د. حسن أبو طالب

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

من المرجح أن يعود سفيرا تركيا وإسرائيل كل إلى مقر عمله في البلد الآخر في المدى القريب. الاتصالات السرية تقترب من تحديد الموعد المناسب لإنهاء حالة القطيعة الدبلوماسية التي مرت عليها أربعة أشهر منذ منتصف مايو 2018. تقرير صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية المنشور في السابع عشر من الشهر الجاري (سبتمبر 2018) يشير إلى سببيْن رئيسييْن لهذا التطور المنتظر؛ أولهما أن كلا من تل أبيب وأنقرة تحتاجان بعضهما البعض في ظل التطورات الجارية في المنطقة، وأبرزها قرب انتهاء الأزمة السورية مع بقاء الأسد في منصبه، والوجود الإيراني في سوريا، وكلاهما يشكل تهديدا مشتركا للبلديْن. والثاني يتعلق بالأزمة التركية- الأمريكية، وما ترتب عليها من مصاعب اقتصادية لتركيا، الأمر الذي يدفع الرئيس التركي أردوغان لإزالة التوتر مع إسرائيل، ما قد يساعده على تخفيف الأزمة مع واشنطن وفقا لتحليل الصحيفة.

كانت أنقرة طلبت منتصف مايو الماضي عودة السفير الإسرائيلي إلى بلاده بصورة مؤقتة، لمراعاة حالة الرفض الشعبي التركي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي أودى بحياة 60 شهيدا فلسطينيا، وإصابة 250 آخرين، كانوا يتظاهرون بالقرب من الخط الفاصل بين القطاع المُحاصر والأراضي الفلسطينية المحتلة تنديدا بنقل مقر السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة. وفي المقابل، طلبت أيضا الحكومة الإسرائيلية عودة السفير التركي إلى بلاده ردا على الخطوة التركية. رافق ذلك تبادل تصريحات وتغريدات خشنة واتهامات متبادلة بين الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، حيث وصف الأول الثاني بأنه إرهابي وأن بلاده تمارس أبشع الممارسات ضد الشعب الفلسطيني، فكان أن اتهم الثاني الأول بأنه هو الذي يمارس الإرهاب ويقتل المدنيين عشوائيا، ويتعامل مع حركة إرهابية، أي حماس، ويستضيف بعض رموزها.

صاحب ذلك دعوة تركية لعقد مؤتمر استثنائي لقادة بعض دول منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول للبحث في الرد على العدوان الإسرائيلي على غزة، شهد بيانات إدانة للسلوك الإسرائيلي من المشاركين، وانتهى إلى إصدار بيان دعا الأمم المتحدة إلى توفير حماية للشعب الفلسطيني. بعبارة أخرى، تم تصدير المشكلة إلى الأمم المتحدة دون بحث موقف محدد من الدول المشاركة يوفر حدا أدنى من الدعم العملي للشعب الفلسطيني أو يوقف العدوان الإسرائيلي. كانت هذه هي المرة الثانية التي دعت فيها أنقرة لعقد مؤتمر لمنظمة التعاون الاسلامي في أقل من ستة أشهر، حيث عُقد المؤتمر الأول في إسطنبول في 17 ديسمبر 2017 ردا على إعلان الرئيس الأمريكي ترامب أن القدس عاصمة لإسرائيل وأنها خارج حدود المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وأيضا لم يصل المؤتمر في حينه إلى خطوات ملموسة ضد الخطوة الأمريكية، وانتهى إلى بيان يدعو الولايات المتحدة لإعادة النظر في قرارها الخاص بالقدس، مع تأكيد الدول الإسلامية أنها لن تعترف بتلك الخطوة وتدعو دول العالم لعدم التجاوب معها.

في الحالتين هناك مسعى تركي لتوظيف منظمة التعاون الإسلامي لحشد مواقف جماعية تحت قيادة تركية تتعلق بتطورات تمس في العمق القضية الفلسطينية، وفي الحالتين لم يحدث التأثير المطلوب بالنسبة للفلسطينيين بالقدر نفسه الذي حدث بالنسبة للصورة التي يرسمها أردوغان عن نفسه أمام مؤيديه الأتراك باعتباره زعيما للدول الإسلامية السُنية ومُناصرا لا يُشق له غبار للشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي وضح تمام الوضوح في الدعوة للقمة الاستثنائية الثانية والتي عُقدت قبل شهر ونصف فقط من الانتخابات الرئاسية التركية، وهي الفترة التي كانت فيها الحملات الانتخابية للمرشحين الرئاسيين في أوج حدتها.

من المفيد ملاحظة أن التصريحات النارية للرئيس أردوغان ضد إسرائيل وقادتها، في أوقات التوتر العابر، لا تؤثر كثيرا على الطبيعة التعاونية السائدة في علاقات البلدين، حيث يحرص كل طرف على استمراريتها كعلاقة استراتيجية مفيدة لهما معا. يظهر الأمر جليا حين يتم تحييد التوتر الإعلامي والتصريحات النارية بعيدا عن التبادل التجاري بين البلدين، فوفقا لإحصاءات صندوق النقد الدولي، جاءت إسرائيل في المرتبة العاشرة كأكبر أسواق الصادرات التركية في عام 2017، حيث اشترت سلعا بحوالي 3,4 مليار دولار تقريباً. واحتلت الخطوط الجوية التركية المركز الأول بين شركات الطيران والخطوط الجوية التي تتعامل مع إسرائيل، حيث وصل عدد المسافرين بواسطة الخطوط الجوية التركية إلى إسرائيل خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2018 إلى مليون و413 ألف مسافر، بزيادة قدرها 8.61% عن العام 2017. بينما جاءت الخطوط الجوية الأمريكية في المركز الثاني بعد الخطوط التركية بعدد مسافرين مليون و137 ألف مسافر.كما أظهر التقرير السنوي للعام 2017 الصادر عن دائرة الإحصاء التركية والمنشور في أبريل 2018 أن تركيا تُعد الدولة الأولى في تصدير الإسمنت والحديد لإسرائيل، حيث صدرت 45% من إجمالي ما استوردته إسرائيل من الحديد، و59% من إجمالي ما استوردته من الأسمنت، وهما مادتان أساسيتان في بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي ذروة التوتر الإعلامي والتصريحات النارية المتبادلة بين أردوغان ونتنياهو، كشفت صحيفة  "الجمهورية" التركية المعارضة عن إجراء مباحثات بين أنقرة وتل أبيب بشأن صفقة نقل النفط من شمال العراق إلى الموانئ الإسرائيلية عبر تركيا تقدر بعدة مئات مئات الملايين من الدولارات.

هكذا، يتأكد أن الفصل بين ما هو سياسي/ إعلامي وما هو اقتصادي/ تجاري يمثل سياسة تركية ثابتة مع إسرائيل، وهو ما تقابله تل أبيب بالقبول والتفهم الكامل، وبوضع التصريحات النارية للرئيس أردوغان في حدود الدعاية المتعلقة باعتبارات السياسية الداخلية التركية، وأنها لا تعكس سياسة تركية حقيقية في الابتعاد عن إسرائيل كما توحي ظاهريا. لعل الوصف الذي قدمه وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، ونشرته صحيفة معاريف في 17 ديسمبر 2017، هو الأكثر تعبيرا بدقة عن حالة العلاقات التركية- الإسرائيلية وما فيها من تناقضات، ووفقا له فإن "الرئيس التركي يلعب مع إسرائيل بمصطلح "فرينمي" أي الصديق العدو.. إنه يهاجمنا كثيرًا ونحن نعي ذلك ولا يعني أننا لا نرد عليه، ولكن هجومه علينا لا يمنعه من جعل حجم التجارة عبر حيفا نحو 25 في المئة من تجارة تركيا إلى الخليج". ويضيف كاتس "نحن نتعايش معه بالرغم من ذلك، ونعرف أنه يعتبر نفسه قائد الإخوان المسلمين بالعالم ويحاول أن يقود العالم الإسلامي، ولكن التجارة التركية معنا بمبالغ كبيرة وخيالية، لم تتأثر بذلك، بل على العكس، وشركات الطيران التركية أكبر شركات النقل الجوي من وإلي إسرائيل، وحجم التبادل التجاري ونقل البضائع عبر حيفا إزداد كثيرًا حتى قبل عودة العلاقات بعد أزمة مرمرة".

مثل هذه الازدواجية في السلوك التركي ليست مفضوحة للإسرائيليين وحسب بل للفلسطينيين أيضا، لاسيما حركة حماس والتي راهنت بعد العام 2010 وبتأثير من أزمة السفينة مرمرة آنذاك والتي أدت إلى قطع العلاقات لمدة ست سنوات، على أن تربط  تركيا عودة العلاقات مع إسرائيل برفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما لم يحدث، إذ تم الاتفاق على تطبيع العلاقات بين تركيا واسرائيل في أغسطس 2016 بعد ثلاث سنوات من اللقاءات السرية والوساطة الأمريكية للرئيس أوباما دون أن يتضمن الاتفاق أي شيء يتعلق برفع الحصار عن غزة، وكل ما هناك سمحت إسرائيل لتركيا بمد القطاع بمساعدات إنسانية عن طريق الموانئ الإسرائيلية، وأن تقوم تركيا ببناء محطة لتحلية المياه وأخرى للكهرباء، وتوريد مواد بناء للقطاع. وهو ما صدم قيادة حماس بقوة، وأكد لها أن تركيا لن تتخلي عن علاقة مهمة واستراتيجية مع إسرائيل من أجل "عيون" حماس.

وفي الداخل الإسرائيلي يتبلور اتجاهان بشأن العلاقة مع تركيا في ظل قيادة أردوغان. الأول، يرى أن إسرائيل بحاجة إلى علاقات جيدة ومتنامية مع تركيا في مجالات عدة، سياسية وعسكرية واستخباراتية، نظرا للنفوذ الذي تتمتع به تركيا في الشرق الأوسط ككل، ولأن كلا البلدين يواجهان المخاطر ذاتها النابعة من الدور الإيراني في المنطقة والذي تعتبره إسرائيل مصدر تهديد مباشر لها، حيث لا يستطيع أي بلد بمفرده مواجهة هذا التهديد، ومن ثم لابد من التعاون المشترك. ويرى هؤلاء أن التعامل التركي مع كل من روسيا وإيران بشأن سوريا هو من قبيل التعاملات الاضطرارية والمؤقتة، وأن تغير الظروف في سوريا سوف يجذب تركيا بعيدا عن هذه العلاقة الثلاثية أو يخفف من تداعياتها على الأمن التركي. واستطرادا، فإن التوتر التركي الأمريكي ذي الأبعاد التجارية لن يستمر طويلا، ومن ثم ستعود تركيا إلى مربعها الأصيل تحت المظلة الأمريكية التي تظلل أيضا إسرائيل.

الاتجاه الثاني،يتحفظ نسبيا على العلاقة مع تركيا في ظل وجود أردوغان، إذ يرى أن العلاقة مع تركيا ضرورية ولكنها تتسم بالخطورة والتقلب في ظل النزعة التي تتملك أردوغان ليكون زعيما للعالم السني، خاصة نزوعه الشديد لاستغلال التطورات الفلسطينية في إهانة إسرائيل والحشد الإعلامي ضدها، ومن ثم فإن التعاون في مجال الطاقة وتصدير الغاز إلى أوروبا عبر تركيا قد يتحول إلى مشكلة كبرى إذا قرر أردوغان لسبب ما أن يوقف هذا التعاون ولو لفترة من الزمن، حينها ستكون إسرائيل بمثابة رهينة لدى انقرة. وهكذا، يبدو التحفظ هنا ليس مع تركيا الدولة ذات النفوذ، بل مع سياسة أردوغان المتقلبة والساعية إلى تحقيق "الشهرة" في المجتمعات الإسلامية. ويُذكر أن اتفاق تطبيع العلاقات الموقع في أغسطس 2016 تضمن بندا مفصلا عن التعاون بين البلدين في مجال الغاز الإسرائيلي وتصديره إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، والذي يعكس طموح إسرائيل أن تكون محطة مركزية في شرق البحر المتوسط لصناعة الغاز.

في المقابل تؤكد تركيا على ضرورة تمتين علاقاتها مع إسرائيل رغم الخلاف حول القضية الفلسطينية، فقبل التوصل إلى اتفاق تطبيع العلاقات، وأثناء اللقاءات السرية، صرح الرئيس أردوغان في 2 يناير 2016  بأن "إسرائيل في حاجة إلى بلد مثل تركيا في المنطقة. وعلينا أيضاً القبول بحقيقة أننا نحن أيضاً في حاجة إلى إسرائيل. إنها حقيقة واقعة في المنطقة". وبعد قمة التعاون الإسلامي في ديسمبر 2017، وفي محاولة لنفي أي موقف عدائي تجاه إسرائيل، أكد وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في مقابلة مع "صوت إسرائيل" أن العلاقات مع إسرائيل ستستمر بسبب المصالح المشتركة على الرغم من أجواء التوتر حول الملف الفلسطيني، مؤكدا أن بلاده ليست معادية للسامية، وأنها على استعداد للتوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين. 

وحين دعت أحزاب المعارضة التركية في مايو 2018 إلى وقف العمل بكل الاتفاقيات مع إسرائيل، بما فيها اتفاق التطبيع الموقع في أغسطس 2016، والذي أنهى ما يعرف بأزمة السفينة مرمرة، وذلك ردا على استخدام إسرائيل العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين من قطاع غزة، رفض حزب العدالة والتنمية الحاكم هذا المطلب، وقال وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو إن اقتراح زعيم المعارضة "غير واقعي ولا ينفع". فيما عكس أولوية المصالح مع إسرائيل على ما يتم التشدق به من مبادئ.

ويلفت النظر هنا ما ورد في تقرير لصحيفة "هارتس" مطلع يوليو 2018 حول زيادة مشاركة نشطاء أتراك في المظاهرات والتجمعات حول المسجد الأقصى في القدس الشرقية، وقيام أتراك بشراء عقارات في القدس الشرقية بصورة لم يسبق لها مثيل، وهو ما فسرته الصحيفة بأنه جزء من تطلع تركيا إلى مزاحمة الأردن في حماية المقدسات الإسلامية في القدس الشرقية. وهو ما يبرز أحد الجوانب الخفية في علاقات تركيا بإسرائيل، والتي قد تمهد لتدويل هذه المقدسات الإسلامية، وإنهاء الوصاية الأردنية عليها من جانب، وتمييع أي مطالبة فلسطينية بأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة المنتظرة.

ما تفعله تركيا في هذا السياق ليس بعيدا عن الأعين الإسرائيلية، بل والتنسيق معها. فمن غير الممكن أن ينشط أتراك في مظاهرات في القدس الشرقية بعيدا عن تفاهم ولو ضمني بين البلدين. إنه جزء من طموح تركي برضاء إٍسرائيلي بأن تستعيد ما تراه من "مسئولياتها" الدينية والتاريخية الضائعة. وسواء كان الأمر خفيا أو ظاهرا، ورغم صخب تصريحات الرئيس أردوغان بين فترة وأخرى ضد السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ففي كل يوم تتضح حقيقة العلاقات التركية الإسرائيلية بدون أي رتوش.