صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

دخلت الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران حيز التنفيذ في الخامس من نوفمبر الجاري (2018)، وهي الحزمة الأشد التي تشمل قطاعات الطاقة والنفط والنقل البحري والقطاع المصرفي، بالإضافة إلى كافة المعاملات المالية الأجنبية مع البنك المركزي الإيراني. الهدف من هذه الحزمة الثانية هو الوصول بعائدات النفط العراقية لمستوياتها الدنيا، مما يفرض حالة من الحظر العالمي على قدرة طهران على الحصول على العملات الأجنبية. وبالتالي، فإن هذا المستوى من العقوبات سيفرض قيودا كبيرة على تعاملات واستثمارات الدول في قطاع الطاقة والنفط الإيراني. وهو ما يفتح المجال للحديث عن تأثيرات هذه العقوبات على الدول المرتبطة بإيران ارتباطًا اقتصاديًا كبيرًا وعلى رأسها العراق، الذي ظل منفذًا اقتصاديًا مهمًا لإيران، تجاوزت عبره حزمة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن بعد انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018.

واقع الأمر، إن هذه التطورات تمثل واحدة من أهم التحديات الخارجية التي تواجه الحكومة العراقية الجديدة، ما يفرض تساؤلات حول التأثيرات المتوقعة على علاقاتها بإيران، وقدرتها على الخروج من تأثيرات منعطف العقوبات الأمريكية على إيران، ومدى ما يمثله ذلك من فرصة مواتية ليتخلص العراق من قبضة إيران على توجهاتها الخارجية، والاقتراب أكثر من عمقه العربي. لاسيما أن هدف الحزمة الثانية من العقوبات يتجاوز هدف إجبار إيران على إعادة التفاوض بشأن برنامجها النووي، وإنما أيضا استهداف مشروعها الإقليمي ككل في منطقة الشرق الأوسط الذي يعتبر العراق إحدى حلقاته الرئيسية، خاصة بعد أن هددت الإدارة الأمريكية الحكومة العراقية بأن تشملها العقوبات ما لم تلتزم بتنفيذها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العراق يُعد أكبر المتضررين من العقوبات الأمريكية على إيران، سواء في حزمتها الأولى أو الثانية؛ نتيجة اعتماده الكبير على مشتقات الطاقة، فضلا عن اعتماد الأسواق العراقية بنسبة كبيرة على المنتجات الإيرانية؛ خاصة مواد البناء والمواد الغذائية والسيارات، وهو ما يعكسه حجم التبادل التجاري الهائل بين البلدين. فوفقا لمصادر وزارة التجارة العراقية تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال عام 2017 ستة مليارات دولار. ومن ثم، فإن الاقتصاد العراقي سيتأثر بالضرورة بتداعيات هذه العقوبات، وربما يصل إلى مرحلة الركود الحاد في الأسواق.

ويلاحظ أن حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي قد تعاملت مع المرحلة الأولى من العقوبات الأمريكية على إيران عبر تفاهمات واستثناءات بشأن المعاملات المالية بين البلدين. أما حكومة عادل عبد المهدي فتلقت الحزمة الثانية من العقوبات على إيران ببيان صدر عن وزارة الخارجية رفضت فيه بيان السفارة الأمريكية في بغداد واعتبرته مخالفا لـ"الأعراف الدبلوماسية والاحترام المتبادل لسيادة الدول كمبدأ راسخ في القانون الدولي"، وذلك لأنه تطرق إلى أمور تتعلق بالشئون الداخلية للعراق؛ حيث انتقد بيان السفارة وضع "هيئة الحشد الشعبي" - والتي تحولت لتيار سياسي مشارك في الحكومة الحالية- والدعم المادي والسياسي لها من قبل إيران وتهديدها بأن تشمل العقوبات قيادات تلك الهيئة، ما اعتبرته الحكومة العراقية الجديدة تدخلا سافرا في الشأن الداخلي العراقي. كما انتقد رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي العقوبات الأمريكية على إيران باعتبار أن بلاده ترفض فكرة حصار الدول لأنه بمثابة حصار للشعوب وليس لسلطات الدولة. من تلك المنطلقات أشارت الحكومة العراقية إلى أنها تلتزم بالعقوبات الدولية وليست العقوبات الفردية، فضلا عن تهديد بعض القوى السياسية العراقية المحسوبة على إيران بأنها لن تلتزم بالعقوبات، وستعمل على دفع الحكومة لمد إيران بما تحتاجه للتخفيف من تداعيات أزمة العقوبات المفروضة عليها، وهو ما تؤكده مساعي قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني بالضغط على تلك القوى السياسية ودفعها لممارسة نوع من الضغوط على حكومة عبد المهدي لإبداء رفض علني لتلك العقوبات، الأمر الذي فتح باب الاستقطاب السياسي في العراق مجددا بين القوى المؤيدة لإيران والأخرى المعارضة لها. 

العقوبات الأمريكية على إيران ستؤثر إذن على الاقتصاد العراقي ما سيدفع الحكومة العراقية إلى طلب استثنائها من حالة الحظر المفروض على التعامل مع إيران، حيث شملت القائمة استثناءات "مؤقتة ومحدودة" لتركيا والصين وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان واليونان وإيطاليا. وثمة تقارير تتحدث عن موافقة الإدارة الأمريكية، ممثلة في وزارة الخزانة الأمريكية، على منح العراق استثناء محدودا للتعامل مع إيران في مجال استيراد الغاز، ما يحمي قطاع الكهرباء العراقي. كما شمل الاستثناء استيراد السلع الغذائية، بشرط أن يتم الدفع بالعملة العراقية وليس بالدولار. ولم يُعلن بعد عن كون هذا الاستثناء دائم أم مؤقت، لكن الإدارة الأمريكية اشترطت على العراق إيجاد حل تدريجي للتوقف عن استيراد الغاز من إيران، بينما ذكرت الحكومة العراقية أنها تحتاج لحوالي أربعة سنوات حتي تستطيع توفير بديل. هنا يأتي دور رئيس الحكومة العراقية الجديدة عادل عبد المهدي والذي أعلن أن العراق ليس جزءا من منظومة العقوبات الأمريكية على إيران؛ باعتباره شخصية توافقية مقبولة إقليميا ودوليا، حيث يقف في منتصف المسافة بين إيران والولايات المتحدة، وبإمكانه إخراج العراق من نطاق الانعكاسات السلبية للعقوبات الأمريكية على إيران، خاصة أنه عمل من قبل كوزير للمالية ثم وزيرا للنفط، وسيكون التحدي الأكبر أمامه هو كيفية إدارة التوازن في علاقة العراق بكل من الولايات المتحدة وإيران.   

وهكذا، فإن المعطيات السابقة تشير إلى صعوبة فك الارتباط الاقتصادي بين إيران والعراق وفقا لما تريده الولايات المتحدة وتستهدفه من وراء تشديد العقوبات على إيران.

السؤال هنا إلى أي مدى يمثل التصعيد الأمريكي ضد إيران، وحزمة العقوبات الثانية، فرصة مواتية للحكومة العراقية الجديدة لإمكانية التحلل من قبضة إيران على توجهاتها الخارجية والاقتراب أكثر من عمقه العربي؟ من الصعوبة – كما سبق القول- فك الارتباط السياسي والاقتصادي بين إيران والعراق، كما أن المحيط العربي لا يوفر للعراق بديلا اقتصاديا بإمكانه أن يعوضه عن الاعتماد الاقتصادي شبه الكامل على إيران، فضلا عن ارتباط العراق بدول توفر بدائل اقتصادية خارج النطاق العربي ومستثناة من هذه العقوبات حتى الآن، وعلى رأسها تركيا والصين. لكن مع ذلك، يمكن للدول العربية استغلال هذه المستجدات في تقديم نفسها كبدائل اقتصادية في الأسواق العراقية، فبإمكان السعودية ودول الخليج ومصر الإقدام على تلك الخطوة؛ أي أن تكون منتجاتها بديلا للمنتجات الإيرانية في السوق العراقية. وربما تقوم الحكومة الجديدة بتنويع مصادر تعاملاتها الاقتصادية مع جاراتها من الدول العربية، بما يضعف جدا وربما يخنق إيران التي ستظل حريصة على إبقاء العراق كمتنفس اقتصادي لها. وهذا يتوقف على قدرة رئيس الحكومة على التحرك بعيدا عن إيران. مع ملاحظة أن الولايات المتحدة التي تنسق مع العراق في مجالات الأمن والسياسية غزت القطاعات الاقتصادية العراقية بقوة منذ مطلع عام 2018 الجارى؛ وذلك عبر توقيع العراق مذكرات للتفاهم مع إحدى شركات الطاقة الأمريكية لاستغلال الغاز في إحدى حقول النفط بجنوب البلاد، فضلا عن توقيع مذكرات تفاهم لإصلاح قطاع الكهرباء. 

بمعني آخر، يمكن القول إن العلاقات العراقية- الإيرانية ليست علاقات سياسية فقط، بل نجحت إيران منذ الانسحاب الأمريكي في تحويل العراق إلى مشروع إيراني له أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي يصبح من الصعب تفكيك ذلك المشروع في الوقت الراهن وإن تم ستكون تكلفته بالنسبة للعراق عالية جدا.