في إطار عملية الإصلاح الاقتصادي التي تقوم بها الدولة المصرية، والتي تستهدف معالجة جوانب الضعف وثغرات الخلل التي سيطرت على هيكل الاقتصاد المصري لعقود من الزمن، وذلك ارتباطًا بفلسفة أعم تقوم على تحقيق التنمية الشاملة في كافة جوانب الحياة، قامت مجلة "أحوال مصرية" في هذا العدد بطرح عدد من الرؤى الجديدة حول معالجة تحديات الواقع المصري ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في إطار قضايا الإصلاح، وما تطرحه من سياسات تفرض واقعها وتأثيرها على المجتمع المصري، وتحدد ملامح دور الدولة والمجتمع ومسئوليتهما. وذلك عبر منظور شامل للمعالجة يتمحور حول مفهوم النمو الاحتوائي أو الشامل Inclusive Growth وفلسفته القائمة على التوزيع المتوازن لعائدات النمو، وكمنطلق للبحث في مسارات التنمية المتعددة والمستهدفة، وسبيلاً لتعميق برنامج الإصلاح وتوسيعه، وربطه بعملية تحديث تدفع النمو المستدام ليشمل الجميع، ويوفر قدرًا واسعًا من التوافق المجتمعي على السياسات الاقتصادية، والقبول بها رغم ارتفاع تكلفتها.
وقد أكد د. أيمن السيد عبد الوهاب، رئيس تحرير المجلة، في افتتاحيته على أهمية دفع واستمرار منهاج الحكومة، وسياساتها الداعمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، والتوازن الإنمائي بين ربوع الجمهورية كمسألة حتمية، للرهان على بناء إنسان مصري يمتلك من مقومات الحياة الكريمة، ما ينمي من شعوره بالثقة في قدراته، ومسئولياته تجاه مجتمعه وتجاه بلده، وهو ما يسهم في تعزيز المشاركة والمسئولية المجتمعية كسبيل لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، مشيرًا إلى أن التجربة المصرية لا تمثل استثناءً في هذا السياق، وأن فرص وتحديات الإصلاح والتحديث والبناء التي تعكسها هذه التجربة في هذه اللحظة تتشابه مع الكثير من تجارب البلدان التي استطاعت أن تتخطى العديد من العقبات التي تواجه مصر حاليًا.
وحول النمو الاحتوائي وثلاثية الفقر والنمو والمساواة، فقد أشار الأستاذ حسين سليمان، من خلال دراسة معمقة ترصد العلاقة الارتباطية بين النمو الاحتوائي ومعدلات الفقر والمساواة، إلى أن التجربة المصرية، مع برنامج الإصلاح الجديد تشير إلى عدم ارتباط النمو الاقتصادى بالضرورة بتحسن مستوى معيشة الشرائح المختلفة، بل قد يصاحب النمو الاقتصادى والانتعاش تدهور أوضاع شرائح من متوسطى الدخل، على الأقل فى الأجل القصير. وبالتالى، فقد لا يكفى فقط تحقيق النمو الاقتصادى الإجمالى كآلية رئيسية لتعزيز رفاهية المجتمع، بل قد يتطلب الأمر كذلك إجراءات إضافية لضمان شمول النمو الاقتصادى أكبر قاعدة ممكنة من المستفيدين من عائداته، مؤكدًا أن تشابك العلاقة بين مثلث النمو، والفقر، وعدم المساواة، يعقِّد من مهمة النمو الاحتوائى، ويعيد دمج عدم المساواة مرة أخرى بصورة غير مباشرة، ليست كهدف فى حد ذاتها، لكن كآلية رئيسية لتقليص الفقر وتحقيق النمو الاحتوائى، منوهًا إلى أن إهمال البعد الاحتوائى للنمو، المتمثل فى تعزيز المساواة وتقليص الفقر، يمكن له أن يحد فى نهاية المطاف من النمو نفسه، ويقوض بالتالى برنامج الإصلاح برمته.
وفيما يتعلق بدور قطاع الخدمات في تعزيز النمو الاحتوائي، فقد أكد د. محمد يوسف، على الدور الواضح للقطاع فى إحداث النمو الاحتوائى، وذلك من خلال قدرته على خلق فرص استثمارية مرنة من حيث حجم الاستثمار والتكنولوجيا، الذي يساهم فى تعبئة الإدخار المحلى، وتحفيز الاستثمار فى المشروعات الصغيرة والمتوسطة فى قطاع الخدمات، ويزيد من خلق فرص عمل منتجة فى هذا القطاع، وهو ما يتحقق معه النمو مع التشغيل، الذي يمثل أحد المؤشرات الأساسية للنمو الاحتوائى. هذا بالإضافة إلى دور القطاع في زيادة الإنتاج الموجه للتصدير، خاصة إذا صاحبه تحسن فى مقومات المنافسة فى أسواق التصدير. وفي حال تحسن القدرات التصديرية لقطاع الخدمات، وتحسن الميزان الخدمى للدولة، يتحول النمو المحقق فيها من الصادرات إلى النوعية الشاملة.
وحول تعدد مداخل المعالجة المختلفة لتحقيق النمو الاحتوائي، سواء تلك المتعلقة بإصلاح بيئة الأعمال، أو الاستثمار في رأس المال البشري، واستعياب العمالة، أو تفعيل دور المجتمع المدني، بالإضافة إلى معالجة اختلالات ثقافة العمل السائدة، فقد أوضح د. أنور النقيب، أن فعالية السياسات الاقتصادية تقوم على الحل الجذرى للمشاكل التى تواجه الاستثمار فى مصر لخلق الشروط الضرورية للتنمية والتخصيص الكفء للموارد داخل المنظومة الاقتصادية، ويتأتى ذلك من خلال خلق بيئة الأعمال المناسبة للاستثمار وإطلاق الحرية لقوى السوق للقيام بالتنمية، بالإضافة إلى التعامل مع قوى السوق بآليات السوق عند حدوث خلل، مؤكدًا أن السياسات الاقتصادية التي لا تؤدي إلى خلق بيئة أعمال ذات جهاز ثمن مفعل، وبيئة صالحة للمنافسة، وتخلق الحافز على المخاطرة والابتكار، وتضمن حرية الدخول والخروج من السوق وتضمن دورًا إنتاجيًّا للدولة عند فشل السوق، وتحمى وتمكن الفقراء، تعد سياسات قاصرة لن تؤدى إلى تحقيق التنمية المستدامة.
بينما أشارت كل من الدكتورة الطاهرة السيد محمد، والأستاذة أية حسن محي، عبر دراسة مشتركة، إلى أن تتبع مؤشرات الاستثمار فى رأس المال البشرى فى مصر خلال فترة تزيد على ثلاثة عقود تشير إلى أن هناك تطورًا ملحوظًا فيما يخص تراكم رصيد رأس المال البشرى، مع التأكيد على أهمية تبنى استراتيجية للاستثمار فى رأس المال البشرى ووضعها على رأس الإصلاحات الاقتصادية، والتركيز على جودة رأس المال البشرى والتى ستساهم فى زيادة إنتاجية عوامل الإنتاج الأخرى، ومن ثم المساهمة فى تحقيق معدلات مرتفعة من النمو فى الأجل الطويل. في حين ذهبت الدكتورة سمية أحمد عبد المولى إلى التأكيد على أن قصور استيعاب العمالة فى أعمال منتجة تحقق عوائد مناسبة من أجور وغيرها، يدفع مصر بعيدًا عن تحقيق هدف النمو الاحتوائى، وهو ما يؤخر ترتيبها مقارنة بغيرها من الدول النامية، وبالأخص على محور التشغيل المنتج وعوائده. كما أن النمو الاحتوائى لا يرتكز فقط على توفير فرص العمل المنتج، ولكن على إتاحة هذه الفرص بشكل متساو للجميع، مع الاهتمام بشكل خاص بالفئات الضعيفة والأكثر عرضة للوقوع فى البطالة أو الأعمال منخفضة الإنتاجية والعائد فى سوق العمل.
من ناحية أخرى، أكد أستاذ بهاء الدين عياد، على أهمية تفعيل دور المجتمع المدني في تحقيق مستويات التنمية التي تسعى إليها الدولة المصرية، من خلال تعزيز المشاركة المجتمعية عبر منظمات المجتمع المدنى فى صناعة السياسات العامة، والتأثير على مخرجاتها، وخاصة سياسات النمو المحابى للفقراء- النمو الاحتوائى، سواء من خلال سياسات زيادة الدخل الحقيقى للفقراء أو سياسات إعادة توزيع الثروة، وبرامج الحماية الاجتماعية. وفي ذات السياق، أشارت الأستاذة نورا فخري، إلى ضرورة تعزيز ثقافة ريادة الأعمال فى المجتمع المصرى على النحو الذي يسهم فى تأمين الوظائف وتحقيق النمو الاحتوائى بشكل يتماشى مع أهداف استراتيجية التنمية المستدامة 2030، وذلك عبر إعادة النظر في الثقافة المجتمعية السلبية لمنظومة العمل، حيث توجد هناك حاجة لتقليص مفهوم التوظيف داخل المجتمع، من خلال تشجيع دعم المكونات الثقافية المحفزة للأفراد على الاتجاه نحو ريادة الأعمال عبر مناهج وبرامج مدرسية تستهدف تغيير العقليات الثقافية المعتمدة على التوظيف خاصة فى القطاع الحكومى.
وفيما يتعلق بالمدخل الثقافي للمعالجة اللازم لاستكمال خطوات تحقيق مفهوم النمو الاحتوائي، فقد أشار د. أحمد خميس، إلى الدور المحوري الذي تلعبه القيم فى نجاح عملية النمو الاحتوائى التي تراعي تحسين خدمات الرعاية الاجتماعية، والتي تأخذ فى الاعتبار حقوق الجيل الحالي والأجيال المقبلة، والتى تزيد من الإنفاق العام فى مجالات التعليم، وإعانات البطالة والتدريب، والصحة؛ من أجل تحقيق السعادة للشعوب التي تعني نجاح عملية النمو والتنمية المستدامة.