سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارين بشأن الفلسطينيين خلال شهر سبتمبر 2018. طال القرار الأول الإسهام المالي للولايات المتحدة في ميزانية الوكالة الدولية لغوث اللاجئين (الأونروا)، حيث أعلنت واشنطن قطع المخصصات المالية التي كانت توجهها لفرع الوكالة المعني باللاجئين الفلسطينيين، فيما طال القرار الثاني العلاقات مع السلطة الفلسطينية، حيث اتخذ ترامب قرارا بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. 

القراران أثارا جدلا واسعا حول دوافع ترامب وإدارته اتخاذ هذين القرارين في هذا التوقيت، والتبعات المترتبة على ذلك، سواء بالنسبة للفلسطينيين أو بالنسبة لمستقبل السياسة الأمريكية والدور الأمريكي في المنطقة العربية.

ملاحظات إطارية لفهم الدوافع

من المهم  أولا ملاحظة أن القرارين المشار إليهما يشكلان امتدادا طبيعيا لقرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مع الشروع في نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إليها. ففي إطار ما كان الرئيس ترامب يلوح به منذ حملته الانتخابية في عام 2016، وبعد وصوله للبيت الأبيض حول أمله في تقديم "صفقة" للفلسطينيين وإسرائيل تنهي الصراع الممتد بين العرب واليهود على مدى قرن كامل، يمكن القول إن ترامب يعتقد جازما أن حل هذا الصراع لا يمكن أن يتحقق من خلال الطرق التقليدية، مثل المفاوضات والوساطات التي تنطلق من مرجعيات باتت بسبب تعددها، سببًا في تعقيد المشكلة بدلا من تسهيل حلها. وأدرك ترامب أن نجاحه في تمرير ما يسميه بصفقة القرن (غير المعروف محتواها وتفاصيلها حتى الآن) يقتضي تصفية كل ما يتعلق بالمرجعيات الخاصة بهذا الصراع والمستندة للقانون الدولي، أو الناتجه عن قرارات الإدارات الأمريكية السابقة، لأن استراتيجية "عقد الصفقات"، التي يتبناها هو وفريق إدارته، تتعارض مع استراتيجية الحل من خلال التفاوض والرعاية والوساطة تعارضا واضحا في نقطة جوهرية، وهي أن الصفقات يتم بناؤها على أساس توزيع عناصر القوة والقدرات للأطراف الداخلة في الصفقة، بغض النظر عن مدى عدالتها (أي الصفقة) في الاستجابة لطلبات وتوقعات كل طرف من أطرافها. وذلك على عكس استراتيجية التفاوض والوساطة التي تهدف إلى التوصل لحل يراعي الاعتبارات التاريخية والأخلاقية والقانونية في أي قضية، بغض النظر عن الوضع القائم وما يفرضه من تعقيدات عملية، مثل: فروقات القوة بين أطراف التفاوض، والتغيرات التي حدثت على أرض الواقع جغرافيا وديموغرافيا والتي يستحيل معها تطبيق القرارات الدولية بحذافيرها.

بمعنى أكثر وضوحا، كانت توجهات ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض حيال القضية الفلسطينية هي تجاهل منظومة القانون الدولي التي أطرت الصراع منذ بدايته، والتي تخدم - في اعتقاده - الفلسطينيين على ضعفهم، وتجعلهم قادرين على إفساد أية تسوية استنادا إلى ضرورة تحقيق العدالة في حل الصراع. 

لذلك عمد ترامب إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كخطوة ضرورية لإعلان إدارته عدم اعتدادها بالقرارات الدولية ذات الصِّلة، خاصة القرار رقم 181 لعام 1947 (قرار التقسيم) الذي كان يعطي وضعا خاصا للمدينة (التدويل تحديدا)، والقرارات الصادرة منذ احتلال إسرائيل لشرق المدينة في عام 1967 والتي تنص على عدم شرعية السياسة الإسرائيلية تجاه المدينة.

في الاتجاه ذاته، سعى ترامب لإيصال رسالة للفلسطينيين بأنه لا يعترف بقرارات الإدارات السابقة عليه والتي واظبت على تأجيل قرار الكونجرس بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس منذ صدور القرار في عام 1995. وبذلك يكون ترامب قد أطاح عمليا - بقراراته الخاصة بالقدس- بمرجعية القانون الدولي ومرجعية السياسات الأمريكية السابقة. 

وعلى الطريقة ذاتها يمكن فهم القرارين الخاصين بالأونروا ومكتب منظمة التحرير في واشنطن، واللذان اتخذهما ترامب مؤخرا على أن نميز بين دوافع ترامب وهدفه من كلا القرارين. 

قرار الأونروا: الإطاحة بالمرجعيات الدولية

من المؤكد أن قرار ترامب بقطع إسهام الولايات المتحدة ماليا في الأونروا، وتحديدا فرعها المنوط بمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، استهدف بوضوح الإطاحة بمرجعية القرار 194 الصادر في ديسمبر عام 1948، والذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين الذين تَرَكُوا ديارهم وممتلكاتهم في أثناء وأعقاب هذه الحرب، في العودة إلى أماكنهم والحصول على تعويضات عن ممتلكاتهم التي تم الإضرار بها أثناءها. 

لقد وجد ترامب أن مشكلة حق العودة للاجئين هي أحد العقبات الكبرى أمام عقد صفقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لإنهاء الصراع بينهما، وأن إصرار منظمة التحرير على معالجة هذه القضية في إطار القرار 194 والذي ترفضه إسرائيل جملة وتفصيلا، يمكن أن يجهض الصفقة قبل طرحها مثله مثل قضية وضع القدس. وبالتالي، ذهب  ترامب نحو التشكيك في بيانات الأونروا حول أعداد اللاجئين الفلسطينيين، واتهمها بشكل غير مباشر بأنها منظمة "فاسدة" تلاعبت عن عمد بهذه القضية، وهو ما أوضحة جاريد كوشنر، مستشار ترامب، في حواره مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، في 13 سبتمبر 2018 ولكن  بصورة مخففة  بقوله: الفلسطينيون يستحقون خسارة العون المالي الأمريكي لأن الأموال التي أعطتها أمريكا للفلسطينيين عبر الأمم المتحدة ومفوضية اللاجئين راحت هدرا، ولم تسفر عن تطوير خطة لجعلهم يعتمدون على أنفسهم. وجاءت التصريحات الأكثر وضوحا حول الهدف من هذا القرار على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ناتانياهو، الذي ينسق معه ترامب في تفاصيل "صفقة القرن"، بقوله في الثاني من سبتمبر 2018: إسرائيل تدعم الخطوة الأمريكية، لأن الحفاظ على مكانة اللاجئين الفلسطينيين من جهة الأونروا هو المشكلة الرئيسية في استمرار النزاع. لهذا من الأفضل  نقل الأموال إلى جهات أخرى واستخدامها لرفاهية المواطنين، لا من أجل الحفاظ على مكانة اللاجئين.

ومع اعتراف بعض الخبراء بأن الأونروا كانت لمدة طويلة محل انتقاد، لتمريرها وضع اللاجئين عبر الأجيال منذ العام 1948، فإن بعض التسريبات تشير إلى أن إدارة ترامب تدرس اقتراحا يقضي باختزال حق العودة من خمسة ملايين فلسطيني إلى بضع مئات من الآلاف.

إغلاق مكتب المنظمة... الإطاحة بالمرجعيات الأمريكية

يدرك ترامب أن قرار قطع العون الأمريكي عن الأونروا لا يشكل ضغطا حقيقيا على القيادات الفلسطينية خاصة في السلطة ومنظمة التحرير، إذ إن العديد من دول العالم أعلنت عن استعدادها لتعويض نقص ميزانية الوكالة الناتج عن القرار الأمريكي. فعلى سبيل المثال، أعلنت ألمانيا، وهي ثالث أكبر جهة مانحة للأونروا، مؤخرا أن الحكومة تستعد حاليا لتوفير مبلغ إضافي من الأموال للمنظمة. وعلى نحو مماثل أضافت المملكة المتحدة 7 ملايين جنيه إسترليني على حصتها الثابته في ميزانية الوكالة، لكي يصل إجمالي مساهماتها للعام الحالي إلى ما يوازي 45.5 مليون دولار.

كذلك، تعهدت السويد بتقديم مبلغ 206 ملايين دولار من الأموال غير المخصصة لأغراض بعينها على مدار السنوات الأربع المقبلة. كما قدم الاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر جهة مانحة للأونروا، دفعة مقدمة من تمويل هذا العام، متعهداً بمواصلة مساهماته في العامين 2019 و2020. ووافقت جهات مانحة أخرى -مثل الدنمارك، وفنلندا، ولوكسمبورغ، وهولندا، ونيوزيلندا، والنرويج، وروسيا، وسويسرا- على تسليم تمويلها مقدما.

لم تؤد قرارات هذه الدول إلى إغضاب واشنطن، بما يؤكد أن ترامب لم يستهدف من قراره الآنف الذكر ممارسة ضغوط على الفلسطينيين، بل كان يسعى إلى تصفية القرار 194، ومنع الفلسطينيين من الحديث عن حق العودة اعتمادا على بيانات الأونروا التي تدرج أكثر من خمسة ملايين فلسطيني في قوائمها كلاجئين ينطبق عليهم هذا القرار. ويظل الهدف النهائي لترامب هو أن ينصاع الفلسطينيون لتفسيره الخاص للقرار الأممي، وأن ينسوا تماما بيانات الأونروا وأرقامها بشأن أعداد اللاجئين، إذا ما كانوا على استعداد "حقيقي" لعقد الصفقة التي تنهي الصراع مع إسرائيل إلى الأبد!!!

في المقابل، فإن قرار إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية استهدف تصفية مرجعية أخرى من المرجعيات التي يعتقد الفلسطينيون أنها تدعم حقوقهم، وهي مرجعية السياسات الأمريكية السابقة. فقد ظل الفلسطينيون يعتبرون اعتراف الولايات المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني والسماح لهم عام 1994 بافتتاح مكتب للمنظمة في واشنطن، بأنه مكسب كبير يجب الحفاظ عليه. وفِي أسوأ الأوضاع لم تذهب إدارة الرئيس جورج بوش - الإبن إلى إغلاق مكتب المنظمة في أشد فترات الضغوط الإسرائيلية وضغوط اللوبي اليهودي الأمريكي لاتخاذ هذا الإجراء في ديسمبر عام 2002 (ذروة المواجهات المسلحة بين الجانبين في انتفاضة الأقصى). ورغم أن الرئيس بوش عاقب الفلسطينيين في حينها بتخفيض أعداد المكتب التمثيلي للمنظمة، إلا أن الرئيس باراك أوباما (2009-2017) عاد في يوليو 2010 ليسمح برفع مستوى تمثيل بعثة المنظمة ليصبح "مفوضية" وهو مستوى بروتوكولي أعلى من سابقه الذي كان في عهد إدارة كلينتون. وبلجوء الرئيس ترامب لإجراء يتجاوز ما كان بوش - الإبن قد اتخذه لعقاب الفلسطينيين، فإن خسارة المنظمة هذه المرة تغدو كبيرة، خاصة إذا بقي ترامب في منصبه رغم محاولات عزله حاليا. ويزداد الأمر سوء إذا ما تمكن ترامب أيضا من الفوز بولاية ثانية تمتد حتى عام 2024. 

في كل الأحوال تعبر قرارات ترامب عن رغبة حقيقية وواضحة في الإطاحة بالمرجعيات الدولية والأمريكية التي أطرت كل محاولات حل المشكلة الفلسطينية، ويجب على الفلسطينيين أن يدركوا أنه بات من شبه المستحيل أن تأتي إدارة أمريكية مستقبلا ويكون في وسعها إلغاء القرارات التي اتخذها ترامب، خاصة في قضية نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. كما سيكون من الصعب أيضا أن تتراجع أي إدارة مستقبلا - جمهورية أو ديمقراطية - عن معاقبة الأونروا ومنظمة التحرير. وحتى إذا ما كان في الإمكان أن تتراجع كما فعلت إدارة أوباما أمام قرار إدارة بوش- الإبن، فإن الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون لكي يحدث ذلك سيكون كبيرا. وبذلك يكون ترامب بقراراته الخاصة بالقضية الفلسطينية إجمالا لم يطح فقط بالمرجعيات التي كان الفلسطينيون يراهنون عليها للحصول على حل عادل لقضيتهم، بل أيضا قام بتغيير قواعد اللعبة لمن سيأتي بعده، بحيث يصعب عليه أن يتراجع عن قرارات ترامب، أو يكون بوسعه استخدام نفس القرارات للضغط على الفلسطينيين لتقديم تنازلات ربما تكون أكبر من تلك التي كانوا سيقدمونها في صفقة القرن (المجهولة والغامضة حتى الآن).