يمر المشهد السياسي في ليبيا بعدد من التحولات المهمة في الفترة الأخيرة. بعض هذه التحولات، وإن كانت تحولات طفيفة أو لا تزال بعيدة عن ترك آثار وعواقب محددة على المشهد الإجمالي، إلا أنها تحولات تلقي الضوء على عدد من النقاط المحورية في سياق الصراع الدائر، واحتمالات نجاح مسار التسوية السياسية. فهناك حالة واضحة من إعادة بناء التحالفات والتوافقات، داخليا، وإقليميًا، ودوليًا، على المستوى السياسي. كما أن هناك حالة من التغير في موازين القوى العسكرية بين الأطراف المتصارعة، وعلاقة هذه الأطراف بالكيانات السياسية. أو بمعنى آخر، وإجمالا يمكن القول إن هناك تحولا في العلاقات والتحالفات العسكرية- السياسية.
وفي ظل الضغوط والمحاولات الإقليمية والدولية لدفع عملية التسوية السياسية في ليبيا إلى الأمام، وكسر حالة الجمود السياسي وعدم التوافق التي تعاني منها الأطراف المتصارعة في ليبيا منذ فترة، وكان آخرها "اللجنة الرباعية" التي دعا لتشكيلها أمين عام جامعة الدول العربية، السفير أحمد أبو الغيط، والتي تضم كلا من جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وبعثة الأمم المتحدة في ليبيا برئاسة غسان سلامة، في ظل كل هذه الضغوط، ينبغي أن يتم الربط بين التحولات والتحالفات الإقليمية من ناحية، والتحولات والتحالفات الداخلية من ناحية أخرى. وهناك عدد من النقاط التي ينبغي أن يتم الربط بينها حتي نتمكن من تفهم مستقبل التسوية السياسية في ليبيا في ظل ما يحدث في الداخل الليبي وفي الإقليم من تحولات، وهو ما يقودنا في النهاية لطرح أسباب موضوعية للإجابة عن السؤال الخاص بإمكانية إجراء انتخابات في ليبيا خلال العام 2018.
1- خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي
مر الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر بمرحلة صعبة عندما انتشرت الشائعات حول مرض حفتر الشديد، بل وموته أيضا. وتسارعت وتيرة التحليلات التي تناولت الخلفاء المحتملين لحفتر، ثم عاد خليفة حفتر للظهور في المشهد بعد رحلة علاجية في فرنسا. لكن مرض خليفة حفتر، وانتشار الشائعات حول موته، وتزايد التوقعات حول خلافته، يطرح العديد من الأسئلة التي تتخطى عودة حفتر للمشهد السياسي الليبي.
خلافة خليفة حفتر باتت أحد أهم أبعاد الملف الليبي بعد الأيام التي غاب فيها عن المشهد، وانتشرت الشائعات حول وفاته أو عدم قدرته على التعافي أو القيام بدور فاعل بعد الوعكة الصحية التي تعرض لها. من ناحية، يتكون الجيش الوطني الليبي من عناصر متنوعة، مختلفة في توجهاتها الأيدولوجية وانتماءاتها القبلية والجغرافية. وكان الدور الأكبر لخليفة حفتر في الداخل الليبي منذ إطلاق عملية الكرامة في 2014 وحتى الآن، هو قدرته على التنسيق بين هذه العناصر وفرض نوع من التماسك داخل الجيش الوطني الليبي، وهو ما يصعب تحقيقه في سياق الصراع العسكري والانقسامات السياسية والقبلية والجغرافية. من ناحية أخرى، يمثل خليفة حفتر حليفا مشتركا لكل من مصر والإمارات العربية المتحدة، وهم من أهم القوى الفاعلة إقليميًا ودوليًا في الملف الليبي. وبالتالي، فإن غياب حفتر عن المشهد، وقضية خلافته تعد أحد أهم الأبعاد التي من الممكن أن تغير من معطيات الصراع في ليبيا.
ولكن الجدير بالذكر أن غياب خليفة حفتر عن المشهد خلال فترة وعكته الصحية لم يؤد لانقسامات داخل الجيش الوطني الليبي، فعلى الرغم من الشائعات التي تواترت عن خلافات بين القيادات المرشحة لخلافة حفتر، وتعرض رئيس الأركان عبد الرزاق الناظوري لمحاولة اغتيال، ونظر البعض إلى هذه المحاولة على أنها بداية لعمليات التصفية الداخلية بين المرشحين للقيادة خلفًا لحفتر، إلا أن ذلك لم ينعكس عمليًا على الجيش الوطني الليبي ككيان، ولم تعلن أية عناصر عن انشقاقها أو عن خروجها من إطار الجيش الوطني الليبي، وهو ما يعني أنه بات هناك نوع من "المؤسسية" في الإطار العام الحاكم للجيش الوطني الليبي، ما يجعله مستمرا في رعاية مصالحه بغض النظر عن شخص القائد. وخير دليل على ذلك هو الإصرار على المضي قدمًا في العملية العسكرية بدرنة بالرغم من غياب القائد الأعلى للجيش عن المشهد.
هذه "المؤسسية" من الممكن البناء عليها فيما يتعلق بمسألة خلافة خليفة حفتر، في حال موته، أو تعرضه لوعكة صحية أخرى، أو ترشحه لمنصب سياسي تاركًا قيادة الجيش. ومما لا شك فيه، ستحتاج القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الليبي، وتحديدا مصر والإمارات والجزائر وفرنسا وإيطاليا، أن تتوافق فيما بينها على شخص المرشح لخلافة خليفة حفتر. وهنا من الممكن أن يكون الحفاظ على التراتبية المؤسسية داخل الجيش الوطني الليبي أحد الأدوات التي تضمن عدم حدوت انشقاقات أو صراعات داخل هذا الكيان. ولذا، بات التساؤل حول خلافة حفتر أحد الملفات التي سوف تؤثر بشكل كبير على سياق الأزمة الليبية ككل كونه أحد الفاعلين المؤثرين. ويجب على صناع القرار في الدول المعنية بالشأن الليبي أن تبدأ تحركاتها في هذا الملف مبكرًا، حيث إن هذا من شأنه أن يسهل من عملية التوافق الدولي- الإقليمي حول الملف الليبي، وهو ما يرتبط ارتباطا مباشرا بملف التسوية السياسية في ليبيا.
2- الصراع العسكري
يشهد الصراع العسكري في سياق الأزمة الليبية عددا من التحولات هو الآخر. ويمكن تقسيم الصراع العسكري لثلاث مناطق جغرافية تشهد تحولات، وهي الشرق، والغرب، والجنوب. شرق ليبيا يشهد في المرحلة الحالية سيطرة شبه كاملة للجيش الوطني الليبي، وهو الكيان العسكري الأكثر تماسكًا وصلابة في سياق الصراع العسكري في ليبيا في الوقت الحالي. ويخوض الجيش الوطني الليبي حاليًا معركة في درنة ضد عدد من العناصر المتطرفة، وعلى رأسها "مجلس شورى مجاهدي درنة"، والذي أعلن عن حل نفسه وإطلاق اسم جديد على التنظيم وهو "قوة حماية درنة"، في محاولة لتشويه العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي وتصويرها على أنها محاولة لتدمير المدينة. لكن المعطيات على الأرض تشير إلى أن معركة درنة تحتاج للقليل من الوقت قبل أن يحسمها الجيش الوطني الليبي لصالحه، حيث إن القدرات العسكرية للطرفين لا يمكن المقارنة بينها. وفي حال حسم معركة درنة، سوف يكون للجيش الوطني الليبي سيطرة كاملة على شرق ليبيا، بالإضافة لعدد من التحالفات القبلية- العسكرية في الجنوب.
الغرب الليبي يشهد عددا من التحولات العسكرية تتمثل في انهيار تحالفات الميليشيات والكيانات التي شكلت القوة العسكرية للغرب الليبي، سواء تحت مسمى ميليشيات "فجر ليبيا" أو قوات "البنيان المرصوص". من ناحية، يحاول فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي أن يستميل عددًا من هذه الميليشيات لتكون بمثابة ذراع عسكري للمجلس ولحكومة الوفاق، من خلال الاعتراف بها وإضفاء شرعية عليها وإدراجها ضمن القوى العسكرية الرسمية التي تعترف بها الدولة وتصرف لها مستحقات مالية. ومن ناحية أخرى، تمر عدد من الميليشيات في الغرب الليبي بمرحلة من إعادة بناء التحالفات بين بعضها البعض، وهو ما قد ينتج عنه في المرحلة المقبلة ظهور كيان عسكري جديد على أسس قبلية، أو جغرافية، أو سياسية.
في الوقت ذاته، يشهد الجنوب الليبي، ومدينة سبها تحديدًا، مواجهات عسكرية بين قبائل التبو وقبائل أولاد سليمان. وهناك العديد من التقارير التي تشير إلى وجود عناصر أجنبية تقاتل مع قبائل التبو، خاصة من تشاد والنيجر والسودان. ويظل الداخل الليبي قابعًا في الجدل حول ماهية هذه المعارك، وهل هي حرب قبلية أم محاولة لبسط نفوذ القوى الشرعية في جنوب ليبيا. لكن المعطيات على الأرض تقول إن الجنوب الليبي هو المنطقة الأكثر هشاشة من الناحية الأمنية في ليبيا، وهي أيضًا المنطقة التي لا تشهد تواجدا لكيان عسكري قادر على السيطرة عليها أو على أغلبها على الأقل. هذا بالإضافة لوجود بُعد قبلي في الجنوب الليبي أكثر تأثيرًا على مجريات الأمور بالمقارنة للأبعاد القبلية في الشرق أو الغرب. أضف إلى ذلك وجود عدد كبير من شبكات التهريب التي تعمل في الهجرة غير الشرعية أو تهريب السلاح أو نقل الإرهابيين بين الحدود، وهي شبكات ذات نفوذ ومن مصلحتها ألا تكون هناك قوة عسكرية شرعية في جنوب ليبيا. لذا، بات الجنوب الليبي أحد أهم الملفات التي يتعين على القوى الإقليمية المعنية بليبيا دراستها. وتظل فرنسا حتى الآن هي الفاعل الأكثر تواجدا في جنوب ليبيا، بالنظر إلى المصالح الفرنسية في أفريقيا بشكل عام. لكن الصراع العسكري الحالي يحتاج لعملية من الضبط الإقليمي والتنسيق الدولي فيما يتعلق بالتواصل مع الأطراف الفاعلة في سياق الصراع.
3- التسوية السياسية والانتخابات
كما ذكرنا من قبل، هناك العديد من الضغوط الدولية التي تدفع في مسار التسوية السياسية في ليبيا، لكن الواقع يقول إن هناك مجازفة كبرى في محاولة فرض عملية سياسية على الأطراف المتصارعة في ليبيا في الوقت الحالي. الواقع السياسي والعسكري الراهن في ليبيا يشير لحالة من إعادة بناء التحالفات، ومن ثم حالة من غياب التوافق، وبالتالي، فإن فرض عملية سياسية في ظل هذه المعطيات سوف يؤدي لشرعية هشة من السهل الانقلاب عليها، خاصة في ظل سطوة كيانات عسكرية غير شرعية وغير نظامية على عدد من المناطق في ليبيا. لذا، من المهم أن تتوجه الضغوط الدولية في الفترة المقبلة تجاه محاولات صناعة التوافق الداخلي، والإصرار على إجراء استفتاء على الدستور قبل إقامة انتخابات نيابية أو رئاسية، لتفادي فرض عملية سياسية تؤدي لمزيد من الانقسام ولخلق كيانات جديدة تؤدي لمد الصراع.
على الجانب الآخر، من غير الممكن الفصل بين عملية التسوية السياسية من ناحية، والتوازنات الإقليمية والدولية بشأن ليبيا من ناحية أخرى، وذلك بالنظر إلى اعتماد كل الأطراف المتواجدة في الدخل الليبي على أطراف خارجية. ومن ثم، يتعين على جميع الأطراف المعنية بالأزمة الليبية العمل على خلق آليات تعمل على إرساء عملية من التسوية السياسية. وبالفعل توجد العديد من الآليات الإقليمية والدولية التي تسعى للعب دور فاعل، وكان آخرها ما طرحه أمين عام جامعة الدول العربية حول "اللجنة الرباعية"، لكن الواقع الميداني في ليبيا يقول إن هناك عددا من الدول الفاعلة هي الأكثر تواصلا مع أطراف الصراع في ليبيا، وأن المنظمات الدولية كالجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وهي العناصر التي دعاها الأمين العام لجامعة الدول العربية لتكون ضمن هذه اللجنة، لا يوجد لها نفوذ ميداني واضح. وبالتالي، تظل أغلب المحاولات الإقليمية أو الدولية بعيدة عن تحقيق تغير واضح في الداخل الليبي، باستثناء آلية دول الجوار، التي تمتلك بالفعل كما مؤثرا من التواصل الفعلي وليس الشكلي مع الأطراف الفاعلة في الصراع. إعادة إحياء دور آلية دول الجوار، وتواصل هذه الآلية مع كل من فرنسا وإيطاليا من الممكن أن يقود إلى نوع من حلحلة الوضع السياسي في ليبيا.
***
خلاصة القول، المشهد الليبي يمر بعدد من التحولات الراهنة، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو قبلي، ومنها ما هو جغرافي، ومنها ما هو عسكري، لكن القاسم المشترك بين كل هذه التحولات هو تأثيرها على عملية التسوية السياسية واحتمالات إقامة عملية سياسية مؤسسية ينتج عنها كيانات شرعية في ليبيا. وتشير مجمل التحولات الخاصة باللمف الليبي أن احتمالات التوصل لتوافق حول التسوية السياسية خلال عام 2018 باتت بعيدة عن التحقق، كما أن الخلاف حول إقامة الانتخابات أولًا أو الاستفتاء على الدستور أولًا بدأ يشكل صراعًا في الداخل الليبي حول التوافق على بنود التسوية. ومن ثم، نستنتج أن ليبيا في مرحلة من إعادة بناء التحالفات، وإعادة التفكير في عناصر التسوية السياسية والفاعلين فيها، وبالتالي، من غير المتوقع أن تشهد ليبيا انتخابات نيابية أو رئاسية خلال عام 2018، لكن هناك احتمالات قائمة أن تشهد ليبيا استفتاء على الدستور خلال 2018.