صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

باتت محافظة إدلب في شمال غرب سوريا هدفا رئيسا للنظام، ومن قبلة لكافة فصائل المعارضة السورية المسلحة التي رفضت البقاء ضمن مناطق سيطرة النظام السوري من خلال آلية المصالحات التي كان يجريها النظام برعاية روسيا في العديد من المناطق التي استعاد السيطرة عليها، وتحديدا منذ تدشين اتفاقات حمص في مايو عام 2014. وازدادت معدلات نزوح المعارضة وعوائلها بالاتجاه لإدلب منذ دخولها حيز تطبيق مناطق خفض التصعيد والتوتر التي رعتها كل من روسيا وإيران وتركيا في مايو 2017، لاسيما المعارضة النازحة من مناطق الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي وجنوب العاصمة دمشق، فضلا عن تلك التي نزحت مؤخرا من مناطق الجنوب السوري، وتحديدا درعا والقنيطرة، بعد التسويات التي شهدتها تلك المنطقة خلال الشهرين الماضيين.

معضلة إدلب

تكمن معضلة إدلب كونها مأوى لعدد من الفصائل المسلحة، بعضها مصنف كتنظيمات إرهابية، مثل "هيئة تحرير الشام" - النصُرة أحد مكوناتها الرئيسية- والبعض الآخر خارج هذا التصنيف مثل بعض فصائل "الجيش السوري الحر" الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بتركيا، وذلك في وقت ازدادت فيه توجهات النظام السوري وإيران وروسيا بمهاجمة المحافظة للقضاء على المعارضة المتبقية بها بغض النظر عن تصنيفها. وقد فتح ذلك الباب واسعا أمام الخلافات بين روسيا وتركيا بشأن الفصائل المتواجدة بالمدينة والمحسوبة على الأخيرة؛ لاسيما تلك التي تدخل ضمن نطاق "قوات درع الفرات" المتمركزة في جيوب مهمة من إدلب، والتي تحاول تركيا توفيق أوضاعها بما يجنب استهدافها من قبل الضربة العسكرية المتوقعة، هذا فضلا عن ممارستها ضغوطا على "هيئة تحرير الشام" لحل نفسها أو تفكيكها، وهي محاولات باءت جميعها بالفشل. وتدرك روسيا جيدا صعوبة المهمة التركية في الضغط على "هيئة تحرير الشام" في هذا الشأن. وتثير أزمة إدلب أيضا قدرا من الخلاف بين روسيا وإيران على وقع رغبة الأخيرة مواصلة الحسم العسكري بما يضمن استكمال خريطة نفوذها السياسي والاقتصادي في الشمال السوري، خاصة بعد أن اضطرت إلى تسوية الأوضاع في الجنوب السوري بضمان خروج ميليشياتها من منطقة جغرافية تقدر مساحتها بـ 80 كيلومتر تقريبا قرب الحدود مع الجولان السوري المحتل.

هذه الخلافات المتوقعة من شأنها التأثير في مسار الأستانا الذي أنهى جولته العاشرة في سوتشي الروسية بنهاية يوليو 2018، وإن كان التنسيق الثلاثي الناتج عن استانا بالرغم من خلافاته العديدة إلا أنه يحاول في إدلب تحديدا التوصل لأكبر مستوى من التعاون المشترك؛ لقطع الطريق على الرغبة الأمريكية في توجيه ضربة عسكرية شاملة على سوريا تستهدف فيها إدلب، وهو ما تعتبره تركيا تحديدا استهدافا مباشرا لمصالحها في الشمال الغربي السوري في سياق أزمتها الحالية مع الولايات المتحدة. وتعتبره إيران استهدافا مباشرا لوجودها في سوريا ككل على خلفية أزمتها أيضا مع الولايات المتحدة في ضوء انسحاب الأخيرة من اتفاق البرنامج النووي الإيراني.

هذه الإشكاليات بكل أبعادها استبقت القمة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية التي عُقدت في السابع من سبتمبر الجاري (2018) في إيران، والتي استهدفت الخروج باتفاق شامل لما سيتم اتخاذه من إجراءات بشأن إدلب، بما يضمن الإبقاء على حالة التفاهم الثلاثي التي ضمنتها صيغة أستانا، خاصة أنه من المحتمل أن تؤدي النتائج المترتبة على معركة إدلب إلى صياغة تفاهمات دولية وإقليمية "قد" تسهم في تسويات ممكنة للأزمة السورية.               

خلافات روسيا وتركيا بشأن إدلب

وضعت روسيا أهدافا بالنسبة للعملية العسكرية في إدلب تدور خطوطها العامة حول القضاء على الفصائل الإرهابية، عبر ضربات جوية تراعي عدم استهداف نقاط المراقبة التركية في المدينة، أو القوات التابعة لها من "الجيش السوري الحر" من ناحية، وإدخال المحافظة فعليا ضمن المناطق الخاضعة لسلطة النظام، لاسيما المناطق المتاخمة منها لمدن الساحل؛ حيث الحاضنة الشعبية للنظام وتحديدا الأجزاء الجنوبية والغربية منها من ناحية ثانية، وتأمين محاور المواصلات التي تربط إدلب بحلب، من ناحية ثالثة.

في هذا السياق، ترغب روسيا فعليا في استهداف الفصائل الإرهابية في إدلب، وتحديدا "هيئة تحرير الشام"، لكنها في الوقت ذاته تريد إدارة العلاقات مع تركيا وإيران في شأن إدلب بصورة تمكنها من الحفاظ على صيغة التعاون الثلاثي، وبالتالي فإن إصرار النظام على استكمال الحسم العسكري في إدلب في ضوء تواجد أكثر من ثلاثة ملايين مدني بها بات يهدد العلاقات الروسية- التركية؛ لاسيما وأن عملية النزوح المتوقعة تجاه الحدود التركية للمدنيين حال بدء الحملة العسكرية على إدلب من شأنها الضغط على الأوضاع الأمنية والاقتصادية المتفاقمة في تركيا. هذا بخلاف أن اتجاه روسيا لاستهداف إدلب يدفع تركيا إلى انتهاج أحد خيارين: الأول، هو مغادرة قواتها العسكرية المتواجدة بها (قوات درع الفرات، وغصن الزيتون، بالإضافة إلى 12 نقطة مراقبة عسكرية وفقا لتفاهمات الأستانا) وبالتالي فقدان إدلب الأهمية الاستراتيجة التي تمثلها لأنقرة. الخيار الثاني هو اضطرارها محاربة الفصائل الإرهابية، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام نفسها، بما يسهل من مهمة روسيا وإيران في اجتياح المدينة بدلا من شن عملية عسكرية محدودة النطاق تراعي التمركزات العسكرية التركية. 

ونظرا للأهمية الاستراتيجية التي تمثلها إدلب بالنسبة لتركيا في سياق محاربتها مشروع التواصل الكردي السوري من الشمال الشرقي حتى الشمال الغربي؛ فمن غير المتوقع أن تستغني تركيا عن مناطق تمركزاتها في إدلب، أو التراجع عن نقاط المراقبة التي أقامتها في الخطوط الأمامية للمدينة وعددها 12 نقطة. وبالتالي تتزايد حظوظ الخيار الثاني الذي تدفعها إليه موسكو، والمتعلق بمحاربة تركيا الفصائل الإرهابية والأكثر تطرفا أو العمل على تفكيكها، وذلك عبر التنسيق مع "الجبهة الوطنية للتحرير" التي تكونت برعاية أنقرة في مايو 2018  من فصائل المعارضة المعتدلة المتمركزة في إدلب وعددها 12 فصيلا منضويا ضمن فصائل الجيش السوري الحر. وهناك رؤية مغايرة لهذه التصورات تقول بأن تركيا قد تتجه إلى زيادة تمركزها العسكري في جميع مناطق إدلب وليس الخطوط الأمامية فقط، الأمر الذي يجعل خيار الحرب الروسية السورية الشاملة على إدلب خيار صعب التنفيذ، بما يدفع روسيا إلى تبني عملية عسكرية محدودة النطاق تكون مقصورة على فصائل محددة. ورغم وجاهة هذا التصور، إلا أن هناك من يرى أن توسيع نطاق التواجد العسكري التركي في إدلب سيجعل تلك القوات معرضة للاستهداف من قبل التنظيمات التي ترى أن تركيا لم تعد حليفا موثوقا فيه من ناحية، كما سيجعلها هدفا للقوات الكردية، من ناحية ثانية.      

وبالرغم من كافة إشكاليات العلاقة بين تركيا والدول الأوروبية، إلا أن الأخيرة ترى منح تركيا أحقية ترتيب الوضع في إدلب أمنيا وعسكريا، تجنبا لحدوث كارثة إنسانية تؤدي إلى موجة نزوح جديدة إلى حدودها، بما يضغط في النهاية على أوروبا على غرار تعرضها لموجة هجرة سورية منذ ثلاثة أعوام مضت. وقد كان هذا الهدف تحديدا سببا مباشرا في إصرار تركيا على زيادة عدد نقاط المراقبة العسكرية الخاصة بها في منطقة خفض التصعيد بالمحافظة، بينما يوفر منطقة آمنة للمدنيين في إدلب بما يمنع النزوح إلى الحدود السورية مع تركيا حال احتدام المعارك في إدلب. في هذا السياق، سعت تركيا إلى تشكيل فصيل عسكري من عدة فصائل ثورية في إدلب عُرفت باسم "الجبهة الوطنية للتحرير" منذ منتصف العام 2018، بهدف إيجاد فصيل موازن لهيئة تحرير الشام ويحظي بقبول روسيا. هذا بخلاف قيام تركيا بتعزيز تواجدها العسكري بالقرب من نقاط المراقبة التابعة لها في إدلب بإقامة مستشفيات ومهابط طائرات، بخلاف تطمينها للمدنيين في تلك المناطق باستمرار بقائها كضامنة لمناطق خفض التصعيد في المحافظة. وتمتلك تركيا خيارات تجعلها الرقم الأكثر أهمية في تسويات إدلب كونها لازالت تسيطر استراتيجيا على عفرين ومعظم مناطق شمال حلب؛ أي لديها القدرة على تمويل عناصرها العسكرية الموالية لها في إدلب، عبر التحكم في تلك المناطق بما يجعل خيار النظام السوري بشأن اجتياح إدلب بريا خيارا باهظ التكلفة، وبالتالي دفعه للاكتفاء – ولو مؤقتا – بشن ضربات عسكرية جوية محدودة بمساندة روسيا، لكن من المتوقع أن لا تميز تلك الضربات بين فصائل المعارضة المعتدلة أو المتطرفة.       

وتتفق كل من تركيا وروسيا على اعتبار "هيئة تحرير الشام" تنظيم متطرف يجب استهدافه، لكن الخلاف الرئيسي في هذا الشأن يدور حول كيفية تحقيق ذلك. فبينما ترغب روسيا في شن هجوم كاسح عبر عملية عسكرية واسعة تقوم بها إلى جانب قوات النظام السوري، ترغب تركيا في تفعيل آليات أخرى؛ كالمراهنة على حدوث انشقاقات بين صفوف هيئة تحرير الشام، أو أن تنجح محاولات تفكيكها عبر التفاوض معها بما يوفر على تركيا تكاليف المواجهة العسكرية المتوقعة معها. كما قدمت تركيا لهيئة تحرير الشام اقتراحا يقضي بالخروج من إدلب مقابل انتشار قوات من المعارضة السورية المعتدلة والحليفة لها، على أن تضمن تركيا عبر روسيا عدم قيام النظام السوري باستهداف إدلب. لكن مسار الأحداث أوضح أن محاولات تركيا في التفاوض مع "هيئة تحرير الشام" على البدائل السابق ذكرها قد باءت بالفشل.

وتزامن ذلك مع ارتفاع وتيرة اللقاءات السياسية والعسكرية بين كل من موسكو وأنقرة وطهران، والتي بلغت ذروتها في القمة الثلاثية التي عقدت في السابع من سبتمبر 2018 بالعاصمة الإيرانية طهران، وتركزت مباحثاتها حول مستقبل إدلب. وجاءت القمة لتعكس حالة الخلاف العميق الذي تشهده العلاقات الروسية- التركية بشأن إدلب، والتي انعكست في حدة خطابي الرئيسين الروسي والتركي، الأمر الذي عكس حدة الخلافات بين أهم طرفين في معادلة صيغة أستانا الثلاثية، بما أضفى مزيدا من التعقيد بشأن مستقبل العمل العسكري المتوقع في إدلب، لاسيما أن روسيا قامت خلال القمة وبعدها مباشرة برفع وتيرة ضرباتها الجوية العسكرية على مدينتي إدلب وحماة. وقد تمثلت أهم نقاط الخلاف التي برزت خلال القمة فيما يلي:

- رفض روسيا اقتراح تركيا بتأجيل العمليات العسكرية، بما يتيح وقتا أطول للمفاوضات التي تجريها أنقرة مع هيئة تحرير الشام بشأن تفكيكها أو مغادرتها لإدلب. وجاء رفض روسيا على اعتبار أن المفاوضات جارية منذ عدة شهور دون أن تُحرز أنقرة تقدما يذكر في هذا الشأن.

- رفض روسيا الاقتراح التركي باتاحة المجال للعسكريين الروس والأتراك لوضع استراتيجيات لتفعيل مستوى التحذيرات العسكرية للتنظيمات الإرهابية، التي تستهدف قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية انطلاقا من إدلب كمرحلة أولى قبل الهجوم العسكري. 

- إصرار روسيا وإيران على استعادة النظام السوري السيطرة على كافة الأراضي السورية، في إشارة إلى الوجود التركي في الشمال السوري، بينما ردت أنقرة على هذا التلميح بأنها ستستمر في حماية حدودها، وأن إدلب تمثل أهمية كبيرة لأمنها القومي. 

واشنطن والحرب في إدلب

وسط حالة التشابك الإقليمي تلك في إدلب بين تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري، برزت تفاعلات الإدارة الأمريكية مع تطورات الوضع بالنسبة لإدلب. فقد أعلنت واشنطن عزمها شن هجوم عسكري واسع على قوات النظام السوري حال استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في إدلب. فضلا عن تحديد بنك أهداف لمخازن الأسلحة التابعة للنظام السوري والتلويح باستهدافها في السياق ذاته، بالإضافة إلى إعلان الرئيس الأمريكي بقاء دائم للقوات الأمريكية في سوريا. لكن الهدف الحقيقي لتدخل واشنطن في سياق تطورات إدلب ليس هو البعد الإنساني، ولكن الهدف يكمن في رغبة الإدارة الأمريكية منع النظام السوري من السيطرة على إدلب؛ لأن ذلك يعني استكمال روسيا لحلقة انتصاراتها العسكرية في سوريا، ومن ثم اقترابها من فرض رؤيتها للحل السياسي المأمول، وهو ما يرفضه الأمريكيون والأوروبيون على حد سواء. فثمة من يرى أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية لا ترغب في إحكام النظام سيطرته على مجمل الأراضي السورية - بما يعنيه ذلك القضاء على كافة أشكال المعارضة المسلحة- قبل أن يستجيب النظام لمتطلبات مرحلة الانتقال السياسي التي تقرها مسارات جنيف، لاسيما ما يتعلق منها بالتعديلات الدستورية وملف المعتقلين والانتخابات...الخ. وقد تلقت روسيا جيدا الرسالة التي أرادت الولايات المتحدة والأوروبيون توصيلها لها، وردت عليها بمزيد من الحشد العسكري لأسطولها المتمركز في البحر المتوسط أمام السواحل السورية.   

في النهاية يمكن القول إن ثمة غيابا واضحا لاتفاق روسي تركي شامل ونهائي حول كيفية معالجة مصير إدلب، وتحديدا مصير المعارضة المسلحة بها، تأكدت معالمه بفشل القمة الثلاثية التركية الروسية الإيرانية في التوصل لاتفاق بشأن إدلب، نتيجة لاستمرار تناقض المصالح الاستراتيجية للأطراف الثلاث، فضلا عن عدم رسم خريطة مصالح الطرفين الروسي والتركي في مناطق الشمال السوري ككل حتى الآن. الأمر الذي يضع حالة التنسيق الروسية التركية بمصالحها المتشابكة ووفقا لصيغة الأستانا محل اختبار جاد وحاد. ويضع كذلك تركيا أمام عدة خيارات هى: إما إقناع روسيا بمنحها مزيدا من الوقت لتفعيل دورها التفاوضي مع هيئة تحرير الشام، لحملها على تفكيك فصائلها أو الرحيل من المدينة، وذلك لتجنيب المدينة هجوم روسي سوري واسع النطاق والأهداف. وإما تحشيد القوات السورية التابعة للجيش السوري الحر، والتي وحدتها في "هيئة التحرير الوطنية" لمحاربة هيئة تحرير الشام، بما يوفر على تركيا تكاليف وأعباء الدخول في حرب شاملة ومباشرة مع الأخيرة، والذي قد يضع الداخل التركي في محل استهداف عمليات إرهابية كبيرة. وإما الجنوح للمطلب الروسي بعدم الاعتراض على استهداف المعارضة في إدلب، ويبدو الخيار الأخير أقرب إلى واقع الأحداث الجارية، لكنه يحتاج جهد تركي حثيث للضغط على الجانب الروسي، بما يضمن أن تكون العملية العسكرية محدودة النطاق والأهداف بصورة تمنع استهداف المدنيين.