شابت العلاقات التركية- الأمريكية الكثير من التعقيدات منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016. وتصاعد منحنى التوتر مع رفض أنقرة الإفراج عن القس الأمريكي أندرو برونسون، المتهم من قبل السلطات التركية بالتجسس لمصلحة منظمات "إرهابية"، من بينها جماعة "خدمة" ومنظمة "حزب العمال الكردستاني". وقد أخذت عملية التصعيد المتبادل منحى آخر مع فرض واشنطن رسوم جمركية مضاعفة على وارداتها من الصلب والألمونيوم التركيين، وهو ما أسهم في انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار.
في هذا السياق، يثور التساؤل عن وضعية قاعدة "إنجيرليك" الجوية، لاسيما مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إمكانية توجه بلاده للبحث عن حلفاء جدد، واتهام واشنطن صراحة بطعن تركيا من الخلف برغم عضويتهما المشتركة في "الناتو". أضف إلى ذلك هناك بالفعل تيار في تركيا يطالب بإغلاق "إنجيرليك" التي تُعد أحد مظاهر التعاون، والشراكة التركية- الأمريكية، ناهيك عن أهميتها الاستراتيجية للولايات المتحدة. وتستهدف هذه الدعوات الضغط على الولايات المتحدة لإفساح الطريق للحوار، والجهود الدبلوماسية للتعاطي مع الملفات الخلافية بين البلدين، وفي الصدارة منها أزمة القس الأمريكي، وقضية نائب المدير التنفيذي لبنك "خلق" التركي المتهم بالتحايل على العقوبات الأمريكية على إيران خلال الفترة (2010-2015). كذلك يطرح هذا التيار ضرورة منع تمركز القوات الأمريكية في "إنجيرليك" فقط، والعمل على توزيع هذه القوات على عدد من القواعد العسكرية في دول الجوار، وذلك بهدف إضعاف الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه القوات في الشأن الداخلي التركي.
وتستخدم القوات الجوية الأمريكية، والتركية، قاعدة "إنجيرليك" في إطار اتفاقية التعاون العسكري، والاقتصادي بين الدولتين الموقعة في العام 1956، للاستخدام المشترك للقاعدة. وتكتسب القاعدة أهميتها الاستراتيجية بالنظر إلى عدة عوامل، منها قربها من روسيا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط. أضف إلى ذلك أن القاعدة لا تبعد سوى 150 كم عن الحدود السورية، ونحو 30 كم من البحر الأبيض المتوسط. وتاريخيا، اتخذت القوات الأمريكية "إنجيرليك" قاعدة لاحتواء الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، وللاستجابة للأزمات التي تنشب في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، تدخّلت القوات الأمريكية المرابطة فى "إنجيرليك"، في لبنان في عام 1958، بعد طلب من الرئيس كميل شمعون. وعشية أحداث 11 سبتمبر 2001 وفرت القاعدة القسم الأكبر من المساعدات اللوجستية لعمليات حلف الأطلسي في أفغانستان. كما لعبت دورًا كبيرًا منذ العام 2015 في عمليات التحالف الدولي في العراق وسوريا، لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وبدأت عملية بناء القاعدة بإشراف أمريكي في عام 1951، وانتهت بعد 4 سنوات، وشكّلت نقطة انطلاق للعديد من الحملات العسكرية في الشرق الأوسط، والعالم طوال عقود، فضلاً عن أن "إنجيرليك" موطن لمخزون الولايات المتحدة من القنابل النووية B61.
التلويح بإغلاق "إنجيرليك" لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق أن اتهمت أنقرة ضباط أمريكيين بالمشاركة فى محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016، ووعدت بإنهاء وجودها على الأراضي التركية. غير أن هذه التهديدات يبدو أن واشنطن لا تأخذها على محمل الجد، بدليل إقدامها- رغم التهديد التركي- على فرض عقوبات، في مطلع أغسطس 2018، على وزيري الداخلية والعدل التركيين، بجوار مضاعفة الرسوم على وارداتها من الحديد والألومونيوم التركيين، بسبب استمرار سجن القس برونسون وعدد من مزدوجي الجنسية، وموظفي القنصليات الأمريكية في تركيا.
والواقع أن التلويح التركي باستخدام ورقة إنجيرليك، قد لا يضر واشنطن كثيرًا، في ظل امتلاك واشنطن بدائل أخرى للقاعدة -وإن كان بعضها أقل أهمية بالنسبة للعمليات الأمريكية في الشرق الأوسط- لا سيما القواعد الجوية في الأردن، والكويت، وقاعدة القيارة في العراق. ويبقى سلوك ألمانيا نموذجًا لدى واشنطن، حين عملت على إعادة تموضع قواتها من "إنجيرليك" إلى قاعدة "الأزرق" بالأردن في يونيو 2017 عقب رفض أنقرة السماح لبرلمانيين ألمان بزيارة جنود ألمان في القاعدة.
وقد تتكبد تركيا خسائر أكبر في حالة ما إذا اتجهت إلى إغلاق "إنجيرليك"، فربما تندفع السلطات الأمريكية نحو تقليص برامج التعاون العسكري، وهو ما حدث عندما أبرم الرئيس الأمريكي في 14 أغسطس 2018 قرارا بإيقاف تسليم طائرات F35 إلى أنقرة حتى يقدم "البنتاجون" تقييما للعلاقة بين البلدين، خصوصا ما يتعلق بالعمليات العسكرية الأمريكية من قاعدة "إنجيرليك"، إضافة إلى تجميد صادرات واشنطن من الأسلحة إلى تركيا.
أيضا قد تتعرض تركيا لعقوبات اقتصادية إضافية من واشنطن، لتطال كيانات وشركات وشخصيات تركية أخرى، وذلك بعد إعلان الإدارة الأمريكية عن مراجعة اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، وصدور قرار بمراجعة الإعفاءات المقدمة لتركيا من الرسوم الجمركية على بعض السلع، وهى خطوة أضرت بصادرات تركية إلى السوق الأمريكية بقيمة 1,7مليار دولار.ما يعني أن قرار إغلاق "إنجيرليك" -حال اتخاذه- قد لا يكون في صالح تركيا التي يعاني اقتصادها من صعوبات عدة، أهمها استمرار تدهور الليرة أمام العملات الصعبة، وتراجع تصنيف وضعها الائتماني عالميًا.
على صعيد آخر، فإن إغلاق إنجيرليك قد يكرس مأزق تركيا، التي تعانيعددًا من المشكلات، في ظل اشتداد صراعات الإقليم، وعدم توفير الناتو الغطاء الدفاعي الكافي لها، وهو ما دفعها إلى التنسيق مع روسيا للحصول على منظومة الدفاع الصاروخية S400.
أوراق أخرى عديدة تظل بيد واشنطن، تستطيع من خلالها إزعاج أنقرة إذا ما أقدمت الأخيرة على إغلاق "إنجيرليك"، يأتي في الصدارة منها زيادة الدعم الأمريكي المستمر للفصائل العسكرية الكردية في سوريا وأبرزها "قوات حماية الشعب"، إذ يثير هذا الدعم مضاعفة المخاوف الأمنية والسياسية لدى تركيا، التي تخشى زيادة القوة العسكرية للأكراد في المنطقة عمومًا، وبخاصة حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا، والذي تصنفه حكومة أنقرة كيانا إرهابيًا.
تأسيسًا على ما سبق، وبرغم التوتر السياسي الحادث في العلاقة بين البلدين، فثمة معطيات قوية تدفع البلدين للإبقاء على العلاقة، من بينها العضوية المشتركة في الناتو، والتعاون الاقتصادي وحجم المبادلات التجارية المشتركة إضافة إلى وعى أنقرة بموقع وموضع واشنطن في السياسية الإقليمية والدولية، وكذلك إدراك إدارة ترامب أن تركيا تمثل جزءا من معادلات إقليم الشرق الأوسط، بشكل عام، والملف السوري بشكل خاص.
القصد أنه ليس من الوارد إغلاق "إنجيرليك"، إذ تعي تركيا مسئوليتها في إطار "الناتو" الذي يعتمد على القاعدة التركية في عدد واسع من عملياته العسكرية في أفغانستان وغيرها. ولذلك فإن أنقرة ستظل مجبورة على فتح القاعدة، خاصة في حالة الظروف التي تنطوي على وجود تهديدات واضحة للأمن القومي لدول الناتو.
وإذا كانت واشنطن قد فرضت عقوبات اقتصادية لتحريك ملف برونسون، واستثمار اسمه في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2018 لدى التيار الإنجيلي المتشدد، فإنها في الوقت ذاته تعلم أن أنقرة تظل شريك جيوسياسي حاسم، وحجر زاوية في حلف الناتو. كما أنها لا ترغب في دفع أنقرة أكثر للاقتراب من محور موسكو- طهران، ولذلك عارض وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس فكرة وقف تسليم تركيا الطائرات المقاتلة F35.
وأخيرًا، يمكن القول إن تركيا لا تستطيع التخلي عن الغطاء الغربي في ظل عدم اتضاح الحلول النهائية في صراعات الإقليم، وبخاصة سوريا، فضلاً عن أنها ليست عضوًا بنيويًا في حلف مشرقي جديد. كما لم تنل عضوية تجمع اقتصادي مناهض للولايات المتحدة مثل "البريكس"، ولذلك قد لا يكون بمقدورها اليوم لا إغلاق "إنجيرليك"، ولا مغادرة مربع العلاقة مع العالم الغربي.