تعكس محاولة اغتيال رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد - السبت 23 يونيو (2018) - طبيعة التحديات الداخلية التي يواجهها الرجل في بلد يشهد حالة من تعدد القوميات التي تطورت تاريخيا بالتوازي ولم تحقق الاندماج الوطني المطلوب الذي يٌعد شرطا مهما لضمان الاستقرار السياسي. كما تعكس محاولة الاغتيال تلك مخاوف داخلية من تحولات إقليمية تقوم على حساب أقلية التيجراي الحاكمة بهدف إقصائهم عن مفاصل الدولة الإثيوبية، وهو أمر ستكون له تداعياته الداخلية، وخلق نمط من التفاعلات الإقليمية الجديدة في المرحلة القادمة.
الخطاب الإصلاحي لرئيس الوزراء الإثيوبي في البرلمان غداة توليه منصبه بشر بمشروع طموح للتطوير الاقتصادي والمصالحة الوطنية بعد فترة احتقان طويلة أقلقت عواصم عالمية بما تمثله إثيوبيا من وزن مؤثر في منطقة القرن الإفريقي. وقد دعم هذا الخطاب إرادة سياسية لآبي أحمد تملك معرفة واقعية بطبيعة التحديات المطروحة عليه وعلى بلاده، وذلك استنادا إلى خبرات آبي أحمد في الأجهزة الأمنية الإثيوبية، وأيضا كونه ممثلا لقوميته المسلمة الأورومو (أكبر كتلة سكانية) في تحالف الشعوب الإثيوبية الحاكم The Ethiopian People's Revolutionary Democratic Front (EPRDF).
على أن الأداء السياسي لرئيس الوزراء الإثيوبي الجديد يبدو أنه قد تسبب في حساسيات داخل أقلية التيجراي والتي تقوم عليها معظم مفاصل الدولة ونخبتها السياسية الحاكمة، وذلك على المستويين الداخلي والإقليمي. وربما هذا ما يفسر اعتقال قيادات أمنية كبيرة في أعقاب الانفجار الذي استهدف تجمعا جماهيريا مواليا لرئيس الوزراء. فعلى المستوى الداخلي، قام رئيس الوزراء الإثيوبي بجولات مكوكية في معظم الأقاليم الإثيوبية مبلورا خطاباً يوصف بالاعتدال، وذلك في محاولة لامتصاص الاحتقان الإثني. وحققت هذه الجولات مكاسب جماهيرية كبيرة مكنت رئيس الوزراء الجديد من إطلاق حزمته الثانية من خطته الإصلاحية والتي تمثلت في خطوات إجرائية لإقصاء قيادات أقلية تيجراي؛ فأطاح في مطلع يونيو ٢٠١٨ برئيس أركان الجيش ومدير المخابرات العامة، وهما الرجلان اللذان قضيا ما يقرب من عقدين في منصبهما، حيث تم إسناد منصب مدير المخابرات إلى أرومي مسلم، هو الجنرال آدم محمد.
وفي هذا السياق، أقدم آبي أحمد على إلغاء حالة الطوارئ التي فُرضت في أعقاب استقالة رئيس الوزراء السابق، هيلا مريام ديسالين، بما يعني دعم قدرة المعارضة على الحراك الجماهيري وبلورة مطالبها السياسية، وهو الأمر الذي أسفر عن عودة الكثير من المعارضين إلى أديس أبابا من المهاجر المختلفة معلنين عن رغبتهم في حوار وطني يقود إلى مصالحة، خصوصا بعد أن اجتمع آبي أحمد مع المعارضة، وهي تفاعلات حققت للرجل جماهيرية وشعبية بين الإِثيوبيين ربما يعتبرها التيجراي معولا لهدم سيطرتهم كنخبة سياسية.
كما دخل آبي أحمد "عش الدبابير" حين أدان مؤخرا أداء الأجهزة الأمنية الإِثيوبية، واعتبر أن ممارسات هذه الأجهزة ضد المعارضين أمر مرفوض ويفتقد للشرعية. اتهامات من هذا النوع لابد وأن يكون لها تداعياتها على الصعيد الداخلي، ذلك أن النخب الحاكمة في إثيوبيا تنتمي لأقلية التيجراي (أقلكتلة سكانية)وهي التي اضطرت إلى التخلي عن منصب رئيس الوزراء تحت ضغوط الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة منذ ثلاث سنوات والتي كانت قومية الأورمو تقودها، بتحالف مع شعب الأمهرة.
على الصعيد الاقتصادي أقدم آبي أحمد على خطة لإعادة الهيكلة والاتجاه نحو الخصخصة، وهي إجراءات تضر بطبيعة الحال بشبكات مصالح مؤسسية تنتمي غالبيتها إلى قومية التيجراي، خاصة في مجالات الطيران والطاقة وغيرهما، بما يهدد سيطرة الشركات التابعة للجيش الإثيوبي على هذه القطاعات، وهي السيطرة التي برزت مع فترة ميليس زيناوي.
أما على الصعيد الإقليمي، فثمة مؤشرات على انخراط آبي أحمد في تحالف جديد يضم إرتيريا ودول الخليج ولا تبدو واشنطن بعيدة عنه، ويفتح ربما مجالا لعلاقة جديدة مع مصر على نحو مغاير للمنهج السابق. وقد بدأت إرهاصات هذا التحالف تظهر في زيارات آبي أحمد الخارجية لكل من أبو ظبي والرياض والقاهرة، ثم إعلانه عن قبوله باتفاقية الجزائر لعام 2000، الخاصة بترسيم الحدود مع إريتريا في مثلث بادمي المتنازع عليه بين البلدين والذي تسبب في حرب خلفت 100 ألف قتيل خلال الفترة (1998- 2000).
وقد تفاعلت إرتيريا إيجابيا مع هذا الاتجاه، فأرسلت وزير خارجيتها ومستشار الرئيس أسياس أفورقي على متن طائرة إماراتية إلى أديس أبابا لمناقشة الخطوات الإجرائية لحل أزمة الحدود. وقد جاءت هذه الزيارة بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس أسياس أفورقي بمناسبة عيد الشهداء، والذي أطلق فيه عبارات قاسية ضد أقلية التيجراي الإثيوبية ووصف سياستهم بالتدميرية، واتهمهم بإحباط فرص تطوير العلاقات الإثيوبية- الإرترية، وأن على الشعب الإثيوبي أن يعجل بنهايتهم.
ويبدو أن خطاب أفورقي جاء ردا على بيان اللجنة المركزية بالجبهة الشعبية لتحرير تيجراي والذي عكس اعتراضاتها ومخاوفها من التطورات الداخلية والإقليمية عقب وصول آبي أحمد، حيث أدان البيان خصخصة القطاع العام، والاعتراف (الكامل) باتفاقية الجزائر للسلام مع إرتريا، وقرار اللجنة الحدودية. كما اعترض البيان على نشر قرارات رئيس الوزراء قبل عرضها على مجلس الائتلاف الحاكم المكون من 180 عضوًا وموافقته عليها. كذلك اعترض البيان أيضا على التعيينات الجديدة لقيادات الجيش والمخابرات ووصفها بأنها لا تتوافق مع القواعد التنظيمية لتحالف الشعوب الإثيوبية الحاكم EPRDF
التوجهات الإثيوبية الجديدة تبلور ربما اتجاهات أمريكية تسعى إلى التخلي عن أقلية التيجراي التي قادت مشروعا قوميا في عهد ميليس زيناوي، اعتمد فيه الأخير على تقديم نفسه وبلاده كوكيل للغرب في محاربة الإرهاب، خصوصا عبر أداور عسكرية في الصومال، وتزايد حجم التواجد الإثيوبي في قوات حفظ السلام في السودان، فضلا عن المظلة التي تقدمها أديس أبابا لمحاولة حل النزاعات المسلحة في شرق إفريقيا، خصوصا في جنوب السودان.ولعل التوجه الأمريكي الجديد بسبب عدم قدرة النخب السياسية المنتمية إلى التيجراي على احتواء الاحتجاجات الداخلية على مدى ثلاث سنوات بما هدد كيان الدولة الإثيوبية ذاتها، حيث تجرب وشنطن هذه المرة الأورومو الممثلين لحوالي 40% من الشعب الإثيوبي.
وإذا كان الوزن السياسي لإثيوبيا قد زاد في عهد ميليس زيناوي، صاحب الريادة في بلورة مشروع قومي إثيوبي، تم دعمه بعلاقات متميزة مع العواصم العالمية، فإن هذا الوزن من المتوقع أن يتضاعف مع استراتيجية آبي أحمد الجديدة التي تقوم على اختراق جديد على هذا الصعيد، حيث طرح إنشاء قوات بحرية إثيوبية على الرغم من كون إثيوبيا دولة حبيسة بدون إطلالة ساحلية، لكنه يعتمد في ذلك على موانئ في كل من الصومال والسودان وجيبوتي، رافضا أن تكون نقطة ارتكازه جيبوتي فقط، وذلك رغم وجود خط سكك حديد إثيوبي، مولت إنشاءه الصين، ويمتد لجيبوتي، وهو بمثابة شريان الحياة للأخيرة لكونه يحمل يوميا للجيبوتيين التبغ والخضر والفاكهة وكافة السلع الغذائية، بما يعني في التحليل الأخيرة قدرة لا متناهية على التأثير في دوائر صناعة القرار الإثيوبي.
إذن التحركات الداخلية والخارجية لرئيس الوزراء الإثيوبي الجديد شكلت تهديدا للدولة الإثيوبية العميقة، والتي امتدت تحالفاتها وشبكاتها على مدى أكثر من عقدين، وكونت جماعات مصالح يهددها بالتأكيد رئيس الوزراء الإثيوبي، وهو الأمر الذي يدعم احتمالات أن تكون محاولة الاغتيال الأخيرة هي صناعة محلية بامتياز، وأنها لم تسع لاغتيال الرجل بقدر ما سعت إلى تلجيم خطواته المتسارعة وتنبيهه بعدم الاقتراب من شبكات المصالح المتراكمة. صحيح أن آبي أحمد في تأكيده على سلامته، في أعقاب العملية مباشرة حاول أن يلقي بسهام الاتهام إلى الخارج بقوله إن القائمين على عملية الاغتيال هم قوى لا تريد للشعوب الإثيوبية أن تتوحد، ولكن فيما يبدو لنا أن الجوار الإقليمي بريء من هذا الاتهام. بل ويُعول على رئيس الوزراء الإثيوبي كثيرا في صياغة منظومة إقليمية متعاونة تحظى باستقرار يهيئ مناخ مواتي لتبادل المصالح الاقتصادية، خصوصا أن إقليم شرق أفريقيا هو بحكم الموقع الجغرافي متاخم لحرائق الشرق الأوسط المشتعلة والمهددة لمنظومة أمن البحر الأحمر أيضا، والذي يتحكم في ثلثي حركة التجارة على المستوى العالمي.
وبطبيعة الحال لا يبدو طريق آبي أحمد في إثيوبيا معبدا على الصعيد الداخلي، فهناك توازنات حرجة جدا، ربما تضع الرجل والإقليم خلال المرحلة القادمة في مفترق طرق.