د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

انتهت المهلة التي حددها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أجل إجراء تعديلات في الاتفاق النووي بإعلانه في 8 مايو 2018 الانسحاب منه وإعادة العمل بأعلى مستوى من العقوبات التي كانت مفروضة على إيران. ورغم أن ترامب حرص قبل إعلان القرار على إبداء الأسباب التي دفعته إلى ذلك، إلا أنه يمكن القول إن ثمة اعتبارات أخرى دفعت بدورها إلى الوصول لهذه المرحلة من التوتر التي قد تعصف بالاتفاق النووي برمته في حالة ما إذا قررت إيران اتخاذ الخطوة نفسها لاحقًا والعودة إلى تنشيط برنامجها النووي من جديد، وهو احتمال لا يمكن استبعاده في المرحلة الحالية.  

واللافت في هذا السياق، أنه بانتهاء المهلة الأمريكية بدأت مهلة جديدة حددتها إيران هذه المرة قبل أن تعلن قرارها النهائي بخصوص الاتفاق، حيث سعت من خلالها إلى كسب مزيد من الوقت لاستشراف مدى قدرتها على مواصلة العمل بالاتفاق مع الدول الأوروبية وروسيا والصين والحصول على عوائد اقتصادية كبيرة منه، وهو احتمال يواجه صعوبات عديدة في ظل العقوبات الجديدة التي ستفرضها واشنطن والتي قد تضع حدودًا منخفضة جدا للاستثمارات الأجنبية في إيران.

وفي كل الأحوال، يمكن تناول الأسباب التي أدت إلى الوصول لهذه المرحلة الحرجة التي يمكن أن تعيد الأزمة النووية الإيرانية إلى مربعها الأول من جديد، وذلك على النحو التالي.

1- إشكاليات الاتفاق الحالي

لم يعالج الاتفاق الحالي العديد من القضايا التي باتت محل خلاف واسع بين إيران والقوى الإقليمية والدولية المعنية بطموحاتها النووية وحضورها الإقليمي في المنطقة. صحيح أن الاتفاق كان يركز على الجوانب الفنية من البرنامج النووي الإيراني، إلا أن الأطراف التي توصلت إليه تجاهلت في النهاية ما يمكن تسميته بـ"مكامن الخلل" التي تضمنها، ولا تقتصر فقط على تلك الجوانب وإنما تمتد أيضا إلى القضايا الأخرى غير النووية، على غرار القضايا الإقليمية، باعتبار أنه تم التوصل في الأساس للاتفاق من أجل تجنب نشوب حرب جديدة في المنطقة ستؤثر سلبيا على مجمل تلك القضايا.

وبمعنى أدق، فإن الأهداف والتصورات التي تبنتها الأطراف التي توصلت للاتفاق الحالي دفعتها إلى تجاهل الوصول إلى توافقات حول بعض القضايا الخلافية، التي سرعان ما ظهرت من جديد عقب وصول الإدارة الأمريكية الجديدة إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2017.

وتتمثل أبرز تلك القضايا في برنامج الصواريخ الباليستية، الذي يرتبط بالبرنامج النووي باعتبار أن تلك الصواريخ تمثل وسيلة النقل الأساسية التي يمكن أن تستعين بها إيران في حالة ما إذا نجحت في امتلاك القنبلة النووية وسعت إلى استخدامها ضد خصومها، ولا ينفصل في الوقت نفسه عن الدور الإقليمي، بعد أن تحولت تلك الصواريخ إلى آلية لتهديد أمن واستقرار دول الجوار، على غرار السعودية التي تعرضت لهجمات صاروخية شنها الحوثيون بمساعدة مباشرة من جانب إيران.

2- إرث أوباما

كان واضحا منذ تولي ترامب مهام منصبه في البيت الأبيض أنه يسعى إلى تبني سياسة مغايرة بشكل كبير لتلك التي اتبعها الرئيس السابق باراك أوباما على المستويين الداخلي والخارجي. وكان الاتفاق النووي مع إيران من أبرز الملفات التي ركز ترامب على توجيه انتقادات قوية للإدارة السابقة بسببها، بعد أن وصفه بـ"الاتفاق الأسوأ في التاريخ".

ومن هنا، كان واضحا من البداية أن الرئيس ترامب لن يوافق على مواصلة الالتزام بهذا الاتفاق إلا في حالة إجراء تعديلات تستوعب التحفظات التي يبديها عليه، خاصة ما يتعلق بالصواريخ الباليستية والأدوار التي تقوم بها إيران في المنطقة، وهى تعديلات لم يكن متوقعا أن توافق إيران عليها بسبب إصرارها على عدم تقديم تنازلات للولايات المتحدة والدول الأوروبية في هذا الصدد.

وكان لافتا في هذا الإطار الانتقادات القوية التي وجهها الرئيس ترامب إلى وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري قبل إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي بيوم واحد، حيث وصف كيري بأنه "المسئول عن الفوضى الحالية"، بعد أن اتبع -وفقا لترامب- "دبلوماسية الظل" خلال المفاوضات التي أجريت مع إيران من أجل الوصول للاتفاق النووي.

3- سياسات إيران

رغم أن إيران التزمت، حسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ببنود الاتفاق، ربما باستثناءات بسيطة لا تمثل خللًا كبيرًا، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن الأدوار التي قامت بها في المنطقة، منحت الفرصة للأطراف المناوئة للاتفاق من أجل تأكيد أنه لم يؤد إلى دعم فرص إحلال الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. واستخدمت هذه الأطراف ما يسمى بـ"روح الاتفاق" التي اتهمت إيران بانتهاكها، باعتبار أن الاتفاق لم يكن -في رؤيتها- إطارا دوليا لتسوية الأزمة النووية الإيرانية التي تجاوزت عقدا من الزمن فحسب، وإنما كان آلية كان من الممكن استخدامها في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط.

ويمكن القول في هذا السياق، إن إيران اعتبرت أن نجاحها في الوصول إلى هذا الاتفاق، والمكاسب التكنولوجية والاستراتيجية التي حققتها من خلاله، فضلا عن تحسن علاقاتها مع الدول الغربية، كل ذلك يمنحها اعترافا دوليا بدورها كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها في عملية إعادة صياغة الترتيبات الاستراتيجية في المنطقة، مستغلة في هذا السياق السياسة التي كانت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة باراك أوباما تحاول تطبيقها وتقوم على تهيئة المجال أمام انخراط القوى الإقليمية المتنافسة في المنطقة، في إشارة إلى المملكة العربية السعودية وإيران في حوارات مباشرة لتقليص مساحة الخلافات العالقة فيما بينها وتعزيز احتمالات الوصول إلى تسويات للأزمات الإقليمية التي تنخرط فيها.

في هذا الإطار، تفاقمت التدخلات الإيرانية في الأزمات الإقليمية المختلفة عقب الوصول للاتفاق، بداية من العراق مرورا بسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية وانتهاء باليمن، وبدا ذلك جليا في التصريحات المتكررة التي أدلى بها بعض المسئولين الإيرانيين وجددوا فيها الحديث عن الحضور "الإمبراطوري" التوسعي لإيران في المنطقة.

كما انعكس في تصاعد حدة التهديدات الإيرانية لدول الجوار، على غرار السعودية التي تتعرض لهجمات صاروخية حوثية أثبتت تقارير دولية عديدة أنها إيرانية الصنع، والبحرين والكويت التي فككت خلايا إرهابية عديدة على علاقة وثيقة بـ"فيلق القدس" التابع للحرس الثوري والمسئول عن العمليات الإيرانية في الخارج.  

4- دور إسرائيل

سعت تل أبيب إلى إقناع الإدارة الأمريكية بضرورة اتخاذ إجراءات من شأنها التأثير على استمرار العمل بالاتفاق النووي الحالي، واستغلت في هذا السياق علاقاتها الوثيقة مع كثير من أركان الإدارة الأمريكية، فضلا عن نفوذها الواضح داخل دوائر صنع القرار ومراكز الأبحاث وجماعات الضغط داخل الولايات المتحدة الأمريكية.  

وقد توافقت رؤى تل أبيب وواشنطن حول اعتبار أن هذا الاتفاق لا يمنع حصول إيران على القدرات اللازمة لإنتاج القنبلة النووية، خاصة أنه ينص على رفع بعض القيود المفروضة على إيران في غضون عشرة أعوام، في إطار ما يسمى "بند الغروب" أو Sunset clause.

واستغلت إسرائيل حصولها على نسخة من ما يسمى بـ"الأرشيف النووي الإيراني" لإعادة توجيه انتباه المجتمع الدولي لمخاطر التعويل على أهمية استمرار العمل بالاتفاق النووي، رغم أن معظم الاتهامات التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إيران لم تكن جديدة، باعتبار أن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية سبق أن أكدت أن إيران ربما كان لديها جانب عسكري خفي في برنامجها النووي قبل عام 2003.

5- ارتدادات الأزمات الأخرى

لا يمكن فصل ما آل إليه الاتفاق النووي عن التحولات الملحوظة التي طرأت على ملف الأزمة الكورية الشمالية. إذ يبدو أن الإدارة الأمريكية قرأت التغيرات الملحوظة في سياسة بيونج يانج وبدت جلية في اللقاء الذي عقد بين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون ورئيس كوريا الجنوبية مون جاي، في 27 إبريل 2018، والذي سيتبعه لقاء آخر بين أون والرئيس ترامب سوف يتحدد موعده ومكانه لاحقا، على أنها تمثل مؤشرا لنجاح السياسة التي تتبناها تجاه كل من إيران وكوريا الشمالية تحديدا، واللتين خصهما الرئيس ترامب بقدر كبير من الانتقادات خلال المرحلة الماضية.

من هنا، فإن الرئيس ترامب بات يرى أن استمرار الضغط على إيران ودفعها دائما إلى اتخاذ وضع دفاعي هو الآلية التي يمكن من خلالها تقليص التهديدات التي تفرضها طموحاتها النووية وتدخلاتها الإقليمية. وبمعنى آخر، فإن ما حدث من تحولات على صعيد الأزمة مع كوريا الشمالية قد يغري الرئيس ترامب باتباع النهج ذاته مع إيران، بشكل قد يفسر أسباب حرصه في خطابه الذي أعلن فيه الانسحاب من الاتفاق على تأكيد أن إيران سوف تُرغم على إجراء مفاوضات حول اتفاق جديد معها عندما تكون مستعدة.

والمفارقة هنا تكمن في أن التحولات الملحوظة في الملف الكوري الشمالية قد لا تؤدي إلى تسويته في النهاية، في ظل عدم وجود ما يضمن أن تستمر تلك التحولات حتى النهاية، لكنها في كل الأحوال عززت من قناعة ترامب بأن هناك آليات أخرى يمكن استخدامها في التعامل مع ما يسميه بـ"الدول المارقة" وفي مقدمتها إيران.

هذه المتغيرات تشير في النهاية إلى أن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي لا يمثل النهاية وإنما البداية لأزمة جديدة سوف تفرض تداعيات مباشرة على الملفات الإقليمية المفتوحة في المنطقة، التي يبدو أنها مقبلة على تحولات استراتيجية لا تبدو هينة خلال المرحلة القادمة.