د. أماني الطويل

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية

لا تعكس المصالحة الإثيوبية- الإريترية اتجاهات تصالحية جديدة لإثيوبيا في الإقليم بقدر ما تعكس مصالح دولية وإقليمية ترسم توازنات قوى جديدة في مواجهة تمدد كل من إيران وتركيا في منطقة البحر الأحمر منذ مطلع الألفية الراهنة. فقد باتت تحركات كل من إيران وتركيا في منطقة البحر الأحمر تشكل تحديات أساسية لأمن الخليج العربي وتجارته البترولية، فضلا عما دشنته هاتان الدولتان من تحالفات مقلقة لأمن بعض دول القرن الإفريقي.

في هذا السياق، يبرز الدوران الأمريكي والخليجي في رعاية المصالحة بين أديس أبابا وأسمرة، وذلك سعيا وراء بناء قوة بحرية إثيوبية تكون كابحا للتمدد الإيراني البحري المقلق للخليج، وهو التمدد الذي أسهم بشكل فعال في طبيعة الوجود الإيراني في اليمن والدعم الإيراني لجماعة الحوثي وتحولاتها من حركة دعوية لفصيل مسلح مؤثر على التحالفات اليمنية الداخلية إلى فاعل له تأثيره الإقليمي المهدد للمصالح الخليجية. أما التمدد التركي ذي الوجه العثماني، والذي يقوده أردوغان صاحب المرجعية الإخوانية، فلابد أن يكون هو الآخر مصدر قلق مهم بالنسبة لقومية التيجراي المسيحية والمتنفذة في إريتريا، خاصة مع صعود قومية الأورومو المسلمة والتي تملك وزنا سكانيا لا يُستهان به، فضلا عن طبيعة الوجود التركي في الصومال على الصعيدين العسكري والمدني.

وتلعب إثيوبيا، ورئيس الوزراء الجديد آبي أحمد، دورا رئيسا في هذا المشروع الدولي والإقليمي؛ فعلى الرغم من انتماء آبي إلى قومية الأورومو المسلمة، فهو قادم من رحم النظام الإثيوبي ومؤسساته، واكتسب خبراته السياسية والأمنية في إطار الائتلاف الحاكم منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بل وامتلك بحكم مناصبه العديدة السابقة داخل النظام السياسي الإثيوبي علاقات دولية وإقليمية مهمة.

وكما تمت هندسة الدور الإقليمي الإثيوبي في تسعينات القرن الماضي في إطار محاربة الإرهاب، بقيادة ميليس زيناوي آنذاك، والذي طرح مشروع السدود المائية كحافز لمشروع اندماج القوميات الإثيوبية، فإن التمدد البحري الإثيوبي بالبحر الأحمر في مواجهة كل من إيران وتركيا، بالتحالف مع دول الخليج، وبضوء أخضر غربي عموما، وأمريكي خصوصا، يمثل المشروع الرئيس لآبي أحمد، استنادا إلى مشروع للمصالحة الداخلية وانفتاح سياسي سيكون فيه لتحالف الأورومو مع الأمهرة وزنا مهما على الأرض على حساب التيجراي، وهو أمر سيجد بطبيعة الحال مقاومة هائلة، خصوصا أن مفاصل الدولة لازالت في يد التيجراي. ومن ثم، فإن محاولة آبي أحمد إقصاء التيجراي من مراكز قوتهم الاقتصادية عبر فتح باب خصخصة وإعادة هيكلة المؤسسات العامة والعسكرية، وعبر إقصاء مدير المخابرات الحربية ورئيس أركان الجيش، يجعل المشروع الداخلي لآبي أحمد على صفيح ساخن من التوازنات الحرجة. ولكن يُحسب للرجل نجاحه حتى الآن في بلورة قاعدة جماهيرية مساندة له، ساعده في ذلك خطابه الاعتذاري للمعارضة السياسية وللشباب الإثيوبي الذي تم التنكيل به على مدى سنوات في السجون والمعتقلات. وبهذه التكتيكات والمعادلات ربما تكون فرص آبي أحمد في النجاح لا يُستهان بها.

رئيس الوزراء الإثيوبي يضمن بالمصالحة مع إريتريا تدخلا أقل من جانب الأخيرة في المعادلة السياسية الإثيوبية، إذ إن العداء الإثيوبي لإريتريا قد مثل سببا من أسباب عدم الاستقرار الداخلي، حيث دعمت أسمرة بعض أطراف المعارضة الإثيوبية، كما تم اتهام أسمرة بدعم تنظيم الشباب الصومالي ضد المصالح الإثيوبية في الصومال خلال الفترة السابقة.

العوائد الإيجابية المتوقعة من وراء المصالحة الإثيوبية مع إريتريا تتمثل في النفاذ إلى موانئ أقرب إلى أديس أبابا، وقدرة أكبر على التأثير في منظومة أمن البحر الأحمر عبر بناء القوة البحرية المعلن عنها. أما على الصعيد الاقتصادي فإن تكلفة أديس أبابا لتدبير احتياجات الدولة الإثيوبية الحبيسة تبدو أقل بما لا يُقارن مع تكلفة الموانئ الجيبوتية البعيدة. وبطبيعة الحال، فإن الاستجابة الإثيوبية لمعطيات الأمن الخليجي في البحر الأحمر لابد وأن تضمن استثمارات خليجية متنامية، ومساعدات اقتصادية مؤثرة في بنية الاقتصاد الإثيوبي، وهو أمر يضمن أرباحا وعوائد للطرفين الخليجي والإثيوبي.

أما على الصعيد الإريتري، ففضلا عن العوائد الاقتصادية المترتبة على استخدام الموانئ الإريترية لصالح إثيوبيا، فإن هناك عوائد إيجابية متوقعة على الصعيد الداخلي، حيث إن اعتراف إثيوبيا باتفاقية الجزائر لعام ٢٠٠٠ يفتح المجال أمام إعادة مثلث بادمي إلى السيادة الإريترية، وهو ما سينعكس إيجابا على شرعية النظام الإريتري. أما على الصعيد الاستراتيجي، فإن التقارب الإريتري الإثيوبي يمثل مدخلا مهما لإبعاد شبح الإمبراطورية العثمانية التي تقلق التيجراي الإريتريين (المسيحيين) الذين يعتبرون تركيا مهددا رئيسا. ففي هذا السياق، عبر الرئيس أسياسي أفورقي عن قلقه من التحالفات التركية في منطقة القرن الإفريقي.

وفي ضوء تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بقرب رفع العقوبات الدولية عن إريتريا والتي سبق أن تم إقرارها خلال العام ٢٠٠٩ بسبب الدور الإريتري في الصومال، فإن ذلك يعني فرص تدفق معونات اقتصادية دولية لإريتريا، فضلا عن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وفي القلب منها الاستثمارات الخليجية التي تراهن بدورها ليس فقط على إبعاد النفوذ الإيراني والتركي ولكن أيضا على الاستفادة من الساحل الإريتري الطويل على البحر الأحمر خصوصا من جانب دولة الإمارات العربية المتحدة، بما نتوقع معه تدشين موانئ جديدة.

هذه الهندسة الجديدة لتفاعلات القرن الأفريقي غير بعيدة عن تفاعلات إقليم الشرق الأوسط وطبيعة الدور الإيراني في الإقليم، فربما نشهد تراجعا إيرانيا نسبيا في بعض مناطق البحر الأحمر في مواجهة هذه الضغوط، وذلك بهدف المحافظة على المشروع النووي الإيراني، من جهة، وعلى الدور الإيراني في المعادلات السورية، من جهة أخرى.

وربما يكون السؤال المطروح هنا: هل تفيد هذه الهندسة الجديدة لمنطقة القرن الإفريقي مصر على صعيد أزمة سد النهضة، خصوصا في ظل الدور الخليجي ووزنه في هذه المعادلات؟ التقديرات تبدو حتى الآن إيجابية بشكل كبير، لكنها تتطلب حركة مصرية دؤوبة ليس فقط في إطار قضية سد النهضة، ولكن في إطار العمل على خلق المبادرات المؤثرة على منظومة أمن البحر الأحمر وضمان مقعد مصري فيها، ليس فقط من خلال تشجيع المصالحة الإثيوبية- الإريترية ولكن من خلال تفاعل مصري خلاق مع المسألة الصومالية، ومن خلال الوصول إلى توافقات مصرية- إثيوبية حول مختلف القضايا الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، حيث توجد فرصة كبيرة لذلك في ظل حالة السيولة الجارية.