شهدت المنطقة العربية الكثير من صراعات الهوية في مرحلة ما قبل "الربيع العربي"، إلا أن هذه النوعية من الصراعات تزايدت من حيث العدد، وتفاقمت من حيث درجة الحدة في مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، حيث تبخرت وعود هذا "الربيع" في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتمخض عنها بالمقابل سلسلة من الحروب والمواجهات ذات الأبعاد السياسية والدينية والطائفية والعرقية والقبلية، والتي أصبحت تشكل ملامح ومسارات السياسات الجديدة في العالم العربي. فنتيجة لغياب السلطة المركزية، وانهيار أجهزة الدولة ومؤسساتها، اندلعت صراعات داخلية وحروب أهلية حادة في كل من ليبيا وسوريا واليمن. وقد باتت هذه الدول مهددة في وجودها ككيانات سياسية، حيث تواجه خطر الفشل والتفكك على غرار الصومال. ولكن ظواهر ضعف الدولة والصراعات الداخلية ذات الصلة بمسألة الهوية ليست قاصرة على هذه الدول فحسب، حيث تعاني منها بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة بلدان عربية أخرى عديدة مثل لبنان والعراق والسودان والبحرين وغيرها. وبذلك أصبحت حالة الفوضى واللانظام تمثل الملمح الأبرز لمرحلة ما بعد "الربيع العربي".

الأطروحة الرئيسة التي تنطلق منها الدراسة مفادها أن صراعات الهوية في العالم العربي هي الوجه الآخر لأزمة بناء الدولة الوطنية الحديثة، وهي أزمة بنيوية لها جذورها التاريخية في الحقبة الاستعمارية، وتفاقمت في مرحلة ما بعد الاستقلال بسبب فشل النخب الحاكمة في عديد من الحالات في بناء دولة وطنية تتمتع بالفاعلية والشرعية، بحيث تكون قادرة على القيام بوظائفها الرئيسية بفاعلية وكفاءة من ناحية، واستيعاب التعددية المجتمعية (الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية) في إطار هوية وطنية جامعة تجسدها الدولة، من ناحية أخرى. وهذا ليس معناه إلغاء الهويات الفرعية، ولكن القبول بها في إطار هوية وطنية أعلى تستند إلى قيم ومبادئ مشتركة، وتجسدها مؤسسات وسياسات وطنية.