اختار مجلس النواب العراقي برهم صالح رئيسا للدولة في جلسته التي عُقدت في الثاني من أكتوبر 2018، كإحدى الخطوات المترتبة على نتائج الانتخابات التشريعية التي عُقدت في الثاني عشر من مايو 2018، وهي الخطوة التي تأجلت على وقع الخلافات الشديدة بين القوى السياسية الكردية بشأن مرشحها للمنصب؛ وفقا لمحاصصة طائفية تعطي منصب الرئاسة للمكون الكردي، ومنصب رئيس البرلمان للمكون السني، ومنصب رئيس الوزراء للمكون الشيعي. وبالرغم من أن منصب الرئاسة في العراق يعد منصبا رمزيا، إلا أن اختياره كخطوة إجرائية يعتبر أمرًا ضروريًا لتشكيل الحكومة؛ فوفقًا للدستور يكلف رئيس الجمهورية رئيس الوزراء الجديد تشكيل الحكومة القادمة. أضف إلى ذلك أن حالة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران على مستقبل العملية السياسية في العراق بعد الانتخابات، أدت إلى تعقد حسابات الكتل والقوى السياسية العراقية المرتبطة بالدولتين، الأمر الذي انعكس داخليا في استمرار حالة الجدل والسجال السياسي على مدار الشهور الخمسة الماضية، بشأن إجراءات ما بعد الانتخابات سواء المتعلقة باختيار البرلمان للرئيس، أو تلك المتعلقة بتشكيل القوى السياسية للكتلة البرلمانية الأكبر، أو المرتبطة بترشيح وتسمية من يتولى منصب رئيس الوزراء. وفي السياق ذاته، قام الرئيس الجديد بتكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة بعد أن حدث "توافق" بين تحالف البناء، وتحالف الإصلاح والإعمار البرلمانيين على شخص عبد المهدي، دون أن يتعلق ذلك الاختيار بتشكيل أي من التحالفين للكتلة البرلمانية الأكبر.
وقد شغل برهم صالح العديد من المناصب القيادية على مدار عمله السياسي منذ عام 2005، وكان عضوًا بارزًا في حزب الاتحاد الكردستاني حتى انشق عنه في عام 2016 في إطار صراع الأجنحة داخل الحزب، مكونًا تكتلًا حزبيًا كرديًا جديدًا باسم " التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة"، وهو تحالف حقق نتائج هزيلة في الانتخابات الأخيرة (مقعدان فقط)، لكنه ظل محسوبًا على حزب الاتحاد، إلى أن عاد للانضمام إليه بطلب من الحزب نفسه في سبتمبر 2018، تمهيدًا لترشحه لمنصب الرئاسة. وقد انتخب النواب برهم صالح على حساب القيادي الكردي فؤاد حسين، المدعوم من الحزب الديمقراطي الكردستاني. ويرى العراقيون أن برهم صالح لديه رؤية معتدلة تجاه قضايا العراق، كما أنه من أشد المؤيدين لوحدة الدولة، حيث عارض خطوة رئيس إقليم كردستان السابق مسعود برازاني بشأن استفتاء الانفصال، هذا فضلا عن أنه يحظى بقبول وطني من جانب معظم القوى السياسية الشيعية والسنية.
ويحمل ترجيح البرلمان العراقي لكفة برهم صالح مرشح حزب الاتحاد الكردستاني، على منافسه مرشح الحزب الديمقراطي عدة دلالات:
الأولى، تتعلق بالبيت السياسي الكردي الذي ازدادت حدة انقسامه تجاه من يتولى منصب رئيس الدولة، فاختيار البرلمان لبرهم صالح بدعم من حزب الاتحاد الكردستاني يعني أن مساعي الحزب الديمقراطي تجاه مشروع انفصال كردستان عن العراق نهاية العام 2017 والتي باءت بالفشل، أصبحت تواجه معارضة حال تجددها في ظروف إقليمية مغايرة من داخل المكون الكردي نفسه؛ ذلك أن صالح من الشخصيات التي عارضت بشدة مشروع الانفصال، وطالب بدلا من ذلك ببناء مسار للثقة لتحسين العلاقة الاتحادية بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة الإقليم. فضلا عن تأكيده في خطابه الأول أمام البرلمان بعد انتخابه رئيسا للبلاد أنه سيسعى للحفاظ على وحدة العراق. لكن هذا في الوقت ذاته يزيد من معدلات الخلاف والتنافس بين الحزبين الكرديين الكبيرين لاسيما بعد أن مثل اختيار صالح على حساب مرشح الحزب الديمقراطي تحديا لزعامة "آل برازاني".
الثانية، تتعلق بنجاح حزب الاتحاد الديمقراطي باختيار شخصية تحظى بقبول لدى الأوساط السياسية الشيعية والسنية على حد سواء، بل تحظى برضا التحالفين البرلمانيين المتنافسين على الكتلة الأكبر برلمانيا عن اختياره. وربما يرجع ذلك إلى الحصافة السياسية للرجل، وحنكته التي راكمها طوال سنوات عمله السياسي، والتي وفرت له القدرة على فهم لعبة التوازنات السياسية بين الشيعة والسنة في العراق على مدار السنوات الماضية.
الثالثة، تشير إلى أن صالح يحظى بحالة قبول إقليمية ودولية، وتحديدا من جانب كل من إيران والولايات المتحدة. كما تربطه علاقات جيدة بتركيا على الرغم من العداء التاريخي بين أنقرة وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الداعم لصالح، على خلفية علاقة الحزب بحزب العمال الكردستاني التركي المعارض؛ فثمة رصد لحالة تقارب ملموسة في وجهات النظر الإيرانية التركية تجاه ملف العراق خلال الآونة الأخيرة على خلفية علاقة كل منهما المتوترة مع الولايات المتحدة في المنطقة. هذا التوافق الإقليمي والدولي يمثل حالة نادرة الحدوث بين إيران والولايات المتحدة بالنظر إلى تصاعد حدة الصراع بينهما إقليميا في الآونة الأخيرة لاسيما في سوريا. إذ يشير البعض إلى نجاح إيران في تصعيد محمد الحلبوسي السياسي السني المقرب من تحالف البناء لهادي العمري ونوري المالكي حلفائها في الداخل العراقي. بينما نجح بيرت ماكغورك المبعوث الأمريكي للتحالف الدولي لمحاربة "داعش" في تسويق شخص برهم صالح مرشح حزب الاتحاد الكردستاني لمنصب الرئاسة.
في السياق ذاته، قام الرئيس برهم صالح بتكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة الجديدة؛ بعد توافق كل من تحالف البناء وتحالف الإصلاح والإعمار عليه. ويعتبر عبد المهدي مرشحًا محسوبًا على تيار المستقلين، حيث انسحب من المجلس الإسلامي الأعلى عام 2016. وقد وضع عبد المهدي شروطًا لقبول المنصب، أهمها أن يتمتع بالحرية الكاملة في اختيار الوزراء بما يعني رفضه لتدخل القوى السياسية في هذه الخطوة. كما اشترط أن تكون له حرية رفض أو قبول مرشحين الكتل السياسية لتولي وزارات بعينها. فضلا عن اشتراطه عدم التدخل في شئون إدارته للحكومة أو في إدارة علاقاته مع القوى السياسية المختلفة. اختيار عبد المهدي للمنصب الأكثر أهمية في العراق يعني أنه قد حظي بقبول إيران، حيث كان عضوًا في المجلس الإسلامي الأعلى صنيعتها في العراق، قبل أن يستقيل منه. وثمة من يشير إلى مطالبة إيران لتحالف البناء الذي يحظى بدعمها، وتحديدا لرئيسه هادي العمري، بتمرير مسألة اختيار الرئيس لشخصية مقبولة من جانب الولايات المتحدة لمنصب رئيس الوزراء، ما فسرها البعض بأنها محاولة إيرانية لاستيعاب الولايات المتحدة في الملف العراقي، وعدم التصعيد معها بهدف ضمان مصالح إيران الكبيرة في العراق التي تعد نافذتها للقفز على العقوبات التي تفرضها واشنطن، على خلفية انسحابها من اتفاق البرنامج النووي الإيراني في مايو 2018.
أضف إلى ذلك يعتبر عبد المهدي مرشح توافقي وليس مرشح الكتلة الأكبر، أو ما أطلق عليه في العراق بمرشح "التسوية"، حيث توافق كل من تحالف البناء وتحالف الإصلاح والإعمار على اختيار عبد المهدي قبل أن تتمكن أيا منهما من إعلانها تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، الأمر الذي عارضه البعض باعتباره يتجاوز الدستور ويفتح المجال أمام الطعن على هذا الاختيار. كما عارضه آخرون على اعتبار أن مرشح "التسوية التوافقى" سيكون ضعيفا تجاه إملاءات الكتل التي توافقت على اختياره، بينما يرى البعض أن اختيار عبد المهدي عبر التسوية التوافقية بين تحالف البناء وتحالف الإصلاح والإعمار يخلصه من عبء الالتزام الحزبي عند تشكيله للحكومة لكونه مرشحًا مستقلًا، وهذا يعني أن لديه حرية أكبر في اختيار الوزارات السيادية التي تكون دائما مصدرا للخلافات بين الكتل والقوى السياسية.
هكذا، يمكن القول إن اختيار منصبي رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء في العراق بدا أنه تم وفقًا لحالة من التوافق بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على النفوذ في العراق. وإن كان الواقع يشير إلى أرجحية النفوذ الإيراني في تمرير مرشحين إما محسوبين على قوى سياسية ترعاها في الداخل العراقي، أو في "السماح" لمرشحين يحظون بقبول قوى دولية مناوئة لها بتولي المنصب الأهم في العملية السياسية برمتها وهو منصب رئيس الوزراء. ما يعني أن إيران تعمل على تهدئة حالة الصراع المتزايدة مع الولايات المتحدة في الملف العراقي تحديدا؛ خشية فقدانها مصالحها الضخمة فيه، والتي عبرها تتجاوز آثار العقوبات الاقتصادية الموجعة التي تفرضها عليها واشنطن، فهل سينجم عن توافق الضرورة هذا مخرج لعملية سياسية جديدة ناجحة أم سيظل العراق قابعًا ضمن سياق الدولة المأزومة؟