مع نهاية العام 2017، يكون العراق قد قضى مدة عامين ونصف في حرب ضد تنظيم داعش الذي أعلن عن قيام دولته على أجزاء من الأراضي العراقية والسورية في 10 يونيو 2014. وتشير تصريحات القيادات العراقية، وكذلك مسئولو التحالف الدولي ضد داعش الذي شكلته الولايات المتحدة في سبتمبر 2014، إلى أن هناك انتصارا عسكريا تحقق ضد التنظيم في تكريت والأنبار والموصل. ويجادل هذا المقال بأن قضية تداعيات إعلان الانتصار العسكري على داعش ستظل تتصدر أهم التطورات في العراق في العام 2018، وستظل محددا مهما لما يمكن أن يحدث في قضية استقلال إقليم كردستان، ولمستوى دمج السنة في مؤسسات الدولة السياسية والأمنية. وهي قضايا لم يتمكن العراق من التعامل معها بطريقة تعزز من بنية الدولة الجديدة أو الهوية الوطنية أو تحقق نوعا من السلام الاجتماعي في العراق في الفترة التالية على سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، حيث ظل العراق يتصدر قائمة الدول الهشة في المنطقة والتي تمر بصراعات مسلحة تؤثر على بنية الدولة وعلى قدرة مؤسساتها على القيام بوظائفها.
أولا: التطورات الرئيسية خلال عام 2017
ظل تنظيم داعش خلال هذه الفترة يمثل التهديد الرئيسي الذي وحد جهود كل من القوات العراقية مدعومة من التحالف الدولي، وقوات البشمركة الكردية، وقوات الحشد الشعبي، خاصة بعد نجاحه في السيطرة على حوالي 40% من الأراضي في العراق وفق تقديرات معهد دراسات الحرب، وتحول المناطق التي يسيطر عليها إلى ما يشبه منطقة عازلة بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المركزية في بغداد وتلك الخاصة بإقليم كردستان.
فقد نجحت هذه القوات مجتمعة في دحر التنظيم في تكريت والأنبار والموصل وتقليص المساحة التي يسيطر عليها فعليا إلى أقل من 7%، إذ تراجعت المساحة التي تخضع لسيطرة التنظيم بصورة مباشرة في عام 2017 مقارنة بتلك التي كان يسيطر عليها في عام 2014. وتزامن مع ذلك تزايد المناطق التي يستطيع التنظيم أن ينفذ فيها عمليات خاطفة ولكن دون أن يحتفظ فيها بحضور قوي على الأرض، وهو ما يتضح في الخريطتين رقم 1، ورقم 2.
خريطة رقم (1)
خريطة رقم (2)
ويمكن القول إن إعلان الانتصار على تنظيم داعش يعد بمثابة نزع الفتيل عن قنبلة موقوتة ستعيد تفجير العديد من الأزمات التي مر بها العراق في الفترة السابقة على إعلان التنظيم عن قيام دولته في عام 2014، والتي لا يوجد في الأفق حلول يمكن أن تتعامل معها، وهو ما يمكن إجماله في النقاط التالية:
1- التكوين الطائفي للمؤسسات الأمنية: حيث كشفت الحرب ضد داعش، من ناحية، عن ضعف تكوين القوات العراقية بسبب غلبة التكوين الطائفي عليها، وهو ما كشف عنه عدم قدرة القوات العراقية على تحقيق أي انتصار عسكري مستديم ضد قوات داعش، رغم الدعم الذي حصلت عليه من قوات التحالف الدولي منذ تشكيله في سبتمبر 2014. لذا تزايدت أهمية الشراكة بين القوات العراقية وقوات البيشمركة التي أثبتت مهارة عالية في التعامل مع داعش. وكذلك برر هذا القصور، من الناحية العددية، في اتجاه الحكومة العراقية لرعايتها تشكيل قوات الحشد الشعبي، والتي يقدر عددها بحوالي 60 ألف مقاتل. وتألفت هذه القوات في جزء منها من كتائب مقاتلة من الشيعة العراقيين بدعم من المرجعية الدينية آية الله علي السيستاني، وفي جزء آخر من كتائب مقاتلة مدعومة من جانب إيران.
وقد اتخذت الحكومة العراقية قرارًا بدمج قوات الحشد الشعبي في المؤسسة العسكرية العراقية منذ نوفمبر 2016. هذا القرار من الناحية العملية يعزز بلا شك من التكوين الطائفي للمؤسسات الأمنية في العراق، والتي تعد مشكلة مستمرة منذ تشكيل أول حكومة عراقية دائمة في عام 2005 برئاسة إبراهيم الجعفري. ولعل هذا يفسر مطالبة العديد من السياسيين السنة بضرورة حل هذه القوات.
2- ضعف السيطرة على المناطق المحررة: ارتباطا بالنقطة السابقة، وبالنظر إلى ضعف الحكومة المركزية ومحدودية قدراتها على استعادة الأمن وفرض النظام في العديد من المدن، وهي مسألة تجلت في المدن التي كانت تخضع لسيطرة الميليشيات المسلحة في الفترة التالية على عام 2006، فإن ذات المشكلة مستمرة في المناطق التي تم إعلان الانتصار العسكري على داعش فيها،خاصة في ظل وجود مشكلة النازحين الذين اضطروا لترك منازلهم بسبب سيطرة داعش على المدن التي يعيشون فيها والذين يقدر عددهم وفق تقديرات مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين بحوالي 6 مليون عراقي، و3.2 مليون نازح داخلي.
وهناك اتجاه في العراق يرى أن تحقيق السيطرة الحكومية على هذه المناطق يكون من خلال إنشاء مقرات لتمركز قوات الحشد الشعبي فيها، وهذا يثير مشاكل طائفية تصاعدت في أحيان معينة إلى مواجهات عنيفة خاصة في المناطق التي عرفت تقليديا أنها ذات أغلبية سنية، وهو ما سيؤثر على المرشحين السنة في هذه المدن في الانتخابات المقرر عقدها في مايو 2018 على نحو قد ينبئ بمواجهات طائفية عنيفة في هذه المناطق.
3- السنة خارج مؤسسات الدولة: إلى جانب ذلك، فإن تراجع أهمية قضية الدمج السياسي للقوى السنية في المؤسسات الأمنية خلال هذه المرحلة نتيجة تزايد الاهتمام بإلحاق الهزيمة بداعش، هو في حقيقة الأمر يرجئ الأزمة السياسية مع القوى السنية ولايقدم حلا لها، وهي أزمة ترجع جذورها إلى حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والتي ارتبطت بصورة رئيسية بعدم عدالة تمثيلهم في المؤسسات السياسية والأمنية وبعدم حصولهم على نصيب عادل من عوائد التنمية في العراق.
ولعل عدم حل هذه الأزمة يفسر من ناحية تجدد الحديث خلال المرحلة التالية على الإعلان عن هزيمة داعش في الموصل عن أهمية إطلاق حوار وطني يكفل التوصل لحلول حقيقية لهذه الأزمة من ناحية، ويحول دون استخدام داعش كمبرر لإقصاء مزيد من السنة من المؤسسات الأمنية في العراق. وفي هذا الإطار، يمكن فهم تصريح سليم الجبوري، المتحدث باسم البرلمان العراقي، في نوفمبر 2017 عن أن الهزيمة الحقيقية لداعش تحتاج إلى "انتصار سياسي يتعامل مع الأخطاء التي أدت إلى نشأة داعش"، وحديث أسامة النجيفي عن أهمية البحث عن "شراكة وطنية جديدة" تعالج كل الأسباب التي أدت إلى نشأة تنظيم داعش ونجاحه في السيطرة على مناطق عدة في العراق.
4- استقلال الأكراد: سعى الأكراد خلال العام 2017 لجني العائد السياسي لمشاركتهم في الحرب على داعش من خلال تنظيمهم الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان في سبتمبر 2017. ويرتبط بقضية استقلال الإقليم، ثم التوافق الضمني على تأجيل تنفيذ عملية الاستقلال على نحو يتماشى مع نتائج الاستفتاء، تجدد الحديث عن المشاكل التقليدية بين حكومة كردستان والحكومة المركزية في بغداد والتي أجلت حكومة حيدر العبادي النظر فيها بعد توليها السلطة في عام 2014 بسبب أولوية الحرب على داعش. وتتضمن هذه المشاكل استقلال كردستان في إدارة موارده النفطية، ومصير المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وغيرها، وقضية الميزانية الخاصة بقوات البشمركة.
ثانيا: السيناريوهات المتوقعة خلال عام 2018
يمكن تحديد ثلاثة سيناريوهات متوقعة قد يشهدها العراق خلال العام 2018.
السيناريو الأول، يتمثل في نجاح داعش في إعادة ترتيب صفوفه واستعادة السيطرة على الأنبار مرة أخرى، ومنها ينطلق للسيطرة على مناطق أخرى في العراق. ويستند هذا السيناريو إلى أن قائد التنظيم لم يقتل بعد، وهو أبو بكر البغدادي، وأن أفكاره وآليته الإعلامية لاتزال تعمل بكفاءةواتجهت طوال العام 2017 للتأكيد على فكرة الحرب على حساب الحديث عن دولة الخلافة. وهذا على عكس ما كان يميز الخطاب الإعلامي لداعش خلال 2015.
كما أن التنظيم نجح في تطوير وسائل تمويله من خلال الاتجار في البيتكوين وغيرها. كما أن الأسباب التي سهلت نشأة التنظيم لاتزال ماثلة دون علاج من قبل الحكومة العراقية. وهذا السيناريو يفترض أن ما أُعلن من انتصار عسكري على داعش من قبل الحكومة العراقية هو أمر مؤقت، ويمثل مرحلة انتقالية قد يشهد العام 2018 انتهائها.
السيناريو الثاني، ينصرف إلى انتهاء داعش كتنظيم ولكن قد تتشكل جماعات من رحمه في المناطق التي لا يزال يستطيع أن يشن فيها عمليات عسكرية على النحو الموضح في الخريطة رقم 2، خاصة تلك الواقعة في محافظة الأنبار قرب الحدود مع سوريا، لاسيما في ظل استمرار المعركة في سوريا وعدم حسمها بعد. وقد تتخذ هذه الجماعات اسم مختلف عن اسم التنظيم، وتستلهم الأفكار الخاصة بالتنظيم، وتتجه بدلا من إعلان السيطرة على مناطق معينة إلى اتباع استراتيجية الكر والفر دون أن تعلن السيطرة على منطقة معينة، بجانب اتباع استراتيجية الاختباء بين المدنيين.
ويعزز تحقق هذا السيناريو ثلاثة عوامل. العامل الأول هو ضبابية مصير العناصر المقاتلة المنضوية في صفوف داعش سواء العراقية أو السورية، أو القادمة من خارج العراق وسوريا، والتي قدر عددها حتى يناير 2015 بعدد 20 ألف مقاتل. ففي ظل استمرار العمليات العسكرية ضد داعش في الموصل تشير التقديرات إلى أن إجمالي من خرج من العراق وسوريا يتراوح بين 4000 و5000 مقاتل، الأمر الذي يثير تساؤلات حول أين ذهب باقي المقاتلين الأجانب الذين انضموا لصفوف داعش خلال السنوات الثلاث السابقة؟ وأين ذهب المقاتلون المحليون والذين يقدر عددهم بما يتراوح بين 10-15 ألف مقاتل، خاصة أنه لم تُعلن أية بيانات خاصة بقتل أو اعتقال عناصر من التنظيم في المناطق التي تمت هزيمته فيها.
ويتعلق العامل الثاني باستمرار الأزمات السياسية الممتدة دون حل، والتي تم توضيحها في الجزء السابق والتي تتعلق بصورة رئيسة بتدني تمثيل السنة في المؤسسات الأمنية والسياسية، خاصة في ظل الاتجاه لمأسسة وضع الحشد الشبعي.
ويتعلق العامل الثالث بصعوبة إحكام السيطرة على المناطق التي تم تحريرها من سيطرة داعش، في الفترة التالية على إعلان الانتصار العسكري. إحكام السيطرة يتطلب، من ناحية، أن تكون أدوات استعادة الأمن كلها بيد الحكومة العراقية والقوات التابعة لها. ويتطلب، من ناحية ثانية، أن تكون الحكومة العراقية قادرة على فرض النظام وما يرتبط بذلك من إعادة بناء البنى التحتية في هذه المناطق، وتوفير الخدمات الاجتماعية والاقتصادية بصورة مستدامة، فضلا عن إعادة النازحين بسبب المواجهات العسكرية، وهي مسألة محل اختبار خاصة أن المناطق التي أُعلن عن تحريرها مبكرا في العام 2015 مثل تكريت، لم تتمكن الحكومة من القيام بهذه المهام فيها وتركت العبء على القوى المحلية.
السيناريو الثالث، يتمثل في تكرار نموذج ما بعد هزيمة القاعدة في عامي 2006-2007، بمعنى أن تتراجع الحرب على الإرهاب في العراق مع تجدد الأزمات السياسية التي أرجأت بسبب الحرب على داعش. فخلال الفترة التالية على هزيمة القاعدة ورغم أهمية الدور الذي لعبته قوات الصحوة التي شكلتها قبائل السنة في إلحاق الهزيمة العسكرية والاجتماعية بتنظيم القاعدة، إلا أن هذه القبائل لم تجن أي ثمار تعزز من التمثيل السياسي للقوى السنية في مؤسسات النظام، سواء السياسية أو الأمنية أو البيروقراطية. ورغم ما أُعلن عن دمج قوات الصحوة في المؤسسات الأمنية العراقية إلا أن ذلك تعثر، وانتهى الأمر بتفكك الصحوات واتجاه العديد من أفرادها للانضمام للجماعات المسلحة على تنوعها.
وقد كان ذلك كفيلا بتفجر العديد من الأزمات السياسية التي لعبت دورا مهما من ناحية في استمرار العنف المجتمعي بصوره المتعددة في العراق، ومن ناحية ثانية في تعدد مستويات الصراع بين الميليشيات المسلحة في المدن العراقية والتي كانت تتصارع على الثروة والسلطة وعلى السيطرة على الأرض، ومن ناحية ثالثة في تعزيز الطبيعة الطائفية لنظام الحكم في العراق وتأكيد طابعه الشيعي، وما ارتبط بذلك من تزايد النفوذ الإيراني في العراق سياسيا وأمنيا واقتصاديا.
ومن ثم، يصبح من المتوقع أن يشهد العراق خلال العام 2018 تجدد هذه الأزمات بصيغ مختلفة، مع عودة حديث القوى السنية عن إنشاء الأقاليم في العراق باعتبار ذلك المخرج الذي يمكن من خلاله أن تحصل القوى السنية على تمثيل أفضل، وهو ما سيؤثر على شكل الدولة العراقية في المستقبل والذي لا يوجد اتفاق عليه بين القوى الرئيسية. مثل هذا السيناريو سيكون له تأثيره بالطبع على مخرجات الانتخابات البرلمانية في حال انعقادها، والتي من غير المستبعد أن يكون تشكيل الحكومة العراقية في الفترة التالية على إعلان نتائجها عملية معقدة قد تستغرق سنة كما حدث في الفترة التالية على انتخابات 2009.
فقد مثلت الحرب ضد تنظيم داعش مخرجا مؤقتا للعراق من أزمات بنيوية ارتبطت بتشكل الدولة الجديدة في الفترة التالية على عام 2003، حيث نجح التنظيم في توحيد صفوف القوى العراقية على اختلافها وراء هدف واحد وهو الحاق الهزيمة العسكرية بالتنظيم، وذلك رغم كونها أطرافا في تلك الأزمات البنيوية التي لم تتمكن الحكومات العراقية الدائمة التي تشكلت منذ عام 2006 من تبني سياسات تعالج هذه الأزمات بصورة فعالة وفي أحيان كثيرة عملت على تعميق بعض تلك الأزمات. ومع تحقق هدف الانتصار العسكري على التنظيم، ستعود لمواجهة الأزمات البنيوية وستكون كيفية إدارة القوى الثلاث الرئيسية الشيعية والسنية والكردية لعلاقاتها دور مهم في تحديد مستوى الاستقرار الذي سيتمتع به العراق خلال الفترة المقبلة.