معطيات عديدة حددت حظوظ المكون الكردي في الانتخابات البرلمانية العراقية، التي أُجريت في الثاني عشر من مايو 2018. ارتبطت معظم هذه المعطيات بتداعيات فشل الاستفتاء على الاستقلال عن الدولة، والذي أُجريت فعالياته في 25 سبتمبر 2017، الأمر الذي أدى إلى ظهور العديد من الخلافات بين الأحزاب الكردية المختلفة من جانب، وبينها وبين الحكومة المركزية السابقة في بغداد من جانب آخر. هذه المعطيات لم تؤثر فقط على فرص الأكراد في الانتخابات، ولكنها فرضت تساؤلات مهمة حول مستقبل الوجود السياسي للأكراد في عراق ما بعد تنظيم الدولة "داعش"، والدور الذي سيلعبونه في تشكيل الحكومة التي ستنبثق عن الانتخابات بشكل عام، لاسيما في ضوء الأزمات السياسية والاقتصادية التي عانى منها الإقليم أخيرا.
أولا: أربيل وبغداد.. معطيات ما قبل الانتخابات
يتمتع إقليم كردستان العراق بإدارة ذاتية منذ عام 1970 وفقًا لاتفاقية إنهاء الحرب بين الحكومة العراقية والكتلة الكردية. وفي عام 1991 وعقب حرب الخليج الأولى، تم فرض حظر جوي على الطائرات العراقية فوق إقليم كردستان، الأمر الذي جعل من الحكم الذاتي للإقليم أمرًا واقعًا. ومع سقوط نظام صدام حسين اكتسب الأكراد العديد من الامتيازات بإقرار دستور عام 2005- الذي وُضع في ظل الاحتلال الأمريكي- منها الاعتراف باللغة الكردية لغة رسمية ثانية في عموم العراق، واعتبار منطقة "كردستان العراق" كيانًا اتحاديًا ضمن حدود الدولة.
وبإقرار العمل بنظام "الديمقراطية التوافقية" منذ إقرار دستور 2005، وتفعيلها عبر نظام توافقي لـ"المحاصصة الطائفية"، نتج عن ذلك دخول الأكراد كمتغير صريح على معادلة اقتسام السلطة مع القوى الشيعية والسنية على الرئاسات الثلاث، بحيث أصبحت رئاسة الجمهورية من حصة الأكراد، ورئاسة الوزراء من حصة الشيعة، ورئاسة البرلمان من حصة السنة.
وقد مثّل الأكراد القوة القومية البرلمانية الثانية بعد كتلة العرب من السنة والشيعة مجتمعين. وتسيطر على الإقليم ثلاثة أحزاب رئيسية، هي الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وحزب حركة التغيير. ودائمًا ما شكلت هذه الأحزاب قوة مهمة بالنسبة لباقي القوى السياسية العراقية لضمان الحصول على الأغلبية السياسية داخل البرلمان والسلطة التنفيذية، من خلال تحالفها مع أي من الأحزاب المتنافسة على الحكم.
وعلى هذا الأساس، سعت الأحزاب الكردية خلال انتخابات عام 2014 إلى الاستناد إلى ما يمثلونه من قوة مهمة في تلك المرحلة لحسم القضايا الجوهرية المتعلقة بتسوية قضية كركوك، وحصد المزيد من المكاسب، خاصة فيما يتعلق بعوائد النفط، والتلويح بالانفصال إذا لم يحصلوا على ما وصفوه بمشاركة سياسية كاملة. وقد عبر عن ذلك الرئيس السابق للإقليم، مسعود بارزاني، عندما هدد بإجراء استفتاء على مصير الإقليم، ما لم تقبل السلطة المركزية في البلاد بما وصفه "مشاركة حقيقية في السلطة". وانتهت انتخابات عام 2014 بحصولهم على 57 مقعدا من أصل 315 مقعدا في البرلمان العراقي آنذاك.
وعقب الانتهاء من محاربة تنظيم الدولة "داعش"، أجرى كردستان العراق استفتاء على استقلال الإقليم في 25 سبتمبر 2017، بالرغم من المعارضة الداخلية والدولية والإقليمية التي واجهت حكومة الإقليم بشأن هذا الاستفتاء. ونتج عن ذلك تشتت القوى الكردية الرئيسية بشأن مشروع الاستقلال، أولا، وبشأن مسارات الانتخابات التي ستخوضها، ثانيا، سواء على المستوى الاتحادي (الانتخابات البرلمانية العراقية)، أو على المستوى المحلى (انتخابات الإقليم). وانتهى الأمر باتهام الأحزاب الكردية لمسعود بارزاني بفشله في قيادة مسار الاستفتاء، الأمر الذي دفعه إلى التنازل عن منصبه، وانشقاق شخصيات كبيرة عن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وتشكيلها تحالفات أخرى لممارسة العمل السياسي.
وأدت نسبة صادرات الإقليم من النفط، التي تقدر بنحو 300 ألف برميل يوميًا، بما يمثل 10% من إجمالي الصادرات النفطية العراقية، إلى اتجاه حكومة بغداد إلى السيطرة على كركوك وبعض المناطق الأخرى الداخلة ضمن نطاق "المناطق المتنازع عليها" بين الإقليم والحكومة. وانتهى الأمر بصدور مشروع الموازنة الجديد، الذي واجه اعتراضات قادة الإقليم، نتيجة لقيام الحكومة الاتحادية بتخفيض حصة حكومة الإقليم في الموازنة. فخلال الخمسة عشر عامًا الماضية كانت نسبة إقليم كردستان من الموازنة 17%، انخفضت خلال الموازنة العامة الأخيرة إلى 14.4%، الأمر الذي يراه الأكراد ليس كافيًا لسد الحاجات الضرورية للإقليم، ولا يفي بحقوق المكون الكردي، واعتبروه نوعا من "الانتقام الحكومي" ردا على محاولة الاستقلال، وهو ما شكل محددا مهما في مشاركتهم في العملية الانتخابية.
ثانيا: الأحزاب الكردية في مرحلة ما بعد الانتخابات
تعد الانتخابات البرلمانية 2018 هي الأولى بعد القضاء على تنظيم الدولة "داعش" عسكريًا وتحرير الأراضي العراقية منه، وجاءت بعد مرور نحو 8 أشهر على إجراء الاستفتاء الكردي على الاستقلال. وقد أُجريت الانتخابات بنظام القائمة المفتوحة والتمثيل النسبي للقوائم الحزبية، واعتماد المحافظات دوائر انتخابية. وباستخدام نظام "سانت ليغو" المعدل، وهو نظام يؤثر سلبيا على حظوظ الأحزاب الصغيرة في العملية الانتخابية. وخاض الانتخابات 503 مرشحين، ضمن 77 لائحة، على 46 مقعدا للأكراد. وتقاسمت المحافظات الثلاث لإقليم كردستان المقاعد على النحو التالي: 16 مقعدًا بمحافظة أربيل، و18 مقعدًا في محافظة السليمانية، 12 مقعدًا في محافظة دهوك، بالإضافة إلى 13 مقعدًا لـ كركوك المتنازع عليها.
وقد قاطع الحزب الديمقراطي الكردستاني الانتخابات في كركوك احتجاجا على ما وصفه بيان صادر عن الحزب بـ"استمرار احتلال كركوك"، في إشارة إلى سيطرة الحكومة الاتحادية على كركوك في أكتوبر 2017، وإخضاع المحافظة لإدارة بغداد بعد إدارتها من قبل الأكراد لسنوات طويلة وتحديدا منذ عام 2003. كما اتخذ حزب الاتحاد الوطني الكردي خطوة مماثلة في الشأن ذاته.
وقد ذهبت العديد من التقديرات قبل الانتخابات إلى أن هذه الانتخابات ستشهد تراجعا في حجم مشاركة الناخبين الأكراد. وقد استندت هذه التقديرات إلى عوامل عدة.
العامل الأول، يتعلق بتداعيات فشل الاستفتاء على الاستقلال، وعدم قدرة الأحزاب الكردية على فرض نتائج الاستفتاء على الحكومة العراقية المركزية، ما أدى إلى إيجاد حالة من عدم الثقة لدى المواطنين الأكراد في ممثلي الأحزاب الكردية، فضلا عن سيطرة قوات الحكومة الاتحادية على نصف أراضي إقليم كردستان، و"المناطق المتنازع عليها"، بعد أن أعادت القوات الاتحادية الانتشار فيها نهاية العام ٢٠١٧.
العامل الثاني، يتعلق بعدم وجود قائمة كردية واحدة لخوض الانتخابات، والتي كان بموجبها سيتم حسم الخلافات بين الفصائل والقوى السياسية المختلفة داخل الإقليم. فقد شهد الحزبان الرئيسيان -الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، الذي يسيطر على أربيل ودهوك، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يسيطر على السليمانية- خلافات برزت منذ إجراء الاستفتاء، حيث اتهم بارزاني الحزب الأخير بالخيانة في قضية الانسحاب من كركوك.
وبالإشارة إلى ما سبق فإن الأكراد خاضوا الانتخابات دون تحالفات بينهما باستثناء حركة التغيير والجماعة الإسلامية وتجمع برهام صالح، لخوض الانتخابات في المناطق المتنازع عليها. أما في محافظات الإقليم فقد شارك كل حزب كردي بقائمة منفردة، كنتيجة لحالة الانقسامات الحادة بين الأحزاب الكردية، الأمر الذي فرض تداعيات على مستقبل تلك الأحزاب خارج الإقليم من جهة، وعلى علاقتها مع بغداد من جهة أخرى.
العامل الثالث، يتعلق بعدم تمكن المناطق التابعة للإقليم والتي تمت استعادتها من تنظيم الدولة "داعش" من إجراء الانتخابات. ويرجع السبب في ذلك إلى نزوح سكان هذه المناطق وبعدهم عنها، وعدم تحديث سجل الناخبين منذ 4 أعوام، حيث بلغ عدد النازحين 2.47 مليون مواطن في عموم محافظات العراق بحسب موقع المفوضية العليا للاجئين في يناير 2018؛ فقد بلغ عدد النازحين من دهوك 187068 مواطنا، وحوالي 43484 مواطنا من كركوك "المتنازع عليها"، وحوالي 19734 مواطنا من السليمانية، وحوالي 25530 مواطنا من أربيل.
وعلى العكس من هذه التوقعات، فقد سجل الناخبون الأكراد إقبالًا كبيرا على مراكز الاقتراع في المحافظات والمناطق المتنازع عليها. ففي كركوك، على سبيل المثال، بلغ عدد الناخبين الذين قاموا بالإدلاء بأصواتهم لصالح القوائم الكردية ما يزيد عن نصف عدد الناخبين، بشكل مكن الأحزاب الكردية من الحصول على نصف المقاعد البرلمانية بها. وتمكن الحزبان الكرديان الرئيسيان من تحقيق نتائج متقدمة في الانتخابات، الأمر الذي سوف يؤدي إلى تعزيز سيطرتهما على السلطة في الإقليم، كما سيعزز من قدرة الإقليم على التفاوض مع الحكومة العراقية. بالإضافة إلى زيادة الضغط الدولي خاصة الأمريكي للمطالبة بتوزيع السلطات الأمنية والإدارية في تلك المناطق بين الحكومة المركزية وبين حكومة الإقليم.
هذه النتائج توسس لفرصة كبيرة لقيام الأحزاب الكردية لدور مهم في تشكيل الحكومة العراقية القادمة. في هذا السياق، أجرت الأحزاب الكردية بالفعل مباحثات مع "سائرون" بزعامة الصدر، و"الفتح" بزعامة هادي العامري، ومع "النصر" بزعامة حيدر العبادي.
في هذا الإطار، يمكن أن نطرح عددا من الاحتمالات حول مستقبل الأحزاب الكردية في مرحلة ما بعد الانتخابات.
الاحتمال الأول، تشكيل تحالف بين الأطراف السياسية الكردية بعد الانتخابات، والاتفاق على تشكيل تحالف برلماني يكون بإمكانه المشاركة في الحكومة العراقية القادمة.
الاحتمال الثاني، نجاح إيران في استمالة الأكراد لتجميع كتلة برلمانية تستطيع تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، من خلال التحالف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى جانب "الفتح" برئاسة هادي العامري، و "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي. هذا الاحتمال يتوقف على حجم التوافق المحتمل بين ائتلافات النصر وسائرون والحكمة، عندئذ سيتجه الأكراد نحو من يستطيع تشكيل الحكومة.
وتستند إيران في ذلك على عرضها بإعادة النفوذ الكردي في كركوك إلى ما كان عليه قبل تنفيذ قرار إجراء استفتاء الاستقلال. وتشير تقارير إلى أن العامري عقد في منزله بالمنطقة الخضراء لقاء حضره المالكي، وشارك فيه الوفدان الكرديان، وإن المجتمعين أقروا امتلاكهم نحو 150 مقعدا في البرلمان العراقي الجديد، بعدما أعلن الوفدان الكرديان أنهما يفاوضان عن 60 نائبا كرديا، موزعين على قوائم كبيرة وصغيرة، ما يعني الحاجة إلى نحو 15 نائبا آخر لضمان أغلبية تمرير الحكومة.
هذا التحالف إذا ما تم وفقًا للرؤية الإيرانية فسوف يدعم مد النفوذ الإيراني في العراق، خاصة فصائل الحشد الشعبي، وهو ما يراه الأكراد في الوقت الحالي أساس معضلتهم.
الاحتمال الثالث، ويقوم على إمكانية إجراء تحالف بين "سائرون" و"تيار الحكمة" و"قائمة النصر" و"الوطنية"، و"القرار العراقي"، والذي يحتاج إلى المكون الكردي لتحقيق أغلبية النصف زائد واحد (166 مقعدًا) المطلوبة لتشكيل الحكومة، وهو إذا ما تم سوف يشكل بطبيعته تقليصًا للنفوذ الإيراني.
في النهاية يمكن القول إنه وبالرغم من أن المفاوضات مع التحالفات البرلمانية الأخرى لا تزال ضبابية إلى حد كبير لما تواجهه الأحزاب الكردية من تردد ومخاوف ناتجة عن أزمة الثقة التي تهيمن على الجميع جراء الممارسات السابقة، إلا أن الأكراد يمثلون رقمًا لا يمكن تهميشه أو استثناؤه من خارطة التحالفات البرلمانية بعد الانتخابات.