تشكل القمة الثلاثية التي عقدت الأربعاء 10 أكتوبر 2018 في جزيرة "كريت" اليونانية بين قادة مصر واليونان وقبرص تكريسا لتحالف إقليمي مؤثر بين هذه الدول الثلاث، من شأنه التأثير الإيجابي على التغيرات الإستراتيجية التي طرأت على المنطقة منذ الاكتشافات الهائلة لثروة ضخمة من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط في عام 2009.
ومن المتوقع أن تلعب هذه القمة، وهي السادسة من نوعها في إطار آلية التعاون الثلاثي التي انطلقت بالقاهرة في نوفمبر 2014، دورًا رئيسًا ليس فقط على مستوى تعزيز الاستثمارات المشتركة والتعاون الاقتصادي، وإنما أيضا على المستوى الإستراتيجي من خلال إعادة رسم خارطة القوى الإقليمية لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. إذ يؤكد كثير من الخبراء أن انتظام عقد هذه القمة سنويا بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس وزراء اليونان أليكسيس تسيبراس، ورئيس قبرص نيكوس انستاسياديس، يعكس حرص هؤلاء القادة علىتنسیق الجهود لإعادة ترتیب الأوضاع الأمنية والاقتصادية في المنطقـة، بما یخدم المصالح المشترکة للدول الثلاث، والتي أصبحت تتجاوز المصالح الخاصة بالغاز الطبيعي وترسيم الحدود البحرية إلى بناء كيان إقليمي ضاغط ورادع للقوى المزعزعة للاستقرار والأمن في المنطقة، والجماعات الإرهابية ذات الأيديولوجيات المتطرفة، وموجات الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، التي أصبحت تشكل مصدر قلق لحكومات دول منطقة البحر المتوسط.
وتأتي هذه القمة في ظل تطورات إیجابیة سریعة تشهدها علاقات الدول الثلاث، مما فتح آفاقا جدیدة لهذه العلاقات إلی درجة عالیة لم تکن متوقعة بالسرعة التي تمت بها، في ظل الأوضاع الأمنية القائمة في منطقة شرق البحر المتوسط، نتيجة استمرار الأزمة القبرصية، وعدم تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، ثم اندلاع الأزمة السورية في السنوات الأخيرة. ولعل من أبرز هذه التطورات ما يلي:
أولا، توقيع مصر وقبرص رسميا، في 18 سبتمبر 2018، على أول اتفاق من نوعه لإقامة خط أنابيب بحري مباشر، بتكلفة تصل إلى حوالي مليار دولار، لنقل الغاز الطبيعي من حقل أفروديت القبرصي إلى تسهيلات الإسالة بمصر (في محطتي إدكو ودمياط) قبل إعادة التصدير إلى الأسواق العالمية. وينظم هذا الاتفاق، الذي يؤهل مصر لكي تصبح مركزا إقليميا لتجارة الغاز في البحر المتوسط، مسائل استيراد وتصدير الغاز بين مصر وقبرص، وبناء خط أنابيب في المستقبل يخترق المناطق البحرية الاقتصادية في كلا البلدين. هذا الاتفاق "التاريخي" يعد اتفاقا سياسيا وليس تجاريا، بالنظر إلى تغطيته فقط الجوانب القانونية والضريبية والتنظيمية والبيئية المرتبطة بمشروع خط أنابيب نقل الغاز بين الدولتين، ولا يشمل الاتفاق مسألة التسعير، والتي سوف تترك للشركات المالكة لغاز حقل أفروديت، وهي شركات "نوبل إنرجي"، و"ديليك"، و"شل"، والشركات المالكة لمحطتي تسييل الغاز الطبيعي في مصر.
ثانيا، نجاح الدول الثلاث في تعزيز تعاونها العسكري والاستراتيجي، وهو ما عكسه إجراء مناورات "ميدوزا 6" في شهر يونيو 2018. ويشير المراقبون إلى أن هذه المناورات كانت أكبر التدريبات البحرية الجوية المشتركة التي تنفذ في البحر المتوسط. وقد اشتملت على تنفيذ العديد من الأنشطة، منها، على سبيل المثال، قيام القوات بتخطيط وإدارة أعمال قتال جوية وبحرية مشتركة، والتدريب على أعمال الاعتراض البحري وأعمال الإمدادات والتزود بالوقود ومكافحة الغواصات. كما تضمنت أيضا مكافحة أعمال التهريب والهجرة غير الشرعية، وتنفيذ حق الزيارة والتفتيش واقتحام السفن المشتبه بها وأعمال الإبرار البحري والجوي.
ثالثا، حدوث تقدم نسبي ملموس في تنفيذ مشروعات التعاون المشترك في إطار آلية التعاون الثلاثي بين القاهرة وأثينا ونيقوسيا، وعلى رأسها مشروع الربط الكهربائي بين القارتين الأفريقية والأوروبية عبر الدول الثلاث، ومشروعات التعاون وتبادل الخبرات في مجالات زراعة الزيتون والمصايد السمكية والصناعات المرتبطة بها، وكذلك التعاون في مجال تكنولوجيا المعلومات.
رابعا، الدعم الواضح من جانب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والاتحاد الأوروبي، لتعزيز الشراكة بين الدول الثلاث في مجال تعظيم الاستفادة من موارد الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، وهو ما تمثل في زيارة العديد من المسئولين الأمريكيين والأوربيين، خلال الشهور الأخيرة، إلى عواصم هذه الدول من أجل حثها على مواصلة التعاون فيما بينها. ويعود الاهتمام الأمريكي بهذه الشراكة إلى رغبة واشنطن في حماية مصالح الشركات الأمريكية العاملة في المنطقة وقطع الطريق على تطلعات الشركات الصينية والروسية في هذا المجال. ومما يزيد من أهمية هذا الدعم امتلاك شركة نوبل إنرجي الأمريكية حصة في حقل أفروديت القبرصي، تبلغ حوالي 70 في المائة، بينما تمتلك مجموعة ديليك الإسرائيلية النسبة المتبقية، وتمتلك شركة نوبل إنرجي أيضا نسبا متفاوتة في حقول الغاز الطبيعي الإسرائيلية المكتشفة حديثا في شرق المتوسط. ومن ناحية أخرى، من المنتظر أن تبدأ شركة الطاقة الأمريكية العملاقة "إكسون موبيل" قريبا الحفر في "بلوك 10" من المنطقة الاقتصادية الحصرية في قبرص، والمتنازع عليها مع تركيا. ومن ناحية أخرى، يسعى الأوروبيون إلى الاستفادة من الكميات الهائلة المكتشفة من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط لتنويع واردات الغاز الطبيعي بعيدا عن الغاز الروسي في ظل تنامي التوتر مع موسكو نتيجة الأزمة الأوكرانية وقضايا أخرى.
وفي ظل هذه التطورات الإيجابية، يبدو أن التعاون المصري- اليوناني- القبرصي سوف يلعب دورا كبيرا في تشكيل مستقبل الغاز والأمن في منطقة شرق البحر المتوسط، خاصة وأنه يحقق الكثير من المصالح والأهداف المشتركة للدول الثلاث في الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية.
سياسيا، يسهم تعاون الدول الثلاث في تحقيق الاستقرار، و"ردع" مصادر التهديد المختلفة في المنطقة، وهو تصور تؤكد عليه كل من قبرص واليونان، حيث ترى كل منهما أن القاهرة يمكن أن تلعب دورا مهما في تأمين استقرار طويل الأجل على جانبي المتوسط. فعلى سبيل المثال، أصبحت مصر شريكا استراتيجيا للدولتين في مواجهة الهجرة غير الشرعية، خاصة بعد أن نجحت القاهرة في إيقاف رحلات الهجرة من مصر إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2016، وهو ما دفع العديد من الدوائر الأوروبية إلى المطالبة بإشراك مصر في حل معضلة التعامل مع اللاجئين والمهاجرين، فضلًا عن عقد قمة أوروبية عربية على أرض مصر لمناقشة هذه المعضلة.
من ناحية أخرى، يمثل التعاون مع أثينا ونيقوسيا رصيدا سياسيا ودبلوماسيا هائلا ومهما على طريق تحول مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، وبالتالي زيادة أهميتها الجيوسياسية ليس فقط لدول هذه المنطقة وإنما أيضا لدول الاتحاد الأوروبي الساعية إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، الذي أصبح يشكل حوالي 40 في المائة من إجمالي الواردات الأوروبية من الغاز الطبيعي. ولا شك أن ذلك سوف يصب بشكل مباشر في مربع القوة المصرية، الناعمة والصلبة، ويخصم من الرصيد السياسي للمناوئين الحاليين لمصر. وربما يفسر ذلك نمط التطور الإيجابي متصاعد الأوجه في العلاقات المصرية مع العديد من الدول الأوروبية التي تحاول بدورها تأمين مصادر متنوعة للطاقة.
واقتصاديا، يحل التعاون المصري- القبرصي المشكلة الوحيدة المتبقية لتصدير الغاز القبرصي المكتشف في شرق المتوسط إلى أوروبا، مما يفتح الباب واسعا أمام نيقوسيا للحصول على موارد مالية ضخمة نتيجة تطوير حقل إفروديت للغاز الطبيعي. كما أن هذاالأمر سوف يعود على القاهرة بعوائد مالية مهمة نتيجة رسوم العبور والضرائب والجمارك وغيرها، خاصةأن مصر لديها محطتين لتسييل الغاز الطبيعي في مدينتي إدكو ودمياط، بقدرة تبلغ 11.48 بليون قدم مكعب/عام، 7.56 بليون قدم مكعب/عام على التوالي، بقدرة إجمالية تصل إلى حوالي 19 مليار متر مكعب/عام.
من ناحية أخرى، فإن اليونان وقبرص يمكن أن تستفيدا اقتصاديا وتجاريا من اتفاقيات التجارة الموقعة بين مصر والكيانات الأفريقية، خاصة الكوميسا، من خلال تنفيذ برامج سياحية مشتركة بين الدول الثلاث. كما أن شركات يونانية وقبرصية عديدة أبدت اهتماما ببحث إمكانية الاستثمار في منطقة محور قناة السويس، بينما تسعى مصر للاستفادة من خبرة اليونان وقبرص في إدارة الموانئ والربط بين موانئ الدول الثلاث لخدمة التجارة البينية والعالمية.
إجمالا، يمكن القول إن قمة كريت سوف تعزز أهمية التعاون الثلاثي بين القاهرة وأثينا ونيقوسيا لتحقيق المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية المشتركة، وسوف يكون ذلك من أهم التحولات الجیوسیاسیة الجاریة في المنطقـة. ومن أجل تعزيز هذا التحول الإيجابي في المستقبل، قد يكون من المفيد لصانعي القرار في الدول الثلاث النظر فيما يلي:
- إقامة سكرتارية دائمة لآلية التعاون الثلاثي، تكون مكلفة بمتابعة تنفىذ القرارات التي اتخذها قادة الدول الثلاث، وتهيئة المناخ لمزيد من التعاون مستقبلا.
- توسيع هذا التعاون الثلاثي ليصبح تكتلا إقليميا أكبر في المستقبل لتحقيق الأمن والتنمية والاستقرار في هذه المنطقة الحساسة، وبالتالي تحقيق المكسب للجميع. ويتسق ذلك مع تأكيد الرئيس السيسي على أن هذا التعاون الثلاثي ليس موجها ضد أحد، ويفتح ذراعيه لأي دولة أخرى في المنطقة تريد أن تنضم لهذا التكتل، لخدمة مصالح المنطقة والشعوب، وفقا لمبادئ القانون الدولي، واحترام الاتفاقيات الدولية.
- قد يكون من المفيد أيضا استفادة مصر من علاقاتها الجيدة مع قبرص واليونان للضغط على إسرائيل من أجل تسوية مسألة التعويضات المالية لشركة الكهرباء الإسرائيلية.