بعد فترة طويلة ومعقدة من النقاش السياسي بين كافة الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية، أصدر مجلس النواب المنتهي ولايته في يونيو 2017 قانون انتخابات مجلس النواب اللبناني. وحدد القانون الجديد –الذي يتألف من 125 مادة- نظام الاقتراع، وعدد النواب والدوائر الانتخابية، حيث بات يضم المجلس، بموجب القانون الجديد، 128 عضوًا، تكون مدة ولايتهم أربع سنوات، ويتم انتخابهم على أساس النظام النسبي، ويكون الاقتراع عامًا وسريًا وفي دورة واحدة.
وقد أحدث إصدار القانون حالة من الجدل السياسي والمجتمعي لما تضمنه من مواد تفقد القانون جوهره، تمثلت بالأساس في اعتماد "النظام النسبي"، الذي أقر ما عرف بالصوت "التفضيلي"، وهو ما يعني تكريس نظام الأكثرية والطائفية ولكن في صورة نظام نسبي. من ناحية أخرى، فرض القانون تغييرًا تكتيكيا في مشهد التحالفات السياسية التقليدية في لبنان والذي هيمن عليه خلال السنوات الماضية، ومنذ اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، تحالفا 14 آذار، و 8 آذار. وذلك، بجانب ما فرضته مجموعة المتغیرات الجدیدة التي طفت على واجهة المشهد السیاسي اللبناني خلال الفترة الأخيرة، خاصة عقب أزمة احتجاز سعد الحريري في السعودية في شهر نوفمبر 2017. هذا المشهد المعقد والمتشابك ما بين الداخل والخارج اللبناني تنامى مع إقرار قانون الانتخابات الأخيرة، وهو ما سيفرض نفسه على توجهات وأجندة مجلس النواب الجديد خلال السنوات القادمة.
هذا المشهد المعقد يدفعنا لتحليل قانون الانتخابات، وتقسيم اللوائح، والتي رسمت مشهدا للتحالفات السياسية والانتخابية الجديدة والتي يمكن اعتبارها صورة مصغرة مما سيكون عليه تركيبة مجلس النواب الجديد.
يشكل قانون انتخابات مجلس النواب اللبناني الجديد نقطة فارقة في تاريخ العملية الانتخابية اللبنانية منذ الاستقلال، حيث يساعد القانون الجديد علي إحداث حالة من التوازن السياسي والمجتمعي نتيجة إمكانية تمثيل أغلب القوى السياسية في الانتخابات، بالنظر إلى اعتماد القانون الجديد على احتساب جميع الأصوات، وتمثيل كل لائحة وفريق انتخابي طبقا لعدد الأصوات الحاصل عليها بغض النظر عن اعتماد نسبة (50%+1) المعتمدة في نظام الأكثرية أو ما يطلق علية النظام الفردي في الانتخابات.
لكن تأتي الإشكالية الأهم والأصعب والتي تواجه القانون الجديد واحتساب الصوت التفضيلي بالنسبة للمرشح نتيجة إقرار القانون نظام جديد لتقسيم الدوائر الانتخابية، حيث يقسم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية، وداخل كل دائرة مجموعة من الدوائر الفرعية تسمى "القضاء". وعلى سبيل المثال، تتشكل الدائرة الجنوبية الثالثة من الدوائر الفرعية: "بنت جبيل"، و"النبطية"، و"مرجعيون"، و"حاصبيا". وتتألف تلك الدائرة من 11 مقعدا نيابيا، يتم توزيعها طبقا لحصص كل طائفة طبقا لاتفاق الطائف. ويصل عدد الناخبين في هذه الدائرة إلى ما يقرب من 450694 ناخبا، ويشكل "الحاصل الانتخابي" المبدئي لمنافسة القوائم واللوائح ما يقرب 19318 صوت أو ما يطلق عليه "العتبة الانتخابية" طبقا للمصطلحات الانتخابية المصرية. ولكن التساؤل الرئيسي هو: كيف يتم احتساب الصوت التفضيلي؟ وكيف تفوز اللائحة الانتخابية؟
حتي يتم الإجابة على هذين السؤالين، لابد من التطبيق على نموذج محدد من خمسة عشر دائرة انتخابية في لبنان. ويمكن اختيار نموذج من بين ست دوائر انتخابية هي الأكبر من حيث عدد المقترعين وهي دوائر: "بعلبك-الهرمل"، "عكار"، "طرابلس"، "بيروت الثانية"، "الجنوبية الثالثة"، "الشوف/عاليه". ومع أخذ نموذج دائرة "الشوف/ عاليه" للقياس عليها نجد الآتي:
تُعتبر دائرة "الشوف/ عاليه" من الدوائر عالية الكثافة الانتخابية من ناحية عدد المصوتين، حيث يصل من لهم حق التصويت إلى ما يقرب من 325364 ناخبا، وبافتراض أن من سيذهب منهم للاقتراع 150 ألف ناخب، وبناء علي ذلك يصبح الحاصل الانتخابي بالدائرة 12469، وإذا افترضنا أن عدد اللوائح المرشحة في قضاء (الشوف/ عاليه) هو ست لوائح مثلا، وإذا افترضنا أن اللائحة الأولى حصلت على 100 ألف صوت، وحصلت اللائحة الثانية على 18 ألف صوت، وحصلت اللائحة الثالثة على 13 ألف صوت، وحصلت اللائحة الرابعة على 9 آلاف صوت، وحصلت اللائحة الخامسة على 6 آلاف صوت، وحصلت اللائحة السادسة على 4 آلاف صوت. وبمقارنة الأصوات التي حصلت عليها كل لائحة انتخابية بالحاصل الانتخابي أو "العتبة الانتخابية" (12469 صوتا بالنسبة لهذه الدائرة) نجد أن اللوائح الرابعة والخامسة والسادسة حصلت على أقل من "الحاصل الانتخابي، ما يجعلها خارج المنافسة الانتخابية، ثم يتم إعادة جمع الأصوات وبناء على عدد المصوتين لكل لائحة من اللوائح الثلاثة الفائزة يتم احتساب عدد المقاعد الفائزة في كل لائحة.
وهنا يأتي العامل الأصعب والمكمل لعملية احتساب الأصوات وعدد المقاعد الفائزة في كل لائحة وهو طريقة احتساب الصوت التفضيلي.
الصوت التفضيلي يعني أنه يحق لكل ناخب إعطاء صوته للائحة ككل بجانب اختيار مرشح واحد تفضيلي من اللائحة، شرط أن ينتمي هذا المرشح لنفس قضاء الناخب. ولا يُحتسب الصوت التفضيلي إذا قام الناخب بإعطاء صوته للائحة (X) وأعطى صوته التفضيلي للائحة أخرى (Y)أو أعطى صوته التفضيلي لأكثر من مرشح. وعلى سبيل المثال، إذا كان هناك مقعدان للطائفة الشيعية في دائرة "بيروت الثانية"، فإنه إذا حصل المرشحون الشيعيون الأول في اللائحة (X)،والثاني في اللائحة (Y) علىأعلى الأصوات التفضيلية في الدائرة فإنهما يعتبران فائزان، وهو الأمر ذاته بالقياس على اللائحة الواحدة، إذا حصل المرشحون من اللائحة (X)على أعلى الأصوات التفضيلية سيكون المرشحين الفائزون الشيعيون من اللائحة (X). بمعنى أدق يفوز المرشحون الحاصلون على أعلى أصوات تفضيلية، بالمقاعد المخصصة لطائفتهم، سواء كانوا من لائحة واحدة أو من لائحتين مختلفتين.
في المجمل، يمكن القول إن قانون انتخاب مجلس النواب الجديد سيكون له تأثيره الكبير على المشهد السياسي اللبناني، وسيكون له تأثيره على التحالفات السياسية التقليدية بالداخل اللبناني، وسيمتد تأثير هذا القانون على مجمل قواعد اللعبة السياسية من تحالفات إقليمية، وهو ما سيظهر بشكل مباشر على الأجندة السياسية الخارجية للبنان فيما بعد انتخابات وتشكيل المجلس.