حملت الزيارة التي قام بها أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، لست دول في غرب أفريقيا (السنغال، وبوركينا فاسو، وساحل العاج، وغانا، وغينيا، ومالي) بدأت في العشرين من ديسمبر الماضي (2017)، العديد من الدلالات بعد أن فُرضت عليها حالة من "العزلة الإقليمية"، على خلفيةإعلان دول وجهات رسمية وإعلامية مختلفة دعم قطر للجماعات الإرهابية في العالم، واتجاه دول عربية تبعتها في ذلك دول أفريقية لقطع علاقاتها معها، وكذلك ردود الفعل الأفريقية على التحركات القطرية الأخيرة في القارة بعد هذه الأزمة.
فقد أدت هذه التطورات إلى تراجع مكانة قطرداخل القارة الأفريقية، تلك المكانة التي تشكلت عبر جهود تبنتها الدوحة منذ عهد الأمير حمد بن خليفة آل ثاني (1995-2013) وتجاوزت طموحاتها في الاستثمار في أفريقيا، لتوظف أدوارها السياسية في القارة لتدعيم سياستها الخارجية الهادفة إلى الخروج من"عقدة الدولة الصغيرة" لتصبح دولة فاعلة ومؤثرة في إقليم الشرق الأوسط وفي العالم. وقد سعت قطر من خلال اعتمادها على مواردها المالية القيام بدور في مجال تسوية الصراعات الأفريقية، مثل الصراع في دارفور، والصراع بين إريتريا وجيبوتي، والأزمة السياسية في مالي وليبيا.كما انضمت قطر إلى منظمة الدول الفرانكفونية وحصلت خلال قمة المنظمة في كينشاشا (أكتوبر 2012) على صفة "دولة شريكة" دون المرور بمرحلة "عضو مراقب"، وهو الأمر الذي أثار جدلا كبيرا. وقد أبدى الكثير من الأفارقة تخوفهم من طموح قطر في توسيع نفوذها في غرب أفريقيا عبر تمويل مدارس دينية.
البحث عن حلفاء في أفريقيا
اتهمت دولا وكيانات أفريقية ودولية عديدة قطر بضلوعها في دعم تنظيمات إرهابية في أفريقيا. فقد اتهمت مؤسسات شرعية ليبية، وعلى رأسها مجلس النواب والقيادة العامة للجيش، قطر بدعم الجماعات الإرهابية في ليبيا بالمال والسلاح، وأن قطر تستضيف عددا من قادة الميليشيات الإرهابية، كالجماعة الليبية المقاتلة، وتنظيم القاعدة، وجماعة الإخوان المسلمين.
وفي يونيو عام 2012 نقلت جريدة "لوكانار أنشينه" الإسبوعية الفرنسية، عن مصادر استخباراتية فرنسية أن أمير قطر منح مساعدات مالية للجماعات الإرهابية المسلحة التي احتلت شمال مالي.وفي الشهر ذاته بدأ الجدل يحتدم في فرنسا حول الدور الذي تلعبه قطر في بزوغ نجم الجماعات المتطرفة بمالي. كما وجه سادو ديالو، عمدة مدينة جاو في شمال مالي، اتهامات لقطر بتمويل المتشددين عبر مطاريجاو وتمبكتو، وأكد في حديث له في إذاعة RTL، أن السلطات الفرنسية كانت على علم بتصرفات القطريين في شمال مالي.
وفي العام 2013، نقلت صحف فرنسية عديدة عن مديرية الاستخبارات العسكرية (DRM)، أن أكثر من حركة في مالي تستفيد من الدعم المالي القطري، سواء بالحصول على مساعدات لوجستية أو مساهمات مالية مباشرة تحت غطاء جمعيات خيرية وإنسانية تنشط هناك.
وفي هذا الإطار، وفى أعقاب اندلاع الأزمة القطرية اتجه عدد من الدول الأفريقية إلى تأييد المقاطعة العربية لقطر، حيث أقدمت السلطات التشادية على غلق السفارة القطرية وإعلان البعثة الدبلوماسية القطرية "غير مرحب بها" على أراضيها، وأن عليها مغادرة البلاد، وذلك بعد أن وصلت معلومات تكشف أن قطر تمول معسكرات تدريب للمليشيات التشادية في ليبيا. كما قطعت موريتانيا علاقاتها مع قطر، في حين استدعت النيجر سفيرها لدى قطر.
لكن على الرغم من تصاعد المواقف المناوئة لقطر في القارة الأفريقية، إلا أن دولا عديدة التزمت الحياد ورفضت الانخراط في المقاطعة الخليجية لقطر، وانحازت في المجمل إلى عدم السير على خطى الدول الخليجية في عزل قطر، والاتجاه في المقابل لدعم الحوار لتسوية الأزمة، مما أعطى النظام القطري بارقة أمل في إمكانية استغلال هذه المواقف في كسب حلفاء في القارة الأفريقية تتجاوز من خلالهم حالة العزلة المفروضة عليها. فعلى الرغم من المصالح التي تربط الدول الكبرى في أفريقيا (مثل إثيوبيا،وجنوب أفريقيا، ونيجيريا) بالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، إلا أن هذه الدول أكدت منذ بداية الأزمة على ضرورة الحوار من أجل تسوية الأزمة الخليجية، وأجرى مسئولوها مشاورات مع المسئولين القطريين.كما دعا رئيس الاتحاد الأفريقي الرئيس الغيني ألفا كوندي في كلمته لافتتاح القمة الأخيرة للمنظمة في يوليو 2017، إلى أهمية إيجاد "حل سلمى" للأزمة الخليجية. كذلك اتخذت بعض الدول الأفريقية موقفا محايدا من الأزمة القطرية، مثل الصومال وإثيوبيا والسودانوالمملكة المغربية،مما دفع الحكومة القطرية لاتخاذ قرار في سبتمبر 2017 بإعفاء مواطني دولتي المغرب والجزائر من تأشيرات الدخول إلى قطر.
وعلى مستوى آخر، اتسمت مواقف بعض الدول الأفريقية بالارتباك. يصدق ذلك على دولة السنغالالتي تربطها علاقات قوية بالمملكة العربية السعودية، وهي أيضا من الدول المشاركة في التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن، كما شارك رئيسها ماكي سال في القمة العربية الإسلامية- الأمريكية التي عقدت في الرياض في مايو 2017، حيث تولي الولايات المتحدة أهمية خاصة بالسنغال في إطار ما يطلق عليه البنتاجون مصطلح أو"استراتجية الوسادة الزئبقية" "lily-pad" في غرب أفريقيا، وهي نوع من القواعد العسكرية الصغيرة التي تكون جاهزة للتدخل السريع.ويتطلع الأمريكيون إلى وجود مرونة لا حدود لها في استخدام هذه القواعد؛ إذ بالإضافة إلى الأهداف العسكرية، تحقق هذه القواعد أهدافا سياسية واقتصادية.وقد أبرمت السنغال في مايو 2016 اتفاقية عسكرية مع الولايات المتحدة، تهدف إلى تفعيل التعاون بين الجانبين في مجالات التدريب من خلال الوجود الدائم لعسكريين أمريكيين، والتسليح لمكافحة الإرهاب في غرب أفريقيا. ومع ظهور الأزمة القطرية استدعت السنغال سفيرها من الدوحة للتشاور في بداية الأزمة في يونيو 2017، لكنها قررت إعادته مرة أخرى في أغسطس 2017.
وبالإضافة إلى العمل على كسر العزلة الخليجية ضد قطر، هناك عدد من الدوافع المهمة التي تقف وراء التحركات القطرية داخل القارة الأفريقية. من بين تلك الدوافع سعي قطر إلى محاولة تبرئة ساحتها من اتهامها بدعم الجماعات الإرهابية في دول الإقليم، خاصة أن الإقليم يضم أكبر كتلة إسلامية في أفريقيا. من ناحية أخرى، تبحث قطر عن جماعات إسلامية متقاربة معها في التوجهات الأيديولوجية، حيث تعانى العديد من دول غرب أفريقيا من نمو التيارات الإسلامية المختلفة ومنها الجماعات المتشددة داخل أراضيها، هذا فضلا عن كون إقليم غرب أفريقيا من أهم أقاليم القارة التي يتسع فيه النفوذ الإيراني، في ظل تزايد أعداد الشيعة في الإقليم، وربما تحاول قطر الاستفادة من إيران في تحقيق مصالحها في الإقليم. فقد سعت إيران خلال السنوات السابقة لاستخدام تقاربها مع الدول الأفريقية في تجاوز العقوبات المفروضة عليها من قبل المجتمع الدولي، ويبدو أن قطر تسير على النهج ذاته.
وبالإضافة إلى الدوافع السياسية المهمة التي تقف وراء الجولة الأفريقية لأمير قطر، لا يمكن إغفال الدوافع الاقتصادية، وذلك على خلفية الأهمية الاقتصادية لإقليم غرب أفريقيا الغني بالموارد والثروات الطبيعية، خاصة النفط،حيث تعمل قطر في هذا الإطار على تحويل مالي إلى قاعدة لاستثماراتها في غرب القارة، فضلا عن العمل على فتح أسواق جديدة أمام الاستثمارات والمشروعات الاقتصادية القطرية، كمدخل مهم لاستعادة المكانة والنفوذ القطري بالقارة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه تم بالفعل التوقيع خلال جولة الأمير القطري على سلسلة من الاتفاقيات الاستثمارية بين قطر وعدد من دول غرب أفريقيا شملت مجالات الطاقة والتعليم والصحة، والعمل على الحصول على أربعة تراخيص للتنقيب عن المعادن لصالح "شركة قطر للتعدين".
مواقف أفريقية متوازنة
على الرغم من أن زيارة أمير قطر لغرب أفريقيا-والتي تزامنت مع زيارة الرئيس التركي رجب أردوغان لعدد من الدول الأفريقية في مقدمتهم السودان ثم تشاد- آثارت الكثير من الجدل حول الأهداف التي يسعى إليها النظام القطري من تدعيم حضوره في غرب أفريقيا، والتنسيق المحتمل بين تركيا وقطر فيما يتعلق بالنفوذ داخل دول القارة، حيث تصاعدت تكهنات حول إمكانية أن يقوم الرئيس رجب أردوغان بدور للوساطة لتسوية الخلافات بين قطر وتشاد، وذلك في الوقت الذي تحول فيه إقليم شرق أفريقيا إلى ساحة للنفوذ السعودي والاماراتي بعد اتجاههما، وفى إطار دعم العمليات العسكرية للتحالف العربي في اليمن، لبناء القواعد العسكرية في عدد من دول الإقليم، على الرغم من كل ذلك، إلا أن المواقف الأفريقية من محاولات النظام القطري استعادة مكانته في القارة كان لها الدور الحقيقي في نجاح جولة أمير قطر في غرب أفريقيا، فقد حرصت الدول الأفريقية على تبني مواقف متوازنة إزاء الأزمة القطرية على الرغم من مخاوفها من تأثير هذه الأزمة على المساعدات والدعم الخليجي لها.ويبدو أن الدول الأفريقية اعتبرت أن الأزمة القطرية ستتخذ طريقها للحل بعد فترة زمنية وجيزة، وفي الإطار الخليجي- الخليجي، وفي ضوء الروابط العائلية والمادية التي تربط قطر بنظيراتها من الدول الخليجية.
كما اعتبرت الدول الأفريقية جولة أمير قطر تحمل فرصا قوية للاستثمارات الجديدة وزيادة المساعدات القطرية لدولها، خاصة في ظل التراجع الذى تشهده أسعار النفط والذييؤثر بصورة ضارة على اقتصاديات هذه الدول.