يظل استخدام السلاح الكيماوي في الحرب السورية الجارية أمرًا جدليًا بامتياز؛ فآلة هذه الحرب التي لا تتوقف عن حصد أرواح مئات الآلاف من الضحايا منذ سبع سنوات لم تكن بحاجة إلى استخدام مثل هذا السلاح، لكي يقتل خنقًا بلا دماء مئات الضحايا الإضافيين.
سوابق كيماوية عديدة
استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي رُصد عدة مرات في مناطق متفرقة من سوريا، لكن الهجوم الأكبر كان في ريف دمشق في أغسطس 2013، بالنظر إلى حجم الضحايا الذي نتج عن هذا الهجوم، والذي قُدر بحوالي 1500 مواطنا في بضع ساعات. وهو ما استدعى إدارة أوباما آنذاك للتهديد بالتدخل العسكري بشكل جدي لأول مرة منذ اندلاع الصراع السوري. والتهديد هنا كان يتعلق بشكل أساسي بتخطي نظام الأسد للخط الأحمر الذي سبق أن رسمته الإدارة الأمريكية بحظر استخدام السلاح الكيماوي في الحرب الدائرة في سوريا والتي يتم فيها استخدام كافة أنواع الأسلحة الأخرى. وفي مقابل التهديد الأمريكي، كان التدخل الروسي على خط هذه الأزمة بمثابة إنقاذ للأسد من العقاب العسكري الأمريكي المتوقع آنذاك، حيث عُقدت صفقة أمريكية روسية تقرر بموجبها أن تنضم سوريا إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية وتفصح عن ترسانتها الكيماوية، فيما يتولى فريق من منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية العمل على مصادرة هذه الترسانة ونقلها من أجل تدميرها بشكل آمن.
وفي حين ظن المراقبون أن موسكو قد أنقذت الأسد بهذه الصفقة، إلا أن جوهر الصفقة كان يقضي بضمان بقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا بشرعية دولية كاملة لحين تنفيذ الجدول الزمني للاتفاق الموقع الذي امتد حينها حتى صيف 2014، رغم أنه كان آنذاك مهددًا عسكريا على الأرض، وهو الأمر الذي شكل مكسبًا حقيقيا للأسد. فبعد أن كان مُطالبا بالرحيل من جانب أغلب العواصم الغربية، صار نظام الأسد شريكا في اتفاقية دولية تستدعي بقائه في السلطة من أجل تنفيذها، خوفًا من تسرب هذا السلاح الخطير إلى المجموعات المسلحة المختلفة في سوريا، وهو ما جعل الأسد خيارا أفضل من غيره من البدائل المطروحة على الساحة. لم يكن هجوم الغوطة الكيماوي في أغسطس 2013 هو الأول من نوعه، إذ سبقته عدة هجمات أخرى منها مثلا هجوم "خان العسل" في مارس 2013، وهجوم في "الشيخ مقصود" بحلب في أبريل 2013، وأيضا هجوم "بسراقب" بإدلب في أبريل 2013، وكلها هجمات تبادل النظام السوري ومجموعات المعارضة المسلحة المسئولية بشأنها. ولكن ما جعل هجوم الغوطة هو الأهم آنذاك هو العدد الكبير الذي خلفه من الضحايا، ومن ثم التفاعل الدولي الواسع بشأنه.
وكان الهجوم الكيماوي الذي وقع في "خان شيخون" بريف إدلب في أبريل 2017، والذي أودى بحياة حوالي 100 ضحية وإصابة 400 آخرين، هو الهجوم الثاني من حيث الأهمية. إذ تعجلت حينها الإدارة الجديدة لترامب في توجيه ضربة أمريكية منفردة للمطار الذي أُعتقد أن الهجمات انطلقت منه وهو مطار الشعيرات. هذه الضربة كانت مفاجأة إلى حد كبير، خاصة بالنظر إلى حالة التماهي التي كانت تتميز بها آنذاك العلاقات الأمريكية- الروسية فيما يتعلق بالملف السوري. إذ عبر ترامب عدة مرات خلال حملته الرئاسية وبعد توليه الإدارة، عن رغبته الأكيدة في إعطاء الأولوية لمحاربة الإرهاب جنبا إلى جنب مع الروس، وقلل من ثم من أهمية إزاحة الأسد. وبينما جاء رد فعله القاضي بالضربة الخاطفة بعد أيام قليلة من هجوم "خان شيخون" مفاجئا لأطراف كثيرة حتى من داخل إدارته، لكنه كان مؤشرا مهما على ضربات أخرى محتملة إذا ما تكرر استخدام السلاح الكيماوي في الصراع السوري مرة أخرى.
كما كان هذا الهجوم وما تبعه من مناقشات في مجلس الأمن مؤذنا بمد العمل بموجب اللجنة المشتركة للتحقيق في استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا والتي كانت قد أنشئت بقرار مجلس الأمن رقم 2235 في أغسطس 2015. فقد كانت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية قد أسست في سبتمبر 2013 لجنة خاصة بسوريا للتخلص من ترسانتها الكيماوية، ولكن هذه اللجنة كانت تابعة للمنظمة وليست ذات صفة أممية. لكن القرار 2235 قد أعطى لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية ولاية إنشاء لجنة مشتركة تحت سلطة مجلس الأمن لكي ترفع تقاريرها إلى المجلس بشكل دوري فيما يخص استخدام الأسلحة الكيماوية في الحرب السورية وتحديد المسئولية عن هذا الاستخدام. وقد استمرت هذه اللجنة في تقديم تقارير تفيد باستخدام السلاح الكيماوي في سوريا رغم إدعاء الحكومة السورية أنها قد سلمت كامل مخزونها من السلاح الكيماوي لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية منذ صيف 2014. ولعل آخر تقارير هذه اللجنة المشتركة، والذي أثار توترا في في العلاقات الروسية الغربية، كان قد صدر في أكتوبر 2017، وحمّل النظام السوري مسئولية الهجوم الكيماوي بغاز السارين الذي كان قد وقع بخان شيخون واستوجب ضربة عسكرية أميركية خاطفة. فيما رفضت حينها روسيا نتائج تقرير لجنة التحقيق المشتركة واعتبرتها واهية ولا تقوم على أدلة حقيقية. واستخدمت موسكو الفيتو لإجهاض مشروع قرار أمريكي في نوفمبر 2017 يوصي بتمديد عمل لجنة التحقيق المشتركة التي تعمل تحت وصاية مجلس الأمن بالتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وهو ما أدى إلى تعليق عملها في سوريا.
هجوم دوما الأخير
الاستخدام المفترض للسلاح الكيماوي في دوما خلال الشهر الجاري، أبريل 2018، جاء بعد انقضاء عمل هذه اللجنة وفي ظل ممانعة روسية لإعادة عملها على الأرض. إذ جاء هذا الهجوم في وقت مثير للاهتمام للغاية؛ فالنظام السوري كان قد أحكم بالفعل قبضته على معظم أنحاء ريف دمشق، وكان قد أجلى المسلحين مع ذويهم إلى مناطق في شمال سوريا، سواء إدلب أو جرابلس. وبالتالي فإن ميزان القوى على الأرض كان لصالح النظام بشكل مطلق، ولا ينقصه لاستكمال انتصاره على الأرض سوى رحيل آخر قوافل المهجرين من دوما إلى جرابلس. وبالمثل كان الروس يديرون عملية الإجلاء بشكل ناجح بما يعني أن سيطرتهم على الجانب العسكري والسياسي في سوريا ليست موضع شك من أي طرف في المعادلة السورية. وهنا يثور التساؤل عن سبب استخدام السلاح الكيماوي في معركة محسومة سلفا وفي طريقها للانتهاء. وإذ ينفي النظام السوري مسئوليته عن استخدام هذا السلاح، ويشكك الروس في الرواية الغربية لاستخدام الغازات السامة من جانب النظام، فإنه إذا ما ثبت أن هجوما كيماويا قد وقع بالطائرات المروحية، فلا شك أنه قد وقع بيد النظام، إذ لا تملك أي من المجموعات المسلحة السورية سلاحا جويا يؤهلها لتنفيذ هجوم كهذا.
هناك تفسيرات عدة يمكن طرحها في هذا السياق. أولها، أن نظام الأسد ربما حاول أن يرسل رسالة بأنه حتى في أشد لحظات فرض سيطرته على الأرض، فإنه ماضٍ في استخدام ما يلزم من أسلحة لضمان الانسحاق الكامل لمعارضيه. وهو أمر لا يوجه به رسائل للداخل بقدر ما يرسل به رسائل للخارج الذي يفهم جيدا ماذا يعني استخدام السلاح الكيماوي، فهو تحدى للمجتمع الدولي أكثر منه تحدي للمعارضين المحليين. ثانيها، قد يكون استخدم هذا السلاح قد تم بهدف إحراج موسكو التي ما فتئت تضغط على النظام السوري لإبرام صفقات إجلاء من مختلف المناطق التي تقع تحت سيطرته بدلا من سحقها عسكريا بالكامل. وهنا فإن قدرة موسكو على إبراز مهاراتها في الحل السياسي متوقفة على التزام النظام بما تتفق عليه مع المعارضة المحلية. ولذا قد يكون النظام أراد مرواغة موسكو ليقلل من ضغطها عليه بأن يضعها أمام المجتمع الدولي في موقف المدافع عنه والمتبني لروايته النافية لوقوع هجوم كيماوي من الأساس.
الضربة الثلاثية الخاطفة: ما المكسب المحتمل؟
على الجانب الآخر، تبقى معضلة إقدام الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على تنفيذ هجوم جوي قصير ومحدود الأثر على منشآت ذات صلة بالقصف الكيماوي، سواء كانت منشآت عسكرية أو معامل علمية. بمعنى أنه لماذا اجتمعت الآن هذه الدول على توجيه ضربة موحدة بدلا من الضربة الأمريكية المنفردة في العام الماضي؟ الواقع يشير إلى درجة أعلى من الالتفات للملف السوري من جانب القوى الكبرى، خاصة مع الانتصار النسبي الذي تحقق عسكريا ضد داعش، مما يطرح مجموعة من البدائل للتعامل مع القضية السورية بمعزل عن مركزية خيار مكافحة الإرهاب. وبالتالي، فمسألة استخدام السلاح الكيماوي أصبحت ذات أهمية أكبر في إدراك الغرب بعد تواري خطر صعود نفوذ داعش، وانحسار خطر إضعاف الأسد الذي قد تستفيد منه المجموعات المتطرفة. ولذا كان الثلاثي الغربي -الأمريكي الفرنسي البريطاني- أكثر اهتماما بوضع حد لمسألة شيوع استخدام السلاح الكيماوي في سوريا.
من جهة ثانية، كانت روسيا قد وضعت حدًا للتداول في مسألة استخدام السلاح الكيماوي السوري داخل مجلس الأمن عندما رفضت تجديد عمل لجنة التحقيق المشتركة. وبالتالي، فإن التحرك الثلاثي جاء منفردا وبمعزل عن أروقة مجلس الأمن المسدودة أصلا، ومن دون ولاية واضحة من القانون الدولي، بل إنه جاء أيضا متعجلا ومتخطيا الموافقات التشريعية الداخلية المعتادة في هذه الحالات.وهو ما يعني أيضا رغبة الثلاثي الغربي في تفويت الفرصة على المطالبين بانتظار نتائج لجنة التحقيق واختصار الوقت، خاصة أن اللجنة سبق أن قدمت في أكتوبر 2017 تقريرا عن هجوم كيماوي كان قد وقع في أبريل من العام نفسه، أي أنها استغرقت ستة أشهر لإنجاز هذه المهمة. فإجراءات زيارة المواقع، ورفع العينات، والاستماع إلى الشهود الناجين، ومن ثم تحليل البيانات واستخلاص النتائج تستغرق وقتا طويلا. علما بأن لجنة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية -التي حُرمت من ولايتها الأممية بسبب الفيتو الروسي- قد مُنعت من زيارة موقع الهجوم في دوما وتعطل دخولها إليه مرتين بسبب إطلاق نار مجهول المصدر، رغم استتباب الأمن المفترض بعد إجلاء المسلحين من ريف دمشق وتأمين الموقع بقوات النظام وقوات الشرطة العسكرية الروسية. الأمر الذي فتح مجالا للتشكيك من جانب قوى المعارضة وفرنسا بجدية النظام السوري في قبول نتائج لجنة التحقيق ومحاولة عرقلة عملها.
واللافت أن الضربة الثلاثية لم تُغير الواقع العسكري على الأرض في سوريا، فالخطط المسبقة مضت كما كان معدا لها. آخر أفواج المهجرين من دوما رحل إلى جرابلس، وكذلك تم الشروع في ترحيل المسلحين من القلمون بعد عقد صفقة بضمان الشرطة العسكرية الروسية. فيما استأنف النظام السوري تطويق بقية انحاء ريف دمشق خاصة في اليرموك والحجر الأسود استعدادا لاقتحامهما، كما فتح أيضا من جديد الجبهة الجنوبية ليطرد منها جيوب المجموعات المعارضة المسلحة في محيط درعا والقنيطرة. وهو يعني أنه على الصعيد العسكري، لم يكن للضربة الثلاثية إلا نتائج محدودة للغاية. ولكن على الصعيد السياسي حملت هذه الضربة رسائل عدة تـُفيد بأن القوى الغربية قادرة على التحرك خارج مجلس الأمن وبشكل لحظي وسريع، ولكنها لا تزال تـُثمن أهمية الاتفاق مع الروس. وهو ما انعكس من خلال التنسيق المسبق مع الجانب الروسي لتجنب وقوع أي خسائر في صفوفه، بينما كانت الضربات دقيقة وموجهة لمنشآت عسكرية وكيماوية دون أن توقع خسائر موجعة في جانب قوات الأسد بما يهدد بقائها أو يعطل عملها المعتاد. بمعنى أن هذه الضربة كانت بمثابة تلويح باستخدام القوة وليس استخداما فعليا لها، وذلك لتذكير روسيا ومن ورائها الأسد بالقدرات الغربية على التحرك العسكري السريع والدقيق متى لزم الأمر.
ومن ثم، فإن أهمية هذه الضربة تكمن في تداعياتها السياسية. فهي، من جهة، فتحت شهية الثلاثي الغربي على التنسيق العسكري بشكل أوسع في سوريا، وهو ما يتضح من الخطط العسكرية ذات الصلة التي حملها ماكرون في زيارته إلى واشنطن، والتي تضمنت عروضا باستمهال ترامب للإبقاء على قواته في شمال شرق سوريا في مقابل تعزيزها بقوات فرنسية رديفة للإبقاء على موطئ قدم غربي في سوريا، بدلا من إخلائها بالكامل أمام النفوذ الإيراني والروسي. من جهة أخرى، يتم البحث أمريكيا بمعرفة السعودية ودول عربية محورية في إفساح المجال لبدائل عسكرية أخرى تتكامل فيها قوات عربية مشتركة مع القوات الأمريكية والفرنسية على الأرض على أن تتولى السعودية تمويل هذه العملية المشتركة.
على الجانب الآخر، تنشط خلال الفترة الأخيرة مباحثات أوروبية وأمريكية مع الروس لاستعراض مطالبهم مقابل التخلي عن الأسد. إذ قـُدمت عدة عروض قبل وبعد الضربة الثلاثية تضمن للروس إبقاء قواعدهم العسكرية في الساحل السوري، مقابل المُضي في حل سياسي يزيح الأسد. وهو ما يفتح التكهنات بشأن سبب استخدام الكيماوي من جانب نظام الأسد في هذا التوقيت بالذات من أجل الإبقاء على التزام روسيا تجاهه وجرها لمزيد من الالتصاق بنظامه. ولكن روسيا التي تستعرض قواتها وترسانتها العسكرية على المسرح السوري منذ قرابة ثلاثة أعوام، لا تريد أن تتزايد خسائرها إذا ما وُضع السلاح الروسي في مواجهة ولو قصيرة مع السلاح الغربي؛ فمبيعات السلاح الروسي خلال الأعوام الماضية عرفت طفرة كبيرة بسبب اختبارها واستعراضها على المسرح السوري، ولكن أي مواجهة محتملة مع السلاح الغربي قد تؤدي إلى انكماس هذه الطفرة أو حتى تلاشيها. مما قد يرجح أن الروس لهم مصلحة مباشرة في المضي في قبول الحل السياسي، كلما لوّحت القوى الغربية بانخراط عسكري أكبر في سوريا. ومن ثم، ربما تكون للضربة الثلاثية نتائج أهم على الجانب السياسي عندما يعود مسار جنيف إلى العمل مجددا. لكن يبقى السؤال الأهم قائما، وهو الثمن الحقيقي الذي يمكن أن يقبله الروس في مقابل التخلي عن الأسد وتحجيم نفوذ إيران في سوريا.