تثير مبادرة "العودة إلى الجذور" التي جرى إطلاقها من مكتبة الإسكندرية مؤخرا في حضور السيد رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي، والرئيس اليوناني، بروكوبيس بافلوبولوس، ورئيس جمهورية قبرص نيكوس أنستاسيادس، تساؤلات حول جذور الفكرة المتوسطية في مصر، والتي كانت محورا لنقاش مممتد في تاريخ الفكر المصري الحديث والمعاصر، منذ أن تم إدماج مصر في مشروع الحداثة على النمط الغربي مع الحملة الفرنسية على مصر وما خلفته من صدمات بشأن ما وصلت إليه النهضة الغربية، وهي الفكرة التي وضعها محمد علي باشا نصب عينيه وهو يبني دولته.
أولا: محمد علي (1805- 1848) ونهضة مصر... حداثة على النمط الأوروبي
ارتبطت تجربة التحديث في مصر خلال العصر الحديث بحكم محمد علي باشا (1805- 1848) الذي أراد أن يكون هذا التحديث على النمط الأوروبي. فقد سعى محمد علي في اتجاهين أساسيين: الأول، التعليم المدني النظامي، كمسار موازي للتعليم الديني المنتمي للثقافة الأصولية المحافظة ومصدرها الأزهر. الثاني، إرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا بغرض توفير كوادر إدارية لجهاز الدولة ذي الطابع العسكري، آنذاك، والمعتمد على الجيش بالأساس. وكانت إيطاليا هي الوجهة في البداية، ثم فرنسا التي حظيت بنصيب الأسد اعتبارا من العام 1818، إلى جانب تزويد الدولة والثقافة الوطنية بوسائل محددة للتواصل مع أووربا عبر جهاز فعال من المترجمين. لذلك، يوصف عصر محمد علي بأنه العصر المثالي للترجمة والتعريب من وجهة نظر ثقافية خالصة، خاصة أن السنوات الأخيرة من عصره شهدت نموا متواصلا في أعداد الرحالة والمستشرقين الذين زاروا مصر وتعمقوا في دراسة أحوالها.[1]
وكانت الفكرة الحاكمة لنهضة محمد علي هي استعادة ماضي مصر الحضاري كأمة كبيرة. وقد أفرزت تجربة البعثات جيلا من المبعوثين الذين أسهموا في وضع أسس محلية للنهضة. وفي سياق موضوعنا يعطي الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801- 1878) مثالا دالا على وعي العقل العربي/ الإسلامي بمأزقه الحضاري في تلك الفترة، وهو أمر يسهل إدراكه بالعودة لكتابه (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز) الذي يمكن النظر له من ناحية كنص فريد في أدب الرحلة، لكنه من جانب أعمق يبدو أقرب ما يكون لبرنامج عمل لمشروع متكامل للحداثة على النمط المصري، لكنه يربط هذا المشروع بالعلاقة مع الضفة الأخرى من المتوسط.
ولعل أهم ما يلفت النظر في بداية الكتاب أن الطهطاوي في بداية رحلته قدم وصفا لركوبه السفينة في البحر المتوسط، وعدد تسمياته لكنه تمسك بمسمى بحر الروم، ما يعني أنه استعاد الاسم الراسخ في عقله العربي المسلم كفضاء للمواجهة مع الغرب وليس للتواصل. وعلى الرغم من جذوره الأزهرية، كان لدى رفاعة ميلا واضحا إلى الإسهام الأوروربي الحديث وإلى العقلانية الشاملة ورفض شامل للاستبداد الشرقي.
وبسبب عمق تأثيره في النهضة المصرية، هناك من يرى أن رفاعة كان تمثيلا رمزيا في الواقع لانتقال مصر بأكملها من القرون الوسطى إلى الحياة العصرية.[2] وكان تأسيس مدرسة الألسن عام 1836 خطوة مهمة على هذا الطريق، حيث تأسست المدرسة في إطار نمو فرص التواصل والحوار بين جهاز الدولة الإداري، ممثلا في طلاب المدارس العليا، من ناحية، والخبراء الأوروبيين الذين جاءوا للعمل في مصر، من ناحية أخرى.
وكانت خطة الدولة هي توجيه الخريجين لترجمة كتب علمية تعين الدولة على إنجاز مهام التحديث. وكان الطب على رأس هذه الأولويات، ثم الهندسة، والتاريخ، وأخيرا الآداب. ومن الملاحظ أن حركة الترجمة لم تكن منظمة في البداية لكنها في عصر إسماعيل أصحبت أكثر تنظيما، واحتلت العلوم الاجتماعية والآداب فيها مكانة متقدمة انطلاقا من تصور سياسي عن النهضة يربطها بخبرات الأمم الأخرى.
وفي السياق ذاته، راهن رفاعة الطهطاوي، ومن جاءوا بعده، على ترجمة الأفكار التي تسهم في تطوير الثقافة الوطنية وتبرز سعيها التحرري لجعل مصر قطعة من أوروبا. كما كان يأمل الخديو إسماعيل باشا (1830- 1895) الراغب في التحرر من الارتباط بالدولة العثمانية. وحين تم افتتاح مشروع قناة السويس جرى النظر للقناة باعتبارها "رحم للحداثة" يساعد على ميلاد مصر الجديدة.
ويرى لويس عوض أن الدولة في عهد إسماعيل كانت منحازة لتجديد مصر على أسس المدنية العصرية. والمقصود هنا أن تكون الحضارة المصرية جزءا من حضارة البحر المتوسط. وكانت فلسفة المعاصرة عنده قائمة على نقل وجوه الحضارة المادية وقيمها الثقافية والفكرية أيضا.[3]
ثانيا: واقع ما بعد الاحتلال البريطاني لمصر 1882
بعد احتلال بريطانيا لمصر في العام 1882 اهتزت الثقة في الفكرة التي كانت ترى في الالتحاق بأوروبا مسارا للهروب من الدولة العثمانية. ودخلت مصر عصر "الحداثة الملغومة" لأن نخبتها المثقفة التي تعلمت في أوروبا تحملت، إلى جانب عبء مقاومة الأفكار المحافظة التي ناصبت الغرب العداء، مهمة أخرى، وفي الوقت ذاته، هي مقاومة المحتل الأوروبي. وعكست الصحف والمجلات المعبرة عن هذا التيار الكثير من همومه وتناقضاته، وكان من أبرزها الجريدة، السفور، والسياسة، والسياسة الأسبوعية.
وضاعفت الحرب العالمية الأولى من مشكلات هذا التيار لأنه كان مطالبا بتقديم تفسيرات مقبولة لهذا الوضع الذي وصلت إليه أوروبا التي كانت توصف بأنها (البلاد الحية في سلمها وحربها، المملوءة بالأمل في سرائها وضرائها). ومع ذلك، واصلت النخبة الليبرالية إعجابها بالنموذج الأوروبي العلماني، خاصة أفكار الإصلاح الديني، إلى جانب التأثر بأفكار الإصلاح السياسي في إيطاليا، خاصة أفكار جوزيبي مازيني ودعوته لاحترام حقوق المواطنين لضمان التزامه بأداء واجباته تجاه الدولة.[4]
وحين جاءت ثورة 1919 كان هدفها الرئيس مواجهة الاحتلال البريطاني والسعى لإخراجه بالمفاوضات. كما كانت بجناحيها، السياسي والفكري، تمثل المشروع التحرري للنخبة الليبرالية ورموزها سعد زغلول ولطفي السيد وطه حسين وحسين هيكل. وتبلور في إطارها الشعور بهوية قومية مصرية خالصة تخلصت تماما من روابطها مع الدولة العثمانية التي كانت على وشك الاختفاء من الوجود. وهنا بدأت مصر تعرف صراعات حول هويتها. وبدأ مشروع النخبة الليبرالية في البحث عن وجهة حضارية تغاير المسار الذي اختاره التيار المحافظ الذي تبنى الخط الأصولي وعبر عن نفسه في إطار إحياء مشروع الجامعة الإسلامية. ومن ثم، كانت أوروبا خيارا لليبراليين المصريين، وعلى رأسهم طه حسين (1889- 1973) الذي يمكن اعتباره أول المنظرين للفكرة المتوسطية في مصر من خلال كتابه: مستقبل الثقافة في مصر، الصادر في عام 1938، والذي يعالج قضيتين أساسيتين. أولاهما، الهوية والانتماء الحضاري. وثانيتهما، مشكلات التعليم والثقافة في مصر.
وقد كتب طه حسين بحسم في قضية الهوية والانتماء قائلا: "إن العقل المصري منذ عصوره الأولى إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر المتوسط"... ثم "إذا كان ولابد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري ونقره فيها، فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم". وينظر طه حسين للمتوسطية كوحدة حضارية متجانسة وليست وحدة سياسية، إذ يقول "فما بال هذا البحر ينشىء في الغرب عقلا ممتازا متفوقا ويترك الشرق بلا عقل أو ينشىء فيه عقلا منحطا ضعيفا". ويقرر "ليست بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم وتأثرت به فروق عقلية وثقافية وإنما هي ظروف السياسة والاقتصاد". وفي تناوله لفكرة التعليم، ركز طه حسين بوضوح على أهمية تعلم اللغات الأجنبية، واقترح إرجاء تعليمها إلى مرحلة ما بعد الابتدائية، على أن تُترك هذه المرحلة تامة للثقافة الوطنية وبعدها نبدأ تعليم اللغات الأجنبية، التي رأى ألا تكون مقصورة على الإنجليزية والفرنسية فقط. واقترح على الدولة إنشاء إدارة للترجمة لتنهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التي أصبحت تراثا للإنسانية كلها والتي لا يجوز للغة حية أن تخلو منها وذلك لإغناء اللغة نفسها ومنحها ما تحتاج إليه من مرونة ولإرضاء الكرامة القومية.[5]
ثالثا: المناخ العام الذي أنتج الفكرة المتوسطية في مصر
الأمر الذي لا يمكن إنكاره أن تبلور فكرة ربط مصر بالمتوسط هو أمر لا يمكن فصله عن السياق الذي أنتجه وصول الدوتشي موسوليني إلى الحكم في إيطاليا، وارتفاع نبرة الحديث عن إحياء الحضارة الرومانية. وقد تابعت الصحافة المصرية هذا الحديث وحاولت مواكبته بالحديث عن مجد مصر "الغابر". وبدأت نزعة فاشية في الظهور قادت لظهور جماعة "مصر الفتاة" بعد عام من ظهور جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، والتي كانت تربط مصر بهوية عربية إسلامية خالصة. وقد نتج عن ذلك انقسام يمكن رده لصراعات الهويات بين نزعة غربية واضحة، ونزعات إسلامية لم تكن خالية من طابع فاشي، وهو ما يفسر ردود الأفعال الرافضة أو المتحفظة على أفكار طه حسين، وكانت في أغلبها لممثلين عن التيارات الإسلامية (مثل سيد قطب)، أو القومية (مثل ساطع الحصري).
من ناحية أخرى، كانت قد ظهرت في فرنسا خلال الثلاثينيات أيضا حركة أدبية باسم "المتوسطية"، كانت تنظر لشمال أفريقيا كجزء من هذا الأفق. وكان طه حسين متابعا للنقاشات التي ارتبطت بظهورها. و يبدو أن طه حسين استغل عقد معاهدة1936 لإعادة الثقة في فكرة الأخذ عن الحضارة الغربية، لكن في صيغة "المتوسطية" كفضاء للندية والتوازن، وهي فكرة توفيقية أيضا مكملة لتراث الشيخ محمد عبده والتي حاولت إزالة التناقض بين الإسلام والمدنية الحديثة، وإقامة الجسور بينهما فيما أسماه علاقة الأخذ والعطاء عندما التقى العقلان الفرنسي والمصري.[6]
وفي مقالات تم جمعها مؤخرا بعنوان "من الشاطىء الآخر"، يصور طه حسين علاقة مصر بفرنسا كنموذج تطبيقي لعلاقة مصر بثقافة البحر المتوسط، ويراها حوارا متكاملا عريق الجذور بين مجموعة من الثقافات، خاصة بين ثقافتين رئيسيتين ممتازتين تمركزت إحداهما في مصر بينما تمركزت الأخرى في أوروبا.[7] وفي هذه النظرة تفادى طه حسين مشكلات الاختلاف الديني اتساقا مع نظرته العامة للعالم الحديث الذي حقق شبه الانفصال بين الدين والحضارة بحيث أصبح لكل منهما مجاله الخاص. غير أنه انطلق أيضا من تصور عن "المركزية الأوروبية"، ومن منظور متحيز جعل البعض يتهمه بأنه "عمود التغريب في الثقافة العربية"، وهو زعم غير صحيح.
في سياق مواز، جاءت روايات توفيق الحكيم ويحيي حقي، وكتابات قاسم أمين ومحمد حسين هيكل لتعكس حيرة بعض المثقفين المصريين تجاه أوروبا وحضارتها، وانتهت إلى صيغة توفيقية وصل بها توفيق الحكيم إلى تصور ثقافة ثالثة تجمع بين مادية الغرب وروحانية الشرق، أو كما قال "ثقافة حية وجميلة سوف تصدر عندما يستخرج الشرق مفاهيمه الفكرية وحكمته المتراكمة وذلك بعد صبغها بصبغة أوروبية".
وفي مقابل هذا النموذج، ظهرت أصوات كان رهانها الانبهار بالغرب والدفع في اتجاه تبني كامل قيمه العلمانية بلا تحفظ أو انتقاء. ومن هؤلاء سلامة موسى (1887- 1958). الذي لم ير حضارة غير حضارة الغرب، أما الشرق فيراه "مفلسا"، منتهيا إلى رفض الغرب الاستعماري، لكن في الوقت ذاته اعتبره ذروة الحضارة المعاصرة كنتاج لمساهمات العقل الإنساني. وبهذا المعنى، لا يصبح التوجه للغرب نوعا من التبعية بل هو خطوة في التطور كما كان يعتقد. في حين رأى حسين فوزي (1900- 1988) أن الحضارة كل لا يتجزأ، وبشكل لا نستطيع أن نأخذ جانبها المادي فقط ونتجاهل عناصرها الثقافية[8]. وهو في هذا التصور يقارب إلى حد كبير ما انتهى إليه مفكر آخر هو صبحي وحيدة في كتابه "في أصول المسألة المصرية1950 "، من "أن الحضارة ليست بالشيء الذي ينتقيه المرء كما يشاء وإنما في الثمرة المحتومة للأوضاع الاجتماعية التي تتخذها الشعوب. وهذه الأوضاع تسير الآن نحو الوحدة"[9]. وينتهي وحيدة الذي درس في إيطاليا إلى القول بأن الاختلاف بين شعوب المتوسط لم يصب الخطوط الكبرى التي جرت عليها النظم العامة لدى هذه الشعوب من قريب وأن الذين جهدوا في الرجوع بظروف مصر الحاضرة إلى أن تغاير هذه النظم مخطئون. وطالب وحيدة بوضوح ألا تتستر مصر على أسباب ضعفها على نحو يعطل سعيها لحداثتها[10]... إنها مطالبة بتعويض فقر الدم الذي عاشته مصر خلال العصر العثماني وأبقاها في التبعية للغرب.[11]
رابعا: مرحلة ما بعد الاستقلال
مع خروج الاحتلال البريطاني من مصر بعد 23 يوليو 1952، أصبحت العلاقة مع الغرب علاقة مواجهة، خاصة أن بلد مثل إيطاليا ظهرت كحاضنة للملك فاروق رمز العهد البائد. وتوترت العلاقة أكثر في ظل المواجهات التي خاضها جمال عبد الناصر في حرب السويس 1956. وأمام فكرة المواجهة تراجعت الأصوات الداعية للحوار، وأُعيد النظر للبحر المتوسط كفضاء للخطر على النظام السياسي الوليد. وهي فكرة كانت قد وجدت من يعبر عنها خلال فترة الحرب العالمية الثانية أيضا.
لكن الملفت للنظر بعد يوليو 1952 أن السؤال حول المجال الحيوي لمصر فرض نفسه في ظل الخيارات التي تبناها النظام السياسي الجديد، الذي تبنى نظرية عدم الانحياز وما أسماه ناصر بالدوائر الثلاث التي تحكم مسار السياسة الخارجية المصرية. في حين بدأ المفكرون أبناء العلوم الإنسانية، خاصة التاريخ والجغرافيا، تعميق فكرة البحث عن مسار؛ فصاغ الجغرافي د. سليمان حزين أفكاره حول الدور الثقافي المصري في حوض المتوسط مدللا على ذلك بتنامي عبادة إيزيس، معتبرا أنها أسهمت على نحو ما في التأصيل للمسيحية في مصر وتحول الثالوث المصري القديم لعقيدة "التثليث" في المسيحية ثم ميلاد نظام الرهبنة في مصر.[12]
وفي سلسلة مقالات نشرها على نحو متأخر لويس عوض، طور من الفكرة وتناول ما أسماه "حوض الحضارات"، أكد خلالها أن فكرة "الأم العذراء" أو الإله المعذب هي فكرة شائعة في الأديان التوحيدية، ما يعني أن كافة أديان حوض المتوسط تتقاسم بناء ميتافزيقي واحد عن فكرة الخلاص. كما أن ثقافة المتوسط تجسد سعي الإنسان الدائم للبحث عن غاية كلية. وأوضح عوض أن النظر للدين داخل هذه المنطقة جاء لأن الدين من أهم مكونات الثقافة.[13]
ثم جاءت كتابات المؤرخ حسين مؤنس (1911- 1996) كأول تأصيل لفكرة المتوسطية من وجهة نظر تاريخية في كتابه: "مصر ورسالتها". ومصدر أهمية هذه الرؤية أنها جاءت أولا في سياق مغاير لتوجهات النظام السياسي الذي انخرط عمليا في أفكار كتاب فلسفة الثورة لجمال عبد الناصر عن الدوائر الثلاثة التي تبناها (الدائرة العربية، ثم الأفريقية، ثم الإسلامية). ويلاحظ أن كتاب مؤنس نُشر لأول مرة في عام 1956، أي في قلب المواجهة مع الغرب، وجاء على خلفية تخصصه في تاريخ الأندلس التي اعتبرها دائما رمزا للتسامح والتنوع الخلاق. وتحت عنوان "مصر والبحر المتوسط"، كتب مؤنس داعيا لاستمرار العلاقة مع الغرب المتوسطي ولكن استنادا على علاقة ندية بعد أن استقلت دول الشرق.[14] لكنه اعتبر تقسيم شرق وغرب تقسيما ناتجا عن الصراع السياسي وبالتالي فقد رفض الشرقية كسياسة وكتوجه عام. إذ يقول على نحو قاطع "لنا في هذا البحر رسالة هي التي يكتمل بها وجودنا ويستقيم كياننا وميزان حياتنا"، منتهيا إلى القول بأن انتماء المصريين إلى الإنسانية جمعاء، وحضارتنا هي الحضارة الراهنة التي تسمى غربية لأنها تضم خلاصة تجارب الأمم كلها بما فيها أمم الشرق.[15]
والفكرة الأهم لدى مؤنس، من وجهة نظري، أنه اعتبر الرافضين للتوجه نحو الغرب هم جماعة من "السلفيين" الذين أحسوا في أنفسهم العجز عن مواجهة الحاضر فهرولوا إلى الماضي ليدفنوا رؤوسهم في الرمال.[16] كما رأى أن انخراط مصر في فضاء المتوسط هو جزء من أمنها القومي في ظل وجود إسرائيل، وبالتالي أضفى بعدا سياسيا لم يكن موجودا في الماضي فرضته ظروف ما بعد هزيمة العرب في فلسطين في عام 1948، لذلك اعتبر مؤننس أننا لا نستطيع التخلي عن "المتوسط" إلا إذا أردنا التخلي عن كياننا كله.
في هذا السياق، تلفت النظر أيضا سلسلة المحاضرات التي ألقاها المؤرخ البارز شفيق غربال تحت عنوان "تكوين مصر"، ونشرها في العام 1957 ينتهي فيها إلى القول بأن الأثر الذي تركه الغرب في مصر حضاريا قد يبقي طويلا وأن لمصر مجالا حيويا يمتد إلى ما وراء حدودها.[17]
ومن الملفت للنظر كذلك أن مفكر جغرافي بارز مثل جمال حمدان يرى أن البعد المتوسطي هو بعد حضاري، أكثر منه بعدا طبيعيا، وبعدا اقتصاديا أكثر منه بعدا بشريا، لكنه على خطورته بعد تكميلي. ويلخص محمد عفيفي إلى اعتبار هذا التصور تعبير مخلص عن توجهات مفكري ما بعد يوليو 1952، وهي نتاج ظروف المواجهة وتعبيرا عن جيل جديد له أفكار تغاير أفكار جيل النهضة.[18]
ولا تزال دوافع الأفكار التي تقود إلى المواجهة مستمرة لأن الصراعات في ربع القرن الأخير، وظهور النزعات الجهادية جددت من ثنائية الشرق في مواجهة الغرب، وبالتالي عطلت فرص الحوار لكنها جعلته ضروريا بنفس القدر.
[1] أنور عبد الملك، نهضة مصر: تكون الفكر والأيديولوجية في نهضة مصر الوطنية، ترجمة حمادة إبراهيم (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983)، ص 336.
[2] أنور عبد الملك، نهضة مصر (القاهرة: هيئة الكتاب، ط 1983) ص 348.
[3] لويس عوض، دراسات في الحضارة (القاهرة: دار االمستقبل العربي، الطبعة الأولى، 1989)، ص 131.
[4] محمد عفيفي، دراسات في تاريخ الفكر المصري (القاهرة: دار الثقافة العربية، 2002)، ص 59.
[5] طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر (القاهرة: هيئة الكتاب، طبعة 2013)، ص 369 .
[6] أحمد زكريا الشلق، مقدمة كتاب مستقبل الثقافة في مصر، هيئة الكتاب 2013 ، ص 28 .
[7] طه حسين، من الشاطىء الآخر، ترجمة عبد الرشيد المحمودي، القاهرة، كتاب الهلال، يوليو 1997، ص 25.
[8] السيد أمين شلبي، الغرب في كتابات المفكرين المصريين، طبعة مكتبة الأسرة، 2003، ص 19
[9] صبحي وحيدة، في أصول المسألة المصرية، طبعة مكتبة الأسرة، 2015، ص 282.
[10] المرجع السابق. ص 284.
[11] راجع مقدمة أنور عبد الملك في كتاب صبحي وحيدة، المرجع السابق.
[12] محمد عفيفي، المرجع السابق، ص 62.
[13] لويس عوض، دراسات في الحضارة (القاهرة: دار المستقبل العربي، طبعة 1989 )، ص 52.
[14] حسين مؤنس، مصر ورسالتها (القاهرة: دار الكتب والوثايق القومية، سلسلة الثورة والحرية، 2011)، ص 49 وما بعدها.
[15] المرجع السابق، ص 65.
[16] حسين مؤنس، مرجع سبق ذكره، ص 70.
[17] شفيق غربال، تكوين مصر (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، سلسلة الثورة والحرية، 2011)، ص 92.
[18] محمد عفيفي، مرجع سبق ذكره، ص 48.