في خطوة مهمة وجديدة أدت مصر دورا فاعلا في مسار "التسويات المناطقية" في سوريا؛ بتوقيع اتفاقات للمصالحة في مناطق الساحل السوري بين عدد من الفصائل المعارضة المعتدلة وبين النظام، بنهاية شهر يوليو الماضي (2018)، بضمانة روسيا ووساطة رئيس تيار الغد السوري المعارض أحمد الجربا. تبع ذلك توقيع اتفاقات جديدة مماثلة في مناطق الشمال والشرق مع مطلع شهر أغسطس الجاري (2018). الرعاية المصري لهذه الاتفاقات تُضاف إلى مسار بدأته القاهرة في العام الماضي بتوقيع هدنة في أجزاء من الغوطة الشرقية (يوليو 2017)، ثم هدنة مماثلة في ريف حمص الشمالي (أغسطس 2017). كما توصلت القاهرة لاتفاق وقف إطلاق النار في منطقة جنوب العاصمة دمشق وتحديدا في حي القدم (أكتوبر 2017) بعد أن كان سكانه مهددين بالتهجير القسري من قبل النظام. ووفقا لهذه الاتفاقات تم ترسيم حدود منطقة خفض التصعيد في المناطق المذكورة بما أسهم في إدخال المساعدات الإنسانية لسكانها.
جهود مصرية حثيثة
سبق أن استضافت القاهرة العديد من مؤتمرات المعارضة السورية، فضلا عن عقد مجموعة من الاجتماعات التشاورية لعدد من القوى السياسية والقبائل المقيمة في مناطق الشرق السوري وذلك في سبتمبر 2017، وهي مناطق الجزيرة (الحسكة) في الشمال الشرقي، ومحافظتا دير الزور والرقة في الشرق. أهمية هذه الاجتماعات تعود إلى كون منطقة الشرق السوري هي منطقة نفوذ أمريكي يتم عبرها دعم الأكراد السوريين (قوات سوريا الديمقراطية)، وتتداخل فيها تركيا لرفضها الدعم الأمريكي للأكراد. وجاءت الخطوة المصرية لتفرض وجودا عربيا قويا وسط عملية تقاسم النفوذ في هذه المنطقة الشائكة، حيث أسهمت في تشكيل "المجلس العربي في الجزيرة والفرات"ليعبر عن إدارة ذاتية للسكان العرب في هذه المناطق؛ وذلك عبر تشكيل هيئة تنفيذية تكون مسئولة أمام المجلس المذكور لتتولى مهام إدارة شئون المناطق العربية في الشرق السوري. ومن المحتمل أن تكون هذه الخطوة وهذه الاجتماعات التشاورية هي التي أسهمت في التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار برعاية مصرية في بعض جيوب هذه المناطق خلال مطلع شهر أغسطس الجاري (2018).
هذا الدور المصري نابع من التزام القاهرة بمجموعة من المسلمات بشأن الأزمة السورية، تقوم على أولوية الحفاظ على الدولة السورية ووحدة أراضيها، ورفض أي مشاريع إقليمية لتقسيم سوريا، والحفاظ كذلك على مؤسساتها الأمنية، ورفض التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري. ولعل هذا الالتزام الأخير تحديدا هو الذي شكل سلوك القاهرة بشأن رفض التدخل العسكري في سوريا، ورفض الحلول العسكرية وإعطاء أولوية للمساعي السياسية، مع استبعاد الفصائل المصنفة ضمن التنظيمات الإرهابية، من تلك المصالحات. وقد نص اتفاق المصالحة الذي رعته القاهرة بين المعارضة وبين النظام السوري في مناطق الساحل السوري على وقف إطلاق النار، ومشاركة الفصائل في محاربة الإرهاب، ودعم الاستقرار في مناطقها عبر تشكيل قوة أمنية من أهالي المناطق التي يشملها الاتفاق، على أن يتم ذلك برعاية النظام، وضمان العودة الآمنة للنازحين واللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم، والإفراج عن المعتقلين.
مصر وسيط محايد
يلاحظ هنا أن الدور المصري في الأزمة السورية يكاد يكون مختلفًا كلية عن كافة الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة فيها؛ فهي طرف لم يشارك ميدانيا في الصراع، كما أن مصالحها في سوريا نابعة من التزامها التاريخي بسلامة الأمن القومي العربي. كما ترى مصر أن حل الأزمة هو حل سياسي بالأساس وليس عسكريا، هذا فضلا عن أن عدم تورطها ميدانيا في الصراع جعلها قادرة على التواصل مع معظم أطرافه، سواء النظام أو فصائل المعارضة المعتدلة؛ إذ ترى ضرورة الحفاظ على الدولة السورية. وفى الوقت ذاته، تطالب القاهرة بضرورة وضع الطموحات المشروعة للشعب السوري محل اهتمام. كما تدعو إلى خروج كافة الميليشيات المسلحة المتواجدة على الأراضي السورية باعتبارها الخطوة الأساسية للقضاء على ذرائع الجماعات الإرهابية في التواجد بسوريا. يُضاف إلى ذلك قبول العديد من القوى الإقليمية والدولية، سواء المنخرطة في الصراع أو غيرها، للرؤية المصرية في التعامل مع الأزمة لاسيما روسيا، وتفهم دول الخليج لأهمية الدور المصري في سوريا وطبيعته. هذا بخلاف إدراك مصر أن أمنها القومي واستقراره يبدأ من سوريا.
في هذا الإطار، توافرت في مصر شروط "الوسيط المحايد" الذي بإمكانه لعب دور أكثر إيجابية في حل الصراع حلا سياسيا، وإن كانت القاهرة تلعب هذا الدور بقدر كبير من التريث والحذر والهدوء في الوقت الحالي، وتفضل توظيفه في سياسات المصالحات الجزئية، أو ما يسمى بالمصالحات المناطقية كخطوة يمكن البناء عليها في التسوية الشاملة. ويلاحظ هنا أن هذه الاتفاقات شملت معظم المناطق التي كانت تشهد تواجدا مسلحا من المعارضة في محيط العاصمة دمشق. كما يلاحظ أيضا أن هذا النوع من التسويات المناطقية يعتبر مكملا لاتفاقات مناطق خفض التصعيد والتوتر التي ترعاها روسيا في سوريا. ومن المتوقع أن يزداد الدور المصري في التعامل مع الأزمة السورية خلال المرحلة القادمة عبر هذا النمط من التسويات والاتفاقات مع المعارضة المعتدلة برعاية روسية؛ فموسكو ترى أنها في حاجة إلى دور عربي محايد يساعدها في تسويات مناطق خفض التوتر والتصعيد، ووجدت في مصر هذا الدور الذي يسعى إلى الحفاظ على كيان الدولة السورية، وفى الوقت نفسه يهدف إلى التوصل لحل سياسي لأزمتها.
هذا الدور المصري يدفع إلى التساؤل بشأن مدى استمرار التأثيرات الإيجابية لاتفاقات المصالحة المصرية على الواقع السوري الميداني؟ هنا تجدر الإشارة إلى أن استمرار هذه الاتفاقات سيظل مرهونا إلى حد كبير بالضمانة الروسية لسلوكيات النظام السوري تجاه عملية وقف إطلاق النار التي أقرتها تلك الاتفاقات، لاسيما وأنها – أي الاتفاقات - تمت ونجحت نتيجة لقبول النظام السوري للدور المصري. وهذا يستدعى متابعة دائمة من قبل القاهرة لمسارات تطبيق بنود هذه الاتفاقات مع ملاحظة أن روسيا غالبا ما تحركها مصالحها الميدانية في سوريا - على العكس من مصر- وبالتالي فإن ضمانها لمثل هذه الاتفاقات من عدمه سيؤثر على الوضع الميداني والسياسي الناتج عن هذه الضمانة. وتستطيع مصر بعلاقتها المتميزة مع روسيا - لاسيما في ظل حاجة الأخيرة إلى وجود دور عربي محايد في سوريا – أن تتابع تطبيق اتفاقات الهدن التي أبرمتها عبر مزيد من تفعيل مباحثاتها مع موسكو بشأن التهدئة المأمولة في سوريا، والدفع نحو الحل السياسي في إطار القرارات الأممية الخاصة بالأزمة.
اتفاقات المصالحة في سوريا التي تمت في مناطق الساحل السوري برعاية مصرية وضمانة روسية تشير إلى رغبة روسيا في استكمال مشهد التسويات الجزئية التي أقرتها مبادرتها بشأن مناطق خفض التصعيد والتوتر، لاسيما تلك الواقعة في محيط العاصمة السورية دمشق. لكنها تحتاج لوسيط لديه تأثير متوازن وقوى وفعال على طرفي الصراع في تلك المناطق، الأمر الذي عزز من الدور المصري كوسيط نزيه ومحايد ومقبول من أطراف الصراع من ناحية، ومن الدول المنخرطة فيه من ناحية ثانية، باستثناءات محدودة، خاصة بعد أن نجحت مصر خلال العام 2017 في رعاية اتفاق لوقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة المعتدلة في ثلاثة مناطق هي بعض أحياء الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي وجنوب العاصمة دمشق. هذا الدور المصري في التسويات المناطقية مع ازدياده وتصاعده وفى إطار علاقته بروسيا، بإمكانه الدفع نحو مفاوضات سياسية من أجل الحل السياسي، مع ملاحظة أن المصالحات السورية سواء أكانت من قبل النظام السوري، أو برعاية مصرية لا تطرح حلا نهائيا للأزمة الذي لا يزال يواجه تعقيدات إقليمية ودولية متعددة، ولكنها تسهم في خلق حلول جزئية لها عبر تطويق الأزمة بقدر من التسويات الداخلية، فهل ستستمر مصر في لعب هذا الدور وتفعيله خلال المرحلة القادمة، أم سيتوقف هذا الدور عند حدود إبرام هذا النوع من الاتفاقات؟ الدور التاريخي لمصر يفرض عليها بذل المزيد من الجهد تجاه قضايا محيطها العربي، والعودة السريعة والفعالة والحذرة في الوقت ذاته لمضمار أمنها القومي العربي عبر البوابة السورية التي باتت تمثل أولوية آنية للسياسة الخارجية المصرية.