كرم سعيد

باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

بالإضافة إلى الأبعاد الإقليمية والمحلية في فهم إقدام النظام التركي على عملية عفرين، فقد كشفت هذه العملية عن بعد آخر مهم في الخطاب الرئاسي التركي، ألا وهو الاتجاه إلى تديين هذا الخطاب، من خلال الاستخدام المكثف للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية والمقولات التراثية من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بهدف تعضيد سلطته، وتكريس توجهاته السياسية والعقائدية، خاصة مع قرب الاستحقاقات الانتخابية المقرر لها 2019.

يستخدم الرئيس التركي أيضا في معظم خطبه السياسية مصطلح "نحن أحفاد العثمانيين" للتأكيد على توجهاته العثمانية ومحاولاته إحياء إرث الدولة العثمانية عن طريق التمدد السياسي والجغرافي داخل بعض الأقاليم العربية.

ومع بدء عملية "غصن الزيتون" العسكرية في عفرين السورية التي انطلقت في 20 يناير 2018، زاد التوجه نحو تديين الخطاب الرئاسي التركي في محاولة للتغطية على المعارك العنيفة التي دارت طوال الأيام الماضية، والتي أسفرت عن سقوط عشرات الضحايا من القتلى والجرحى من المقاتلين والمدنيين، وألحقت دمارا كبيرا ببلدات وقرى المنطقة، وهو ما ترتب عليه توجيه انتقادات واسعة لأنقرة، حتى أن الرئيس الفرنسي ماكرون وصفها بـ"الغزو".

وإذا كان لا جديد في استشهاد الرئيس التركي بالقرآن والمأثورات الشعرية والبلاغية ذات الصبغة الدينية والتاريخية، سيما أنه  يحرص على ذلك  منذ وصوله لصدارة المشهد السياسي في تركيا، لكن الجديد هو ما صنعه تديين الخطاب الرئاسي في تركيا من احتدام الاستقطاب والاصطفاف، وتراجع المساحة المشتركة داخل المجتمع التركي إضافة إلى اعتماد رؤى مؤدلجة في إدارة علاقات تركيا الخارجية، وبخاصة مع دول الجوار.

وبرز الاستثمار السياسي في أدلجة الخطابات الرئاسية في دعوة أردوغان للمواطنين الأتراك للذهاب للمساجد وتلاوة سورة "الفتح"، "المنوط بها قضاء الحوائج ونيل المراد"، من أجل انتصار القوات التركية في عملية "غصن الزيتون". وأصدرت رئاسة الشئون الدينية تعليمات إلى أئمة المساجد بقراءة سورة "الفتح" قبيل صلاة العشاء والفجر عشية انطلاق العملية. وروجت المجالس الدينية المسماه بـ"مجالس علماء الدين" -والتي أنشأتها تركيا في أفريقيا وآسيا- للحملة العسكرية التركية، وأقامت الصلوات لنصرة "الجهاد" التركي.

والأرجح أن تديين مشهد عفرين لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق أن وصف أردوغان الانقلاب الفاشل في يوليو 2016 بأنه "هدية من الله". وقبل ذلك، وفيخطاب ألقاه في إسطنبول إحياء لذكرى الفتح العثماني عام 1453، الذي حول عاصمة الإمبراطورية البيزنطية إلى مقر للسلطة العثمانية، قال أردوغان: "لن نفسح المجال لأولئك الذين يعترضون على الأذان".. وأضاف أردوغان أمام مؤيديه: "لن نفسح المجال لأولئك الذين يريدون أن يطفئوا جذوة الفتح التي تشتعل في قلب إسطنبول منذ 562 سنة".

ويهدف أردوغان من وراء تديين الخطابات الرئاسية، إلى تحقيق عدة أهداف، نشير إلى هدفين منها. أولها، إقناع تيار المحافظين الدينيين، بما في ذلك الأكراد والقوميون المتدينون، ليكونوا عاملا أساسيا وفيصلا في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، التي يأمل مؤسس حزب العدالة والتنمية أن تجعله "سلطانا عثمانيا" بصلاحيات مطلقة. ثانيهاأن تديين الخطاب الرئاسي يصب في إطار الدعاية التي يقوم بها أردوغان لمصلحة بقائه في المشهد من جهة، وتكريس التوجه نحو استعادة إرث العثمانية من جهة أخرى. ولذلك اندفع أردوغان نحو  استثمار الخطاب المتدين في كل أزمات المنطقة. ففي سوريا، وتحت شعار "نصرة الأبرياء المسلمين"، سلح ودرب وسهل دخول عشرات الآلاف من الجهاديين إلى سوريا، وأنشأ "مجلسا وطنيا سوريا" يهيمن عليه "الإخوان المسلمين"، ويدين له بالولاء.

اعتمد أردوغان أيضا بجوار الحملة السياسية والدبلوماسية والإعلامية على تديين خطاب عملية عفرين لتبرير العملية العسكرية ضد "وحدات حماية الشعب". وزاد التوجه التركي نحو تديين الخطاب الرئاسي مع إدراك صعوبة مهمة القوات التركية في عفرين في ضوء تشابك وتداخل المعطيات السياسية والعسكرية والجغرافية، وصلابة دفاعات قوات سوريا الديمقراطية.

خلف ما سبق يعزف أردوغان على وتر الدين في محاولة لتشويه خصومه العلمانيين، فبينما وصف رئيس حزب الشعب الجمهوري، وهو حزب المعارضة العلمانية الرئيسي الذي أسسه أتاتورك، بأنه معاد  للدين،قاد أردوغان حملة تشكيك في مدى التزام حزب الشعوب الديمقراطي بالدين، ووصف المنتمين للحزب بأنهم من أتباع "زردشت". كما اتهمت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان دميرطاش بأنه يأكل لحم الخنزير.

على صعيد آخر، يسعى أردوغان من خلال أسلمة المشهد السياسي إلى تذويب الفوارق العرقية والثقافية واللغوية، وبناء مجتمع عثماني جديد، لا مجال فيه للأقليات التي تمثل من وجهة نظر أردوغان عبئا على القومية التركية، وشوكة في خاصرة الأمن القومي للبلاد، وعقبة أمام تحقيق استعادة أمجاد دولة الخلافة.

يسرف الرئيس التركي في الاستشهاد بالآيات القرآنية، ويسرف في الحديث عن حروب تركيا العادلة ضد حزب العمال الكردستاني في شرق تركيا وفي عفرين السورية وفي جبال قنديل شمال العراق بهدف التخلص من الإرهابيين، كما يصفهم. لكن السلوك العسكري التركي، يؤكد أن توظيف القرآن والدين في الخطابات الرئاسية يأتي في سياق الدفاع عن المصالح الآنية والضيقة. ويكشف عن ذلك صور الضحايا والمدنيين في العمليات العسكرية التركية ضد الأكراد، ومشاهد التمثيل بالجثث، وآخرها جثة مقاتلة كردية في عفرين تدعى "بارين كوباني" تنتمي إلى وحدات حماية المرأة في عفرين، فقد تم تجريدها من ملابسها والتمثيل بجسدها. واتهمت قوات "قسد" عناصر الجيش الحر، الذراع البرية لتركيا التي تنفذ هجوم عفرين، بارتكاب جرائم وفظائع غير مسبوقة.

في المقابل، فإن الاستخدام المكثف للدين في الخطابات الرئاسية، يكشف عن تناقض، وعن ازدواجية الخطاب السياسي التركي. ففي الوقت الذي يدعو فيه أردوغان إلى نصرة الأبرياء في سوريا، يستخدم حرس الحدود التركي بحسب منظمة "هيومان رايتس ووتش" العنف ضد النازحين السوريين الذين يحاولون العبور إلى أراضيها. وكشف تقرير للمنظمة في 3 فبراير 2018 عن "إن السوريين الهاربين إلى الحدود التركية بحثا عن الأمان واللجوء تجبرهم أنقرة على العودة مرة أخرى بالرصاص وإساءة المعاملة والحرمان من المساعدة الطبية".

القصد أن إفراط أردوغان في تديين الخطاب الرئاسي التركي يأتي في سياق البحث عن تثبيت مخالبه في جسد الدولة والمجتمع التركي من جهة، ومن جهة أخرى في إطار مشروعه لإحياء إرث الخلافة العثمانية. ولذلك فإن تديين الخطاب لم يكن مقصورا على الداخل المحلي، وإنما يمتد استثماره، وبكثافة في السياسة الخارجية التركية.

ويكشف توجه أردوغان نحو تديين الخطاب عن أن ثمة فوضى تعيشها السلطة التركية، بين إدعاء الحق في السيادة على أرض كانت بحوزة الخلافة العثمانية، وإدعاء بالحق في توجيه العقل الجمعي التركي. وفي هذا السياق، ينظر أردوغان إلى معركة عفرين وغيرها من معاركه في الداخل على أنها "حروب مقدسة"، وتستحق الجهاد لاستعادة "الكومنولث العثماني".