في خطوة تمثل تحدياً بشأن عملية عفرين التي تتوعد بها أنقرة أكراد سوريا، أعلنت واشنطن التي تقود التحالف الدولي ضد "داعش"، أنها بصدد تشكيل قوة عسكرية من 30 ألفا، غالبيتها من المقاتلين الأكراد، لحماية مناطق نفوذ "قوات سوريا الديمقراطية" شمال شرقي سوريا.
سلوك واشنطن بإنشاء قوة الحدود السورية على الحدود الجنوبية التركية، دفع الرئيس التركي إلى التهديد بعملية وقائية لإحباط خطة واشنطن التي سماها "جيش ترويع"، لتدخل على إثر ذلك العلاقات بين واشنطن وأنقرة حالة من الشحن والتوتر بفعل دعم الأولى أكراد سوريا، فضلا عن رفضها تسليم جولن المتهم بتدبير الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، وإدانة القضاء الأمريكي نائب رئيس بنك خلق التركي، محمد هاكان أتيلا، بتهمة التحايل لخرق العقوبات على إيران.
حسابات تركية
برغم سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على القامشلي والحسكة وشمال الرقة، وجميعها متاخمة للحدود التركية، إلا أن عفرين تمثل أهمية استثنائية لتركيا، كونها تمثل صلب مشروع الفيدرالية الكردية. وتسعى تركيا من "عملية عفرين" إلى تحقيق عدة أهداف، يمكن تلخيصها في أربعة أهداف أساسية.
1- منع أكراد سوريا من السيطرة على الشريط الحدودي مع تركيا أو إقامة منطقة حكم ذاتي هناك. وتدرك تركيا في هذا الإطار أن مشروع "الفيدرالية الكردية"، لن يكتمل من دون ضم منطقة عفرين إليه، أو على الأقل سيمكن في هذه الحالة احتوائه من خلال حصاره اقتصاديا، ومن ثم إخضاعه سياسيا بسهولة. ولهذا فإن تحديد مصير عفرين يمثل أولوية على أجندة الأمن القومي لتركيا.
2- فتح الباب أمام القوات التركية للسيطرة على منطقة منبج وانتزاعها من الوحدات الكردية، حيث تعد منطقة عفرين نقطة ارتكاز لربط المناطق التي طهرتها عملية درع الفرات، والتي تشمل مثلث "إعزاز- الباب- جرابلس"، وربطها بمنطقة إدلب. ومن ثم، فإن السيطرة على منطقة عفرين يعنى فتح الباب أمام القوات التركية للسيطرة على منطقة منبج وانتزاعها من الوحدات الكردية، ممّا يعني توجيه ضربة قوية لواشنطن التي ترى في أكراد سوريا مدخلا للتمدد الأمريكي في سوريا. ناهيك عن كونها شوكة في خاصرة تنظيم "داعش".
3- سعي تركيا إلى تعظيم تواجدها على الأرض وتغيير معادلة موازين القوى، وهو الأمر الذي يكرس النفوذ التركي داخل سوريا، ويجعل منها طرفا أساسيا في عملية التسوية السياسية المرتقبة. ناهيك عن رغبة أنقرة في تعويضخسارتها، بعدما مُنعت من المشاركة في معركة تحرير الرقة والموصل، بقرار من الولايات المتحدة.
4- رغبة تركيا في إعادة ترتيب المناطق الحدودية مع سوريا، فبعد أن كانت المقاربة التركية تجاه الصراع السوري تقوم على إسقاط الأسد، تحول تركيزها من الإطاحة به إلى تأمين حدودها.
عملية عفرين: أوراق تركيا
تعول تركيا لإنجاح عملية عفرين على عدد من العوامل، منها استعداد فصائل سورية قريبة من المعارضة للمشاركة في تلك العملية، مثل "فرقة السلطان مراد"، و"جيش النصر"، وعناصر الجيش السوري الحر. في المقابل، فإن القرار الأمريكي بإنشاء "قوة الحدود" بقيادة كردية، أسهم بشكل كبير في إمكانية تمرير عملية عفرين من جانب روسيا وإيران الذان رفضا بشدة الخطوة الأمريكية. ويرجع الرفض الروسي لهذه الخطوة الأمريكية كونها يمكن أن تؤدى إلى تقليص النفوذ الروسي من جهة، وإنهاء احتكار روسيا للحل السياسي للأزمة السورية، من جهة ثانية. لذلك اعتبرت موسكو أن الإعلان عن تأسيس هذه القوات الجديدة التي ستفرض سيطرتها على المناطق الحدودية مع العراق وتركيا وفي شرق الفرات، يعنى العمل على إضعاف وحدة الأراضي السورية. وأعادت التأكيد على أن الحل يكمن في الحوار السوري- السوري، باعتباره الآلية الصحيحة لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي ينص على وضع آلية للانتقال السياسي في البلاد.
أما إيران، فقد اعتبرت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية، بهرام قاسمي، أن المشروع الأمريكي سيزيد من حدة الأزمة السورية ويدخلها في حالة "فوضى كبرى".
وبالإضافة إلى هذه العوامل الخارجية المهمة، التي تضيف إلى الموقف التركي، فقد لقيت عملية عفرين تفهما مهما من جانب المعارضة التركية التي رفضت نشر القوات الكردية على الحدود الجنوبية لتركيا.
تعقيدات متداخلة
لكن على الرغم من مواقف القوى الدولية الفاعلة في سوريا، خاصة إيران وموسكو، الرافضة للمشروع الأمريكي، بجانب تراجع حدة ممانعتها للتدخل التركي في شمال سوريا، إلا أن التدخل التركي في عفرين لن يكون سهلا. فثمة تحديات أمام العملية العسكرية التركية. أولها، هو تعقد العلاقة بين أنقرة وواشنطن، خاصة في ظل اتجاه الأخيرة إلى تدريب عناصر قوة حدودية، تنتشر في نقاط على الحدود مع تركيا والعراق وعلى امتداد نهر الفرات، وهي المناطق التي يشكل الأكراد أكبر مكون فيها.وتتضمن الخطوات الأمريكية إضافة إلى زيادة الدعم العسكري لعناصر "قسد"، توفير الموارد المالية لإعمار المدن المدمرة، فضلا عن إمكانية الاعتراف الدبلوماسي بهذه المنطقة التي تبلغ مساحتها نحو 28 ألف كيلومتر مربع.
كما تهدف واشنطن إلى تقوية المجالس المحلية المدنية التي تحكم المناطق المحررة من تنظيم "داعش". وإذا كانت وزارة الدفاع الأمريكية أكدت أن عفرين ليست ضمن نطاق عمليات التحالف الدولي في سوريا، إلا أن الترتيبات الأمنية التي قررتها واشنطن قد تؤدي إلى ترسيم حدود مناطق النفوذ التي تسيطر عليها "قسد" وعزلها عن مناطق نفوذ النظام السوري، وهو ما يعنى تصاعد فرص الحكم الذاتي للأكراد وبناء نموذج "سوريا الفيدرالية"، وهو ما ترفضه تركيا.
في المقابل، فإن معارضة موسكو للخطوة الأمريكية، وغض الطرف عن تحركات تركيا استعدادا لمعركة عفرين لا يمثل ضوءً أخضر روسيا لتركيا. دلل على ذلك إصرار موسكو على التمسك بدعوة الإدارات الذاتية الكردية الفيدرالية في الشمال السوري إلى مؤتمر الحوار الوطني السوري في مدينة "سوتشي الروسية" المقرر له نهاية يناير الجاري (2017)، ويهدف إلى التأسيس بشكل متدرج لسوريا اتحادية.
من ناحية أخرى، فإن إيران وبرغم أنها تتفق مع تركيا، في إطار الحفاظ على مصالحهما في سوريا، وأهمية الإبقاء على سوريا واحدة موحدة بعيدا عن منح القوات الكردية حكما ذاتيا، إلا أن هذا لا يمنع تخوف طهران من التمدد الميداني والنفوذ السياسي التركي داخل سوريا، ما قد يؤثر على مشاريعها الجيو-سياسية والاقتصادية. كما أن ثمة رغبة إيرانية في إبقاء ميزان قوى التعاون مع روسيا في صالح طهران. وتبدو إيران أكثر حرصا على توثيق العلاقة مع موسكو بعد موقفها المناهض للاحتجاجات التي شهدتها إيران خلال شهر يناير الجاري.
من ناحية ثالثة، فإن وحدات قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، والتي تسيطر على نحو 25 في المئة من مساحة الأراضي السورية، تحظى بقدرات عسكرية على الأرض لا يمكن إغفالها، وهو ما ساعدها على تحقيق تقدم كبير في مواجهة داعش حتى أنهت نفوذه عند الضفة الشرقية لنهر الفرات في دير الزور. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الولايات المتحدة لعبت دورا مهما في تطوير القدرات العسكرية لوحدات "قسد"، شملت تزويدها بصواريخ مضادة للطيران. هذه القدرات العسكرية لاشك ستجعل عملية عفرين التركية أكثر تعقيدا.
وأخيرا، يمكن القول إن تركيا يمكن أن تدخل في مواجهة مع النظام السوري حال محاولة دخول الأراضي السورية، إذ لازالت دمشق ترى القوات التركية قوات غازية. وتمثل دمشق ورقة ضاغطة على حسابات تركيا فيما يخص دخول عفرين، سيما أن القوات النظامية السورية أحرزت تقدما سريعا في محافظة إدلب التي تقع على الحدود مع تركيا، المعقل الأكبر للمعارضة.
هكذا، يمكن القول إن عملية عفرين التي تستهدف منع قيام كيان كردي مستقل على الحدود التركية، لن تكون عملية سهلة، فثمة تعقيدات متداخلة تربك الحسابات التركية بهذا الشأن، منها أن تركيا راكمت الكثير من التوترات مع قوى إقليمية ودولية فاعلة في سوريا، في الصدارة منها واشنطن والاتحاد الأوروبي. كما يحتمل أن تواجه تركيا حربا إعلامية مناهضة لدخولها عفرين، وهو ما ينال من صورتها الذهنية، ويزيد في الوقت ذاته من الضغوط الدبلوماسية عليها. في المقابل، لا يمكن إنكار تداعيات تلك العملية على الداخل التركي، خصوصا مع تراجع الاقتصاد، وهو ما يعني احتمال عدم قدرة تركيا عن توفير الخدمات الإدارية والمصادر الاقتصادية لسكان عفرين حال السيطرة عليها، وهو ما يعني الفشل في كسب ما يسميه البعض بـ "المشروعية الإدارية الشعبية". وتبدو تركيا بالفعل قلقة بشأن احتمالات عدم قدرتها على تحقيق طموحات سكان عفرين، كان ذلك واضحا في تصريح نائب رئيس الوزراء، ويسي قاينق، عندما قال إن "العملية سيتبعها دخول مستشارين تنمية زراعية وخدماتية وإدارية يوفرون فرص عمل وفيرة لمواطني المنطقة". لذلك فإن عملية عفرين قد تحمل الكثير من المخاطر ليس على صعيد العلاقة مع واشنطن، وإنما على الأمن القومي التركي ذاته، وعلى صورة تركيا كفاعل إقليمي في المنطقة.