في الخامس عشر من ديسمبر 2018، انتهت نشاطات مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي "كوب-24" COP24، والذي عقد في مدينة كاتوفيتسه البولندية لمدة أسبوعين، بمشاركة نحو 22 ألف شخص من حوالي مائتي دولة، وذلك بالتوصل إلىما يُسمى "حزمة كاتوفيتسه للمناخ" Katowice Climate Package، والتي تُحدد القواعد العملية لتنفيذ "اتفاق باريس" التاريخي لمواجهة التغير المناخي، الموقع في عام 2015، والذي سيدخل حيز التنفيذ في عام 2020.
هذه الحزمة، التي استغرق إعدادها ثلاث سنوات، وتهدف إلى رسم "خارطة طريق" للكيفية التي سيكافح بها العالم التغير المناخي خلال العقود القادمة، تتسم بدرجة من المرونة حيال الدول النامية، وتحدد كيفية إبلاغ الدول عن تعهّداتها بالحد من انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومراقبتها، وتحديث خطط خفض هذه الانبعاثات. كما تتضمن هذه الحزمة أيضا مجموعة من الإرشادات تتعلق بالعديد من المسائل المهمة، مثل: كيفية توفير التمويل لدعم الدول النامية لمساعدتها في مواجهة التغير المناخي، ورفع حد هذا التمويل اعتبارا من عام 2025 لتتجاوز المستهدف الحالي (توفير 100 مليار دولار سنويًا اعتبارا من عام 2020)، وكيفية إجراء الجرد العالمي Global Stocktakeلتقييم فعالية العمل المناخي في عام 2023، وكيفية تقييم التقدم المتحقق في تطوير ونقل التكنولوجيا المتعلقة بمواجهة التغير المناخي.
ومع ذلك، لم ينجح المشاركون في "كوب-24" في الاتفاق على عدد من القضايا الرئيسية التي لا يزال يتعين حلها في المستقبل، والتي من أبرزها مسألة قيام الدول بالوفاء بجزء من أهداف التخفيف المحلية من خلال استخدام "آليات السوق" المرنة لتقليل تكاليف خفض الانبعاثات، وفي مقدمتها ما يعرف بـ"أسواق الكربون". ومن ناحية ثانية، اعتبرت بعض الدول، التي تواجه الآن فيضانات مدمّرة وجفاف بسبب التغيّر المناخي، أن حزمة القواعد التي تم الاتفاق عليها في "كوب-24" "تنقصها الطموحات الجريئة" لخفض الانبعاثات. ومن جهة ثالثة، طالب رئيس الوفد المفاوض لتكتل مجموعة 77 للدول النامية والصين، السفير المصري وائل أبو المجد، وعدد كبير من منظمات المجتمع المدني، بضرورة الاهتمام بإجراءات "الخسارة والضرر"، أي أن تدفع الدول الغنية الأموال للدول الفقيرة من أجل مساعدتها على مواجهة تأثيرات تغيّر المناخ، مشيرين إلى أن قواعد الاتفاق "أحالت حاجات الدول النامية الطارئة للتكيف مع التغير المناخي إلى وضعية من الدرجة الثانية".
وقد جاء كوب 24، وهو واحد من أضخم التجمعات الدولية المتعلقة بالتغير المناخي، بشكل عام في سياق العديد من الأحداث والتطورات التي لا تدعو للتفاؤل بشأن نجاحه. حيث بدأت أعماله على وقع حدثين مهمين. الأول، يتعلق بإنكار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الحرائق التاريخية وغير المسبوقة التي ضربت كاليفورنيا قد جاءت بسبب تغير المناخ وزيادة الجفاف. الثاني، هو وقوع الاحتجاجات الفرنسية الأولى من نوعها في العالم ردا على "ضريبة الكربون" التي أرادت الحكومة الفرنسية أن تكون نموذجية، كمؤشر على بدء تطبيق "اتفاق باريس لمواجهة التغير المناخي". كما ساهم في عرقلة المفاوضات في كوب 24 أيضا انخفاض أسعار النفط العالمية في الفترة الأخيرة بشكل دراماتيكي بفعل زيادة الإنتاج العالمي، وذلك بالتنسيق بين أكبر منتجين (الولايات المتحدة والسعودية)، وهو ما يؤدي إلى زيادة في حجم الاستهلاك والانبعاثات، خصوصًا بعد انسحاب إدارة الرئيس ترامب من "اتفاق باريس"، والدخول في حروب تجارية كبرى، ما يدشن العودة إلى قواعد السوق الأصلية: "طاقة أرخص وأكثر تلويثا تساوي قدرة أكبر على المنافسة في اقتصاد السوق".
الرسائل العشر
ومع ذلك، نجح كوب 24 في توجيه العديد من الرسائل المهمة، لعل من أبرزها ما يلي:
أولا، إننا نحن البشر في مشكلة عميقة مع تغير المناخ، حيث تسير وتيرة التغير المناخي بشكل أسرع كثيرا مما نحن عليه لمواجهتها، وأنه يجب علينا اللحاق بها عاجلا، وليس آجلا، قبل أن يفوت الأوان. فقد أصبحت مواجهة التغير المناخي بالنسبة للكثيرين في العالم مسألة حياة أو موت، في ضوء ما نشهده من تأثيرات مناخية مدمرة تتسبب في دمار كثير من أنحاء العالم. ومع ذلك، فإننا ما زلنا لا نقوم بما فيه الكفاية، ولا نتحرك بالسرعة الكافية، لمنع حدوث خلل مناخي سيكون لا رجعة فيه وكارثي.
ثانيا، الاعتراف بالعلم أمر حاسم لمواجهة التغير المناخي العالمي.ففي أكتوبر الماضي (2018)، قدمت "الهيئة الحكومية الدولية للتغير المناخي" (IPCC) تقريرها السنوي حول ما يسمى "فجوة الانبعاثات"، وهي الفجوة بين مستويات الانبعاثات المتوقعة عام 2030 مقارنةً بمستويات تتفق مع هدف إبقاء مستوى ارتفاع درجة الحرارة العالمية لهذا القرن عند أقل من درجتين مئويتين. وتشير الأدلة التي تم الإعلان عنها إلى أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية في عام 2017 قد ازدادت عن السنوات السابقة، حيث وصلت إلى مستويات تاريخية عند 53.5 طن من ثاني أكسيد الكربون! وفي هذا السياق، خلص مؤلفو التقرير إلى أن الدول يجب أن ترفع طموحها بمقدار 3 أضعاف من أجل الوصول إلى هدف الحفاظ على ارتفاع درجة حرارة الأرض دون درجتين مئويتين ورفع الطموحات إلى مقدار 5 أضعاف من أجل الوصول إلى 1.5 درجة مئوية. كذلك رجّح التقرير أن يؤدي استمرار الاتجاهات الحالية إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض بنحو 3 درجات بحلول نهاية هذا القرن، وسيكون ذلك كارثة على استمرار حياة البشر فوق هذا الكوكب.
ثالثا، يوفر اتفاق باريس إطارا ملائما للعمل في مواجهة التغير المناخي العالمي، لذلك يجب علينا تفعيله. فقد دخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ في 4 نوفمبر 2016، وبلغ عدد الدول الموقعة عليه حتى كتابة هذه السطور 184 دولة (من أصل 194 دولة ملتزمة بالاتفاقية الإطارية لتغير المناخ التي أبرمت عام 1992. ويتضمن هذا الاتفاق هدف الحد من متوسط الزيادة العالمية في درجة الحرارة إلى ما دون درجتين مئويتين عن المستوى الذي كان سائدًا قبل المرحلة الصناعية، وبذل الجهود للحد من ارتفاع درجة الحرارة عند درجة ونصف مئوية. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، تم تكليف الحكومات بتطوير خططها الخاصة بالعمل المناخي و"المساهمات المحددة وطنيا".كما يهدف "اتفاق باريس" أيضا إلى زيادة قدرة الأطراف على التكيف مع الآثار السلبية لتغير المناخ، وتحقيق تدفقات مالية تتوافق مع الطريق نحو خفض الانبعاثات المتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، وبالتالي مواجهة تغير المناخ والتكيف معه.
رابعا، لدى الدول النامية والمتقدمة على السواء مسئولية جماعية للاستثمار في تجنب الفوضى المناخية العالمية. وفي هذا السياق، فإن العالم في حاجة إلى تعبئة الموارد بشكل متضافر لإجراء انتقال ملموس في خمسة مجالات اقتصادية رئيسية، هي: الطاقة، والمياه، واستخدام الأراضي، والصناعة، والمدن. وفي هذا السياق، لا يزال من الضروري بناء حوالي 75 في المائة من الهياكل الاقتصادية الأساسية اللازمة لمواجهة التغير المناخي بحلول عام 2050. ولذلك يحتاج صانعو القرار في الحكومات، والمستثمرون، إلى المراهنة على "الاقتصاد الأخضر"، مما يعني ضرورة القضاء على إعانات الوقود والاستثمار في تكنولوجيات الطاقة النظيفة.
خامسا، إن الروح الدولية لا تزال حية في مواجهة التغير المناخي رغم أن دول كثيرة شعرت بالقلق نتيجة انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من اتفاق باريس، حيث شهد كوب 24 تعهد العديد من الجهات الحكومية وغير الحكومية في العديد من الدول، وحتى من داخل الولايات المتحدة، بمواصلة السعي لتعزيز السياسات الصديقة للبيئة.وبالتزامن مع ذلك، ظهرت أصوات جديدة تدافع عن ضرورة مواجهة التغير المناخي. حيث كان من أكثر الأشياء اللافتة للنظر، في كوب 24، هو حضور الشباب بأعداد كبيرة جدا مقارنة بأي نسخة سابقة من المؤتمر، من أجل التعبير عن عزمهم العمل معا لمواجهة التغير المناخي.
سادسا، إعطاء التمويل دفعة إيجابية. في هذا السياق، أعلنت مجموعة البنك الدولي عن تقديم تمويل لأنشطة مكافحة تغير المناخ، بقيمة إجمالية تصل إلى 200 مليار دولار على مدى خمسة أعوام خلال الفترة من 2021 إلى 2025. ويشتمل هذا التمويل على الإنفاق على تدابير التكيف مع تغير المناخ والقدرة على مواجهته. كما ستساند مجموعة البنك الدولي -وفقا لما أعلنته- إدراج اعتبارات المناخ في أنشطة تخطيط السياسات، وتصميم الاستثمارات، وتنفيذها في القطاعات الرئيسية كالطاقة والغذاء وتخطيط المدن. ومع ذلك، أقر الأمين العام للأمم المتحدة بأن موضوع التمويل لا يسير على ما يرام، خاصة فيما يتعلق بعمل صندوق المناخ الأخضر. فهناك -على حد قوله- مشكلة إدارية، ومشكلة تمويل، ومشكلة شفافية فيما يتعلق بتدفقات الأموال العامة والخاصة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية. ومن أجل إصلاح عمل هذا الصندوق تعهدت ألمانيا، كأول دولة، بتقديم 850 مليون دولار.
سابعا، ما تزال معظم الدول العربية، خاصة غير البترولية منها، تنتظر من الدول المتقدمة وضوحا أكثر بشأن المساعدات المالية والتكنولوجية التي يدعو اتفاق باريس الدول المتقدمة لتقديمها إلى الدول النامية لمساعدتها على التكيف مع التغير المناخي. وفي الوقت نفسه، توجد قناعة لدى كثير من الخبراء ومؤسسات المجتمع المدني مفادها أن الجهود التي بُذلت حتى الآن في المنطقة العربية للتصدي للتغير المناخي والتكيف مع انعكاساته لا تزال دون المستوى المطلوب، مشيرين إلى أن صانعي القرار السياسي في العالم العربي لم يعوا بعد أن أصبحت انعكاسات التغير المناخي تهدد الإنسان العربي.
ثامنا، توجد مرارة يشعر بها الأفارقة تجاه عدم تنفيذ الدول المتقدمة لوعودها الخاصة بتقديم العون المالي والفني لمواجهة التغير المناخي. وكان هذا، بالتحديد، ما يلح عليه رئيس "التحالف الأفريقي للعدالة المناخية" أوجستن ديامنشي، الذي أشار إلى أن هذه الدول لم تنفذ أيا من تعهداتها الخاصة بدعم المبادرتين الأفريقيتين التي أعلن عنهما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مؤتمر باريس عام 2015، والتي تتعلق إحداهما بمصادر الطاقة الجديدة والمتجددة بينما تُعنى الأخرى بموضوع التكيف مع انعكاسات التغير المناخي.
تاسعا، يخشى كثير من الخبراء أن يكون تقديم الدول المتقدمة مبلغ الـ 100 مليار دولار التي تعهدت بها للدول النامية من أجل مواجهة التغير المناخي بحلول عام 2020 على حساب المساعدات التنموية، مشيرين إلى ضرورة أن يكون تمويل المناخ من مصادر جديدة وإضافية وحكومية.
عاشرا، إن مسئولية التخفيف من آثار تغير المناخ لا تقع فقط على الحكومات؛ فالجميع -بما في ذلك قادة قطاع الأعمال والمستثمرين والمجتمع المدني- يتوجب عليهم المساهمة في تحمل هذه المسئولية. ويتطلب ذلك شكلا جديدا من التعددية الشاملة، بحيث نستطيع تطبيقه من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتي تكمل التزامات اتفاقية باريس.
على أية حال، يمكن القول إن المجتمع الدولي، في كوب 24، زوّد اتفاق باريس بأدوات لتنفيذه، لكن من دون أن يقطع وعودًا بمزيد من الخطوات والسرعة ضد ارتفاع حرارة الأرض، على الرغم من تحذيرات العلماء المتواصلة بأن "الأرض تحترق"، وهو الأمر الذي يؤكده ما نشاهده جميعا من ارتفاع وتيرة الكوارث البيئية التي تعصف بمختلف أنحاء العالم. وبالتالي، يكشف كوب 24 عن أن "المعركة لم تنته" في التعامل مع التغير المناخي. ولكسب هذه المعركة، يبدو أن مقترح الرئيس البولندي لتعزيز التعاون الدولي في مواجهة تغير المناخ جدير بالدراسة. ويقوم هذا المقترح على أن تضع القيادات السياسية في العالم تغير المناخ وسبل مواجهته على قمة أجنداتهم واعتبارها ضرورة ملحة وسبيلا لتحقيق "مكاسب للجميع"، لا سيما على مستوى جذب الاستثمارات الأجنبية في مجال الطاقة، واستكمال التعهدات المتضمنة في اتفاق باريس لتغير المناخ ومحاولة تحقيق تكامل بين فحواها والسياسات العامة على مستوى الدول، وإطلاع الرأي العام على ما يتم تنفيذه حكوميا بشأن تغير المناخ وسبل المواجهة ليس فقط تحقيقا لمبدأ الشفافية، وإنما أيضا إنفاذا لمبدأ المشاركة المجتمعية وزيادة الوعي بأبعاد هذه القضية متشابكة الأبعاد.