على مدار أكثر من سبع سنوات، ومنذ اندلاع الثورة الليبية في 17 من فبراير 2011، تدور الأزمة الحالكة التي تعانيها الدولة الليبية في فلك العديد من الأدوار الخارجية بتنويعاتها المختلفة ما بين الإقليمية والدولية، حيث تبرز دول الجوار الليبي كأحد أهم الأطراف المشاركة في إدارة هذه الأزمة، والتي لم تترك دولة من هذه الدول إلا وألقت بتأثيراتها وتداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية عليها وبدرجات متفاوتة. فكانت ردود فعل هذه الدول -وعلى الرغم من التفافها حول تأكيد ضرورة الحفاظ على الوحدة الترابية للأراضي الليبية والبحث عن حلول سياسية سلمية لتحقيق التوافق والمصالحة بين الأشقاء الليبيين- متباينة، سواء فيما يتعلق بمواجهة الآثار التي طرحتها هذه الأزمة على أراضيها أو فيما يتعلق بالأدوار التي تبنتها في إطار التقارب مع أطراف الأزمة وجهود تسويتها.
وبعيدًا عن دول الشمال الأفريقي التي أخذت زمام المبادرة وكان لها الدور الأبرز في تسوية الأزمة الليبية وتوجيه مساراتها منذ بدايتها، كان لدول الجوار الليبي الأخرى في منطقة الساحل الأفريقي (السودان، تشاد، النيجر) مواقف متباينة ارتبطت بالعلاقات التي جمعت بين الأنظمة السياسية لهذه الدول ونظام القذافي، وما أسفر عنه سقوط هذا النظام من مشكلات واضطرابات لهذه الدول، وكذلك المساحات التي منحتها لها الدول الإقليمية والدولية وما طرحه المشهد الداخلي الليبي من تطورات في بيئة الصراع انعكست في صورة فرص أو قيود على حركة هذه الدول في إطار انخراطها في تسوية هذه الأزمة.
أولًا: الموقف من الثورة الليبية
تباينت ردود فعل الدول الثلاثة: السودان، وتشاد، والنيجر، إزاء التطورات التي شهدتها ليبيا منذ انطلاق الثورة في 17 فبراير 2011، وإن كانت المواقف التشادية والنيجرية قد تقاربت في بعض المضامين وتحديدا فيما يتعلق بدعم نظام القذافي.
وكان السودان في مقدمة الدول التي اهتمت بمتابعة تطورات الثورة في ليبيا، وتحدد موقفها بناء على مجموعة من المعطيات، أهمها المشكلات التي عانت منها السودان نتيجة لتدخل نظام القذافي ودعمه للميليشيات المسلحة لديها، سواء في الجنوب أو الشمال؛ فمنذ عقد السبعينيات من القرن الماضي تؤثر توجهات النظام الليبي على الاستقرار في السودان. ولذلك كانت الحكومة السودانية من أوائل الحكومات الأفريقية التي أعلنت مباركتها للثورة الليبية وأمدتها (وفق تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير والمجلس الانتقالي) بالسلاح). كما سارع البشير إلى زيارة بني غازي -مهد الثورة الليبية- كأول اعتراف عربي بشرعية الوضع القائم في ليبيا.
كما تأثر الموقف التشادي من الأزمة الليبية، بالعلاقات المتميزة التي جمعت القذافي بدول القارة الأفريقية، حيث تحولت ليبيا في عهده إلى دولة محورية في أفريقيا، هذا فضلا عن التقارب الذي شهدته العلاقات بين نظام إدريس ديبي ونظام القذافي خلال العقدين الأخيرين، حيث كان القذافي هو الحليف الأول لنظام ديبي بعد فرنسا، وأسفر التقارب بين النظامين عن مجموعة من النتائج الإيجابية أهمها استقرار الأوضاع الأمنية على الحدود بين البلدين وفي منطقة جبال تيبستي بعد توقيع اتفاق سلام بين الجماعات المسلحة (قبائل التبو) ونظام ديبي برعاية ليبيا. وكذلك الوصول إلى اتفاق سلام آخر بين النظام والمعارضة التشادية المسلحة. يضاف إلى ذلك الاستثمارات الليبية الكبيرة التي أسهمت في تنمية الاقتصاد في تشاد، خاصة في قطاع الاتصالات.
إلا أن اندلاع الثورة الليبية وتطوراتها المتسارعة لم تمنح نظام إدريس ديبي الوقت الكافي لتقييم الأوضاع وتحديد أوجه دعمه للدولة الليبية، فتوجه إلى مساندة نظام القذافي الذي كان يقوم بأدوار حيوية على مستوى القارة الأفريقية؛ تلك الأدوار التي منعت القادة الأفارقة من المساس بعضوية ليبيا في الاتحاد الأفريقي عقب الثورة على نحو ما قامت به على نحو مماثل العديد من الدول الأخرى وفي مقدمتها مصر. وتورط نظام إدريس ديبي في قتل المتظاهرين، حيث تعاون شقيقه دوسه ديبي مع مسئولي نظام القذافي في تجنيد المرتزقة وتورط قائد القوات المشتركة بين البلدين (الجنرال بشارة بوب) في إرسال قوات عبر الحدود.
ولم يبتعد موقف النيجر من الثورة الليبية في البداية عن الموقف التشادي، حيث اتجهت إلى تقديم الدعم للمقربين من الرئيس القذافي. واستضافت النيجر عددًا من رموز نظام القذافي، وفي مقدمتهم الساعدي نجل الرئيس القذافي، الذي تتهمه السلطات الليبية بتمويل أعمال تخريبية في البلاد. ورفضت النيجر لأكثر من عامين تسليمه إلى طرابلس.
ثانيًا: تداعيات الثورة الليبية على الساحل الأفريقي
ومع توالي تطورات الثورة الليبية، وانتقال حالة الارتباك التي اتسم بها المشهد الليبي إلى دول الجوار، حيث كان لدول الساحل الأفريقي نصيبًا وافرًا من هذا الارتباك، خاصة مالي والنيجر وتشاد، أعادت الدول الأفريقية النظر في مواقفها من الثورة الليبية، إلا أنها انشغلت بحالة الفوضى الأمنية التي عاشتها دول الساحل في أعقاب النمو غير المسبوق لأنشطة الجماعات الإرهابية التي جعلت من هذه المنطقة فناء خلفيًا لأنشطتها في الشمال الأفريقي والأقاليم الأخرى في أفريقيا. ووفقا لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2017 احتلت ليبيا الترتيب العاشر بين أعلى خمسين دولة في العالم من حيث الأنشطة الإرهابية، واحتلت السودان الترتيب الثامن عشر، واحتلت النيجر الترتيب العشرين، بينما احتلت تشاد الترتيب الرابع والثلاثين.
وتشهد الحدود الجنوبية لليبيا انفلاتًا أمنيًا منذ عام 2011، وانتشارًا لظاهرة تهريب البشر والمهاجرين وتهريب الوقود، إضافةً إلى تهريب الأسلحة. ومع عودة المقاتلين الذين حاربوا إلى جانب القذافي وانتشار الأسلحة التي كانت جزءً من ترسانة القذافي، والتي وصلت وفق بعض التقديرات إلى أربعة عشر دولة أفريقية وبلغت ما يقرب من 45 مليون قطعة سلاح، تأججت الصراعات في العديد من الدول، بجانب صعود الجماعات الإرهابية في شمال مالي، والتي تلقت الدعم من نظيراتها في ليبيا. واتجهت تشاد إلى تبني مجموعة من الاحتياطات الأمنية على حدودها، كما قامت بضرب الجماعات المسلحة في جبال تيبستي ما أدى إلى فرار بعض فصائل المعارضة التشادية المسلحة ودخولها عبر الحدود إلى ليبيا، حيث اتخذت من الأراضي الليبية منطلقًا، وتحالفت مع الجماعات الإرهابية. ومن بين هذه الفصائل "اتحاد قوى المقاومة"، وهي حركة تمرد تشادية كانت قد أوقفت القتال ضد الحكومة التشادية بعد توقيع اتفاق سلام بين تشاد والسودان في عام 2009، إلا أنها أعلنت استئنافها للقتال ضد نظام إدريس ديبي في 22 مارس 2013. وشاركت هذه الفصائل في هجوم سرايا الدفاع عن بنغازي ضد الجيش الوطني في منطقة الهلال النفطي في مارس 2017.
وبالإضافة إلى المشكلات الأمنية، ظهرت العديد من المشكلات الاقتصادية؛ فإلى جانب انهيار الدور الاقتصادي الليبي في أفريقيا جنوب الصحراء، خاصة في تشاد والنيجر، حيث أسهمت الاستثمارات الليبية في تطوير الحياة الاقتصادية في هذه الدول، أدت الثورة الليبية إلى عودة مئات الآلاف من المهاجرين الذين كانوا يعملون في ليبيا إلى كل من السودان وتشاد والنيجر. وحتى اندلاع الأزمة كان المغتربون من الدول الثلاثة من أهم الجماعات المستقرة في ليبيا. وتشير بعض التقديرات إلى أن أعداد المهاجرين السوادنيين في ليبيا بلغوا ما يقرب من المليون شخص، ومن تشاد تراوحوا بين 300 إلى 500 ألف نسمة، كما عاد ما يقرب من 211 ألف مهاجر إلى النيجر، وتوقف مشروع شق "الطريق العابر للصحراء" الذي قُدر طوله بحوالي 800 كلم والذي استهدف ربط ليبيا بالنيجر عبر الصحراء، وكانت ليبيا تتولى القسم الأكبر منه. كما توقفت العديد من المشروعات الاستثمارية الأخرى، وكانت تشاد من أهم البلدان المستفيدة من رغبة القذافي في بسط نفوذه الاقتصادي والسياسي في أفريقيا منذ عام 2000.
ثالثًا: الموقف من تطورات الصراع الداخلي والتسوية السياسية
ظلت الدول الثلاث: السودان، وتشاد، والنيجر، تواجه اتهامات عدة من قبل أطراف الأزمة الليبية. وقد دعمت هذه الاتهامات بعض المواقف التي تبنتها هذه الدول، الأمر الذي لم يؤد فقط إلى تراجع انخراطها في تسوية الأزمة، بل أسهم أيضًا في خفوت المشاركة الأفريقية بشكل عام في تسوية الأزمة الليبية. وإزاء هذا الموقف اعتمدت الدول الثلاثة في مشاركتها في تسوية الأزمة الليبية على الانخراط في الجهود الجماعية، سواء عبر آلية دول الجوار أو عبر مبادرة الاتحاد الأفريقي.
فمع اندلاع الثورة الليبية ظل موقف السودان محايدًا حتى صدور قرار مجلس الأمن الدولي بحماية المدنيين، حيث سارع بالاعتراف بالمجلس الانتقالي ودعم الثوار، إلا أن التطورات التي شهدتها الثورة الليبية، خاصة في أعقاب انتخاب البرلمان الجديد في يوليو 2014 وانقسام البلاد بين حكومتين ومجلسين تشريعيين، دفعت دول الجوار إلى إعادة ترتيب مواقفها. فقد دعمت السودان قوات فجر ليبيا في مواجهة حكومة طبرق وقوات عملية الكرامة بقيادة خليفة حفتر. وأرجع بعض الباحثين هذا الموقف إلى وجود دعم لحكومة طبرق من قبل بعض بقايا نظام القذافي السابق، هذا إلى جانب التقارب الأيديولوجي بين النظام الحاكم في السودان وفجر ليبيا، مما أزعج دول المنطقة التي تدعم حكومة طبرق، وجعل السودان يواجه اتهامات غربية تتعلق بدعم وتمويل الجماعات الإرهابية المسلحة في ليبيا. كما اتهم مراقبون قطر وتركيا بالإيعاز للسودان بلعب دور من خلال الأزمة السياسية والأمنية في ليبيا لدعم عناصر جماعة الإخوان (الإرهابية).
وأعرب السودان عن تأييده لاتفاق الصخيرات، وكذلك التنسيق عبر آلية دول الجوار للمساهمة في تنفيذه من خلال تشكيل حكومة فاعلة. في هذا الإطار، أكد وزير خارجية السودان لمبعوث الأمم المتحدة ورئيس بعثتها للدعم في ليبيا (السابق) مارتن كوبلر خلال اجتماعهما في إبريل 2017، أن بلاده تتطلع إلى تحقيق هدفين استراتيجيين في ليبيا، الأول "وجود مؤسسات قوية تحفظ وحدة أراضيها"، والثاني "أن لا يقدم أي طرف في ليبيا لحركات التمرد في دارفور دعمًا أو إيواءً، يهدد الأمن القومي السوداني". وعلى هامش هذين الهدفين تأتي ملفات أخرى مثل الهجرة غير الشرعية، والجريمة العابرة للحدود.
إلا أن برلمان طبرق والجيش الوطني بقيادة اللواء خليفة حفتر استمرا في اتهام السودان برعاية الجماعات الإرهابية في ليبيا. وأقدمت الحكومة الليبية على إغلاق القنصلية السودانية في مدينة الكفرة الليبية، واستبعاد الموظفين العاملين فيها. وحاولت السودان تخفيف التوترات مع الحكومة الليبية والجيش الوطني؛ فدعت رئيسه فايز السراج لزيارة الخرطوم في أغسطس 2017.
من ناحية أخرى، تسعى تشاد والنيجر إلى الانخراط في تسوية الأزمة في ليبيا بالقدر الذي يمكن أن يزيد من قدرتهما على مواجهة التهديدات الداخلية والإقليمية الناجمة عن الأزمة، والتصدي للأطماع الخارجية، سواء الدولية أو الإقليمية، التي تعمل على السيطرة على هذه الدول وبناء القواعد العسكرية على أراضيها بذريعة استعادة الاستقرار ومواجهة الجماعات الإرهابية. في هذا الإطار، اعترفت تشاد بالمجلس الانتقالي في أغسطس 2011، إلا أن الاتهامات ظلت تلاحقها وجارتها النيجر بتوفير المرتزقة الذين شاركوا في قتل المتظاهرين، واستقبال النيجر للمقربين والموالين لنظام القذافي، وكذلك تهريب عربات محملة بالذهب والأموال من البنك المركزى الليبي.
وقد أشار تقرير أصدرته "مجموعة مسح الأسلحة الصغيرة" small arms survey في يونيو 2017 أن عدم التوصل لاتفاقات سلام لدمج المتمردين في تشاد والسودان أدى إلى ظهور "سوق للمقاتلين عبر الحدود" تربط بين البلدين وليبيا؛ وأن مئات المقاتلين من تشاد وإقليم دارفور السوداني يؤججون الاضطرابات في ليبيا ويحاربون لحساب فصائل متناحرة ويسعون لتشكيل حركات تمرد، ويمارسون قطع الطرق وتهريب السلاح.
ويوضح الاندفاع الفرنسي والأمريكي نحو بناء عدد من القواعد العسكرية ومهابط الطائرات في منطقة الساحل الأفريقي في أعقاب التدخل الدولي في شمال مالي الأهمية الخاصة التي تحتلها هذه المنطقة في إطار المصالح الدولية الاقتصادية والأمنية؛ فإلى جانب ما تزخر به أراضي هذه الدول من موارد طبيعية حيوية (منها مورد اليورانيوم الذي يسهم في توفير الكهرباء للمصانع الفرنسية) احتلت هذه المنطقة أهمية كبيرة في إطار المواجهة الغربية للتهديدات، خاصة ما يتعلق بالإرهاب والهجرة غير المشروعة.
وفي الوقت الذي تؤيد تشاد والنيجر اتفاق الصخيرات والمجلس الرئاسي المنبثق عنه، وتنشط الدولتين في إطار آلية دول الجوار وجهود الاتحاد الأفريقي للمشاركة في تسوية الأزمة الليبية، إلا أن التهديدات التي تواجهها الدولتان وخاصة فيما يتعلق بالجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة بأنواعها المختلفة في منطقة الساحل، دفعتهما للانخراط بصورة أكبر في عدد المبادرات الأفريقية العسكرية التي ترعى بعضها عدد من الدول الغربية والعربية مثل القوة المشتركة لمجموعة G5لمواجهة الإرهاب، وقد أدى هذا الأمر إلى تراجع قدرتهما عن المشاركة الفعالة في تسوية الأزمة الليبية، في الوقت الذي تساند فيه تشاد حكومة طبرق والجيش الوطني بقيادة اللواء حفتر، حيث تعمل تشاد من خلال هذا الدعم على مواجهة حركات المعارضة التشادية المتواجدة في ليبيا. ومن الممكن أن يكون لفرنسا دور في التنسيق الليبي- التشادي؛ فقد أقر حفتر بحصول جيشه على دعم فرنسي لوجستي، واعترفت باريس بوجود من أطلقت عليهم خبراء في المناطق التي يسيطر عليها حفتر، وذلك بعد مقتل ثلاثة فرنسيين في طائرة عسكرية سقطت في ضواحي مدينة بنغازي. كما تعتمد فرنسا في خططها الاستراتيجية الخاصة بمنطقة الساحل الأفريقي على الدور التشادي بصورة رئيسية .
ولا تزال الأزمة الليبية تطرح العديد من التداعيات على دول الجوار، حيث تتشابك هذه التداعيات مع الأزمات التاريخية والهيكلية التي تعاني منها هذه الدول، خاصة في الأقاليم الأفريقية جنوب الصحراء، وما يتعلق بأزمة تكوين الدولة الوطنية في أفريقيا وقضايا الجماعات الإثنية المقسمة عبر عدد من الدول كالتبو والطوارق، وكذلك أزمة تداول السلطة واتجاه المعارضة لحمل السلاح في مواجهة الأنظمة الاستبدادية في القارة. كل هذه الأزمات تحد من قدرات هذه الدول على المشاركة بفاعلية في تسوية الأزمة الليبية.