حراك سياسي وفشل فني، هو ملخص حصيلة إدارة أزمة سد النهضة، فالحراك السياسي الذي تبنته مصر منذ بداية الأزمة عام 2011، لم يفلح حتى الآن في حلحلة الأزمة رغم مرورها على مدار السبع سنوات بالعديد من المحطات والتحولات والتطورات العاكسة لمسار المحادثات بين الدول الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا)، والعاكسة أيضًا لتغير البيئة الحاكمة للمحادثات.
هذا الحراك السياسي ووجه بالرفض من دولتي السودان وإثيوبيا في المرحلة الأولى (2011– 2013) ومرونة شكلية (2013– 2014) وقبول متحفظ (2015 – 2018)، حيث حرصت كل من إثيوبيا والسودان على تصدير الأبعاد الفنية كأساس للأزمة، ولذا ظل المسار الفني عاجزًا عن كسر حواجز أزمة الثقة والحساسيات القديمة، أو مترجمًا لواقع تسعى إثيوبيا لترسيخه من خلال اتفاق عنتيبي وسد النهضة، أو داعمًا لطموح تغيير آليات التعاون المستقبلي في حوض النيل.
هذه الحصيلة التي لم تسفر سوى عن اتفاق مبادئ يُمثل إطارا عاما وقعته البلدان الثلاثة في مايو 2015، واتفاق على المكتبين الفرنسيين الاستشاريين دون التوافق على التقرير الاستهلالي الأول، وتقرير لجنة الخبراء الدوليين عام 2012. وتشير هذه الحصيلة إلى عدد من النتائج والدلالات.
أولًا: الحراك السياسي
استند هذا الحراك بالأساس إلى دبلوماسية القمة التي حرصت مصر على تفعيلها كآلية وقناة تواصل مباشر، والتي أسهمت في تحسين العلاقات الثنائية بين كل من إثيوبيا والسودان، ودعم ركائز العلاقات في اتجاهاتها المتعددة بالقدر الذي أسهم في تسكين ومحاصرة التأثيرات السلبية لجمود مسار المحادثات حول السد في كثير من الفترات، والحد من تداعيات حالة الركود التي فرضها المسار الفني.
فقد شهد عام 2018 حراكا سياسيا واضحا بين مصر وإثيوبيا، بالإضافة للسودان. ورغم محدودية تأثيره على دفع المسار الفني، وتجاوزه للكثير من التوقعات التي كانت تراهن على أن المسار السياسى يمكن أن يُمثل قوة دفع وعامل تحفيز لإحداث حراك حقيقى في ملف سد النهضة، والانتقال من إطار المحادثات إلى إطار التفاوض، إلا أن الحراك السياسى ظل محدود التأثير، وهو ما يؤكد على ثبات الرؤية والطموح الإثيوبى، وأيضًا الآليات، رغم تغيير القيادات.
الحراك السياسى الذى اتسعت دائرته وتعددت مستوياته بدءًا من الدور الرئاسي وما ارتبط به من تواصل شخصي وتفعيل لدبلوماسية القمة، ومرورًا باللقاءات السداسية (التي جمعت وزراء الخارجية والري في البلدان الثلاث) عبر جولاتها الخمسة والتي بدأت في ديسمبر 2015، وانتهاءً باللقاءين التساعيين (جمعت وزير الخارجية ووزير الرى ورئيس جهاز المخابرات في البلدان الثلاث)، هذا التطور النوعي في اللقاءات والمحادثات، أوضح مدى تشابك ملف المياه وسد النهضة بعدد من الملفات شديدة الحساسية والتقاطع حتى ولو بدت أنها منفصلة، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار عند تقييم تلك المحادثات والبحث في نتائجها. فما تشهده منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي من إعادة هندسة للتوازنات الإقليمية والقوى من جانب، وتعكسه خريطة المصالح وتوجهات القوى والشركات الدولية والإقليمية من جانب ثان، يُشير بوضوح إلى مدى تعقد القضايا وتشابكها.
فقد بدا الحراك المصاحب للقاء التساعي الأول والثاني في العاصمتين الخرطوم وأديس أبابا في أبريل ومايو 2018، محاولة لتجاوز جمود المسار الفني، والتوافق على التقرير الاستهلالي الذي قدمه المكتب الاستشاري الفرنسي وتتحفظ عليه السودان وإثيوبيا، وربطه بمنظور أكبر وأعمق لإدراك مهددات الأمن القومي من جانب كل دولة. وبالرغم من أن اللقاء التساعي الأول لم يُسفر عن مسار محدد، وارتبط فقط بتفعيل توصيات لقاء القمة الثلاثية في أديس أبابا في يناير 2018، جاء اللقاء التساعي الثاني في العاصمة أديس أبابا بعدد من المخرجات التي أسهمت في تحريك المسار الفني، ولكن بدون نتائج ملموسة. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن مخرجات هذا اللقاء تمثلت في وثيقة تضمنت ثمانية بنود، هي:
- عقد لقاءات قمة ثلاثية بين قادة الدول الثلاث بشكل دوري كل 6 أشهر بالتبادل بين البلدان الثلاثة.
- الاتفاق على إنشاء صندوق الاستثمار المشترك، بهدف دعم وخدمة أغراض البنية التحتية والتطوير في الدول الثلاث، بحيث تتفق الدول الثلاث على اجتماع مسئوليها لبحث وإقرار السبل المناسبة لإنشاء الصندوق من أجل رفع النتائج إلى قادة الدول، على أن تستضيف القاهرة الاجتماع الخاص بكبار المسئولين في 3-4 يوليو 2018.
- الموافقة على دعوة مصر لاستضافة اجتماع كبار مسئولي الدول الثلاث لوضع الشكل والإطار المناسب لعمل صندوق دعم البنية التحتية بالقاهرة في 3-4 يوليو 2018.
- تقديم خطة الملاحظات والطلبات الخاصة بالتقرير الاستهلالي الخاص باستكمال بناء سد النهضة للمكتب الاستشاري الفرنسي.
- ضرورة تسليم رد على الخطاب من المكتب خلال 3 أسابيع من تقديمه، ومناقشة الرد في اجتماع وزاري بعد أسبوع من تقديمه، على أن يعقبه اجتماع ثلاثي خلال الفترة من 18-19 يونيو في القاهرة.
- تأسيس فريق بحثي علمي قومي مستقل لدراسة سبل التعاون فيما بين الدول الثلاث، ومناقشة السيناريوهات المختلفة فيما يتعلق بعملية تشغيل سد النهضة وتخزين المياه. على أن يتكون الفريق البحثي من 15 عضوًا، يتم تمثيل كل دولة بخمسة أعضاء.
- تسليم الفريق البحثي نتائج مناقشاته بعد 3 أشهر، وتحديدًا في 15 أغسطس 2018 لوزراء المياه والري كي يتم تقديمه لأعضاء الاجتماع التساعي.
ثانيًا: مسار الأزمة
فرضت الكثير من المستجدات والتطورات أهمية وأولوية التعاطي المباشر مع العلاقات الكلية، بحيث تتعاطى مصر مع مسار الأزمة في إطار العلاقة الكلية مع كل من السودان وإثيوبيا. فمن ناحية، فرض تقاطع العديد من الملفات مع ملف سد النهضة، أهمية الفصل بين مسارات تلك الملفات، لاسيما وأن التشابك القائم بالفعل يفرز الكثير من التداعيات المتبادلة. فعلى مسار العلاقات السودانية، كان التوتر والتباين الواضح في التوجهات والمصالح أعمق من أن يوفر الحد الأدنى المطلوب لتنسيق المواقف، لاسيما خلال فترة حكم المجلس العسكري وفترة حكم الرئيس منصور التالية لحكم الإخوان. وبالنسبة لإثيويبا، فقد كان طموح رئيس الوزراء –آنذاك- مليس زيناوي في صياغة واقع جديد لمعادلة التعاون المائي، بل التعاون بشكل عام في منطقة حوض النيل بعيدًا عن الأسس القديمة والحقوق التاريخية والمكتسبة لمصر، محددًا ومرتكزًا للموقف الإثيوبي من مصر حتى الآن. كما أن تقاطع الرؤى والمصالح بين إثيوبيا والسودان بشكل عام، وتجاه سد النهضة بشكل خاص، قد عزز من واقع التنسيق والتوافق على المواقف طوال مسار المحادثات.
هذه المحددات التي حكمت العلاقات –وبدون الدخول في كثير من التفاصيل– دفعت القيادة المصرية لأهمية الفصل بين فشل مسار المحادثات ومسار العلاقات مع التوافق على المنهاج السوداني والإثيوبي الداعي لأولوية صياغة العلاقات على أسس جديدة وداعمة للتوافق والتعاون ومحجمة للتوترات. بمعنى أدق، النظر إلى المحصلة الكلية للملفات والتفاهمات مع إعطاء الفرص للحوار والمحادثات وتجنب الصدام.
وبالتالي، تشير هذه المحصلة المحدودة بدورها إلى أهمية وأولوية تقييم المرحلة السابقة في ظل الحاجة لصياغة تفاهمات إستراتيجية معبرة عن المصالح العليا للدول الثلاث، وإن كان تعطيل العمل في سد النهضة –مؤقتًا– قد أعطى وقتًا وفرصة محدودة لإعادة ترتيب الأولويات وتقليل مساحات التوتر وتجنب الصدام، فإن المكتسبات التي تحققت على صعيد التفاهمات الإستراتيجية، تبدو على المحك، ففض الاشتباك بين مسار أزمة سد النهضة وشمولية العلاقات مع إثيوبيا، أو حتى محاصرة تداعياتها على باقي مسار العلاقات والمجالات، أمر لن يفلح مستقبلا إذا ما استمر المنهاج الإثيوبى ورؤيته على ماهو عليه.
ويقودنا ذلك لجوهر التعثر وعدم القدرة على إحداث أي نقلة نوعية في المحادثات رغم الجهود والمرونة المصرية، والتى تتجلى فى النقاط التالية:
- الإدراك المتباين للمصالح بين الدول الثلاثة ما يزال قاصرًا على تجاوز الكثير من التعقيدات والمصالح القائمة والتى تتباين في حساباتها إلى درجة قد تبدو متعارضة في الأولويات والتوازنات الإقليمية.
- محدودية القيمة المضافة لنمط العلاقات القائم بين الدول الثلاث مقارنة بأنماط وتفاعلات العلاقات لكل من السودان وإثيوبيا مع أطراف وقوى إقليمية ودولية أخرى.
- التحدى التنموي الداخلي في الدول الثلاث يفرض نفسه على مسارات التعاون الخارجي، وأولويات التوجهات الحاكمة لسياساتها الخارجية.
- محفزات البيئة الإقليمية والتطورات الدولية ما تزال تفرض إيقاعها السلبي والداعم لاستمرار تباين الأولويات والمصالح، لاسيما مع تعدد القوى الدولية الداعمة للتنافس والسيطرة على الموارد الطبيعية.
تشير هذه السمات التي فرضت نفسها على واقع المحادثات منذ تفجر أزمة سد النهضة وحتى الآن، رغم تغيير بعض التفاصيل وتحسن الأجواء المحيطة بالمحادثات، إلى أن جوهر هذه السمات وما فرضته من قيود وحسابات لم يعط أي فرصة لحدوث انفراجة حقيقية، الأمر الذى يفرض تحويل هذه السمات أو القيود إلى فرص ومسارات لنهج تشاركى داعم لإدارة التعاون المائى كمسار لصياغة قواعد حاكمة ومترابطة لأسس وركائز جديدة لصياغة العلاقات بين الدول الثلاث في ظل بيئة تتسم بالسيولة والتنافس والاضطراب، بما يعنى أهمية البحث عن مفاتيح أو مداخل جديدة تدفع نحو الانتقال إلى مرحلة تفاوض حقيقية، وصياغة تفاهمات استراتيجية قادرة على تعظيم الرؤى والمصالح المشتركة في الفترة القادمة.