرج البطولة بصورة تليق بمصر وإمكانات البنية الأساسية الرياضية المصرية. وبالتالي، فإن المرحلة القادمة تحتاج للكثير من التنسيق بين الجهات المعنية بالرياضة، وبالتحديد بكرة القدم من ناحية، وكل من الجهات الأمنية والوزارت المسئولة عن توفير الخدمات اللوجيستية ذات الصلة. ولعل تنظيم تلك البطولة في هذا التوقيت يدلل على العلاقة المهمة بين الدولة من ناحية، وكرة القدم وقيمتها السياسية في مصر، من ناحية أخرى، وهي علاقة قائمة منذ سنوات طويلة. ومن الممكن أن تكون هذه البطولة فرصة لمصر لتمديد نفوذها في القارة الأفريقية بآليات غير تقليدية، لكنها من الممكن أيضًا أن تكون اختبارًا تنظيميًا لن يصب الفشل فيه في مصلحة مصر.