قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2018-1-1
د. محمد السعيد إدريس

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

إن المسار المحتمل لمستقبل الأزمة اللبنانية خلال العام 2018 مرتبط بتفاعلات صراعية حادة في الشرق الأوسط، إذ إن هذه الأزمة التي ليست في حقيقتها أزمة لبنانية بل هي "أزمة إقليمية" ممتدة في صميم التطورات البائسة للأزمة السورية، وفي عمق تفاصيل التسوية التي يجري إعدادها بين "سوتشي وجنيف والرياض" دون إغفال لواشنطن وتل أبيب. ناهيك عن ارتباطهما الأكيد بالأزمة اليمنية. ولم يكن ذلك تحولا جديدا فمشكلة لبنان أنه يعيش دائما مأزوما، لكنه عادة ما يتفوق على نفسه في تجاوز أزماته، التي لها عمقها الداخلي المتأصل في فسيفساء تكوينه الديني والطائفي والطبقي، ولها أيضا امتداداتها العربية والإقليمية بسبب خصوصيته الجيو- ستراتيجية لوقعه على التماس مع الكيان الصهيوني من ناحية، وتداخله الجغرافي والاجتماعي ومن ثم السياسي مع سوريا، من ناحية أخرى.  

فقد عاش لبنان نكبة فلسطين منذ بدايتها، واستضاف التدفقات الأولى من لاجئي عام 1948، كما أنه عايش كافة الحروب والأزمات العربية، وكان دائما من يدفع أثمانها. فالحرب الأهلية اللبنانية التي تفجرت عام 1975 كانت شرارتها ودوافعها شديدة الارتباط بالوجود الفدائي الفلسطيني على أرضه، وعدوان إسرائيل على لبنان عام 1982 كان بدافع إنهاء الوجود الفدائي في لبنان، وبانتهاء الوجود الفدائي الفلسطيني بدأ الوجود العسكري والسياسي السوري الذي وضع لبنان دائما على حافة الأزمات.

وكانت جريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق هي ذروة الأزمة في لبنان في عام 2005، والتي قادت بعد ذلك إلى فرض المزيد من تغلغل النفوذ العربي والإقليمي ووقوع لبنان تحت وطأة الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران وخاصة في أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وهو العدوان الذي كان يستهدف بالأساس إنهاء الوجود الإيراني في لبنان عن طريق استهداف تدمير "حزب الله" وتفكيك التحالف السوري- الإيراني.

هذا التاريخ الطويل من علاقة لبنان بالأزمات دخل مرحلة جديدة مع تفجر الأزمة السورية وتورط العديد من القوى الإقليمية والدولية فيها، وكان من بينها "حزب الله" متحالفا مع إيران للقتال إلى جانب الجيش والنظام السوري ضد منظمات المعارضة والجماعات الإرهابية المدعومة من أطراف عربية وأخرى إقليمية ودولية. وكانت للتطورات الأخيرة التي شهدتها هذه الأزمة أثارها المباشرة على تفجير أحدث أزمات لبنان التي فجرتها الاستقالة المثيرة والدرامية وغير المسبوقة لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من العاصمة السعودية الرياض وعبر أحد القنوات الفضائية السعودية.

أولا: استقالة الحريري بين السبب والنتيجة

أعلن سعد الحريري في 4 نوفمبر 2017 استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية "على الهواء" صبيحة زيارة ثانية للمملكة العربية السعودية عقب زيارة سابقة قبل أيام قليلة ما أعطى انطباعا بأن زيارته الثانية كانت استدعاء من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. لكن الملفت في هذه الاستقالة أنها ركزت على انتقاد إيران و"حزب الله" ومشيرا إلى أنه مستهدف بالاغتيال. ففي بيان الاستقالة الذي تلاه الحريري كانت إيران محور اتهام مباشر ليس فقط بسبب تدخلاتها في لبنان بل وأيضا بسبب تدخلاتها وتهديداتها لدول عربية، مشيرا إلى أن "إيران لا تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار، يشهد على ذلك تدخلاتها في البلاد العربية، يدفعها في ذلك حقد دفين على الأمة العربية، وللأسف وجدت من أبنائنا من يضع يده بيدها، وهي تسعى إلى خطف لبنان من محيطه العربي". وتابع: "أريد أن أقول لإيران واتباعها إنهم خاسرون، وستقطع الأيادي التي امتدت إلى الدول العربية بالسوء".

فقد كانت الاستقالة غريبة، وكانت المبررات أكثر غرابة حيث يستقيل رئيس الحكومة من دولة أخرى، وأن يكون سبب الاستقالة تدخلات في شئون بلاده، لذلك كان تعليق وزير العدل اللبناني سليم جريصاتي أن استقالة الحريري "ملتبسة ومرتبكة ومشبوهة في أربعة: التوقيت والمكان والوسيلة والمضمون".

وإذا كانت إيران قد عبرت عن أسفها لاستقالة الحريري واعتبرت أن اتهاماته "غير حقيقية وبلا أساس وصادرة عن الصهاينة والأمريكيين لإثارة التوتر في لبنان والمنطقة"، فإن إسرائيل وعلى لسان رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو كانت حريصة على تلقف الحدث وتوظيفه لصالح صراعها مع إيران. فقد أعلن نتنياهو أن "استقالة الحريري والأسباب التي أعلنها يجب أن تشكل جرس إنذار للعالم بمواجهة الأطماع الإيرانية"، واتهم إيران بأنها "تسعى إلى تحويل سوريا إلى لبنان ثان، وأن عدوانها لا يهدد إسرائيل فحسب بل الشرق الأوسط برمته".

هذا الربط الإسرائيلي بين استقالة الحريري والدور الإيراني في سوريا بمشاركة "حزب الله" فرض تساؤلا مهما بخصوص هذه الاستقالة من ناحية التوقيت ومن ناحية المكان. فالاستقالة جاءت في أعقاب حسم المعارك ضد تنظيم "داعش" في سوريا من جانب تحالف "روسيا- إيران- حزب الله- النظام السوري" وتوازن القوى الذي فرضه هذا التحالف في سوريا من منظور القوى الإقليمية الأخرى الرافضة للقبول بهذه المعادلة الجديدة للقوة خاصة: إسرائيل والسعودية. كما أن الاستقالة جاءت متزامنة مع العدوان الصاروخي الذي تعرض له مطار الملك خالد في العاصمة السعودية الرياض من جانب الميليشيات الحوثية في اليمن واتهام السعودية لكل من "حزب الله" وإيران بالمسئولية عن إمداد الحوثيين بهذا النوع من الصواريخ الباليسيتة المتطورة.

أما من ناحية المكان فالاستقالة أُعلنت من الرياض وعبر شاشات التليفزيون وليس بالطرق الدستورية المتبعة. لذلك كان التساؤل المهم بهذا الخصوص: هل هذه الاستقالة نتيجة لتراكمات الصراع في سوريا واليمن ورفض لتنامي الوجود العسكري والنفوذ السياسي الإيراني في سوريا واليمن، أما أن هذه الاستقالة سبب لتفجير أزمة في مواجهة إيران و"حزب الله". بمعنى هل الاستقالة جاءت رفضا لتداعيات الأزمات الإقليمية والدور الإيراني البارز فيها، أم أنها مدخل لتفجير أزمة في لبنان ضد "حزب الله" وإيران، خاصة بعد الإصرار السعودي على الربط بين عدول الحريري عن استقالته وحل الأزمة في لبنان وبين مطلب "نزع سلاح حزب الله"، حيث أكد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي أن "لبنان لن ينعم بالسلام إلا بنزع سلاح حزب الله.. وأن يتخلى عن سلاحه ويصبح حزبا سياسيا"، مشيراً إلى أن "حزب الله كان يضع العراقيل في طريق حكومة الحريري، وأنه اختطف النظام المصرفي اللبناني، ويقوم بتهريب الأموال والمخدرات، وتدخل في البحرين واليمن وسوريا وهذا غير مقبول".

الأرجح أن الرئيس اللبناني ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله فهما الاستقالة على أنها أداة مدبرة لتفجير أزمة في لبنان، وفهما قبلها أن سعد الحريري مختطف في السعودية، وأن الاستقالة "مملاة عليه" من جانب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وأن الحريري مختطف أو على الأقل "إقامته محددة" في السعودية، ومن ثم جاءت إدارتهما للأزمة من منطلق "تفويت الفرصة" على السعودية واستهدافها تفجير أزمة سياسية في لبنان من خلال منهاجية تهدئة ردود الفعل واعتبار الاستقالة "كأن لم تكن" نظرا لأنها لم تصدر عبر المسارات الدستورية، وتركيز الجهود، عبر التواصل مع أطراف عربية ودولية بارزة، من أجل "الإفراج عن رئيس الحكومة وعودته إلى لبنان"، ثم بعدها يمكن البحث في شأن استقالته من عدمها.

فقد تواصل الرئيس اللبناني مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي أكد "وقوف مصر إلى جانب لبنان ودعمها لسيادته وسلامة أراضيه ووحدة شعبه"، ومع ملك الأردن عبد الله الثاني، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وغيرهم ونجح في تعبئة رأي عام عربي ودولي رافض لاحتجاز الحريري في الرياض والمطالبة بعودته إلى بلاده. أما السيد حسن نصر الله فقد دعا إلى الهدوء وعدم الاستعجال في التحليلات، وأفاد أن "خبر الاستقالة صدر عن قناة العربية ببيان مسجل حصرا يعطي استنتاجات أن الاستقالة كانت قررا سعوديا أجبر الحريري عليه". وقال نصرالله "نتوقف عند شكل تقديم الاستقالة وما فيه من دلالات ترتبط بسيادة لبنان وكرامته وكرامة رئيس الحكومة نفسه". واعتبر أن شكل تقديم الاستقالة "يكشف عن طريقة وأسلوب التدخل السعودي في الشئون اللبنانية، مع أنها تقوم بالحروب على الآخرين لاتهامهم بالتدخل بالشئون العربية". وحول مضمون الاستقالة قال "لن نعلق ولن نناقش المضمون السياسي فيه، رغم وجود اتهامات قاسية، ونحن نعتقد أن النص نص سعودي، وإذا ما أردنا النقاش فيجب أن يكون السعودي هو الطرف بالنقاش وليس الحريري".

ثانيا: عودة الحريري واحتواء الأزمة

نجحت الوساطة الفرنسية المباشرة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون الذي زار الرياض والتقى بولي العهد السعودي، كما زار وزير الخارجية الفرنسي الرياض هو الآخر مطالبين بسماح السعودية لسعد الحريري بالسفر إلى فرنسا. وفعلا سُمح له بذلك، ولكن دون اصطحاب أسرته، وهو ما اعتبر "إفراجا مشروطا". وبوصول سعد الحريري إلى لبنان عبر مروره بقبرص ولقائه هناك بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يمكن القول إن هذه العودة نزعت فتيل الأزمة، خاصة أنه بعد عودته رفع شعار "التريث" في البحث في الاستقالة، أي إما تفعيلها وتقديمها دستوريا إلى الرئيس اللبناني وإما تجميدها والتعاطي مع مشروع وطني للتسوية. رغم ذلك يبقى التخوف حول مستقبل الأزمة الذي مازال محفوفا بالخطر على ضوء حقيقة أن هذه الأزمة التي ليست في حقيقتها أزمة لبنانية بل هي "أزمة إقليمية" ممتدة.

بهذا المعنى يمكن القول إن "الأزمة اللبنانية مازالت في بدايتها"، أو بالأحرى "مازالت في طورها الأول" طالما أنها أزمة التنازع السعودي – الإيراني والإسرائيلي – الإيراني حول "توازن القوى" في اليمن ولبنان وسوريا. فطالما ظل هذا التوازن "غير متفق عليه" بين الرياض وطهران وتل أبيب إضافة بالطبع إلى واشنطن وموسكو فإن الأزمة اللبنانية ستبقى ممتدة وقابلة للانفجار، وما ورد على لسان كل من بنيامين نتنياهو والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي يؤكد ذلك. فقد حرص نتنياهو أن ينقل فحوى مضمون حديثه التليفوني مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الأزمة اللبنانية. وفي هذا التوضيح، كشف نتنياهو عن موقفه من تطورات الأزمة اللبنانية. وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس الفرنسي حريصا على تأكيد دعمه لـ"استقرار الوضع في لبنان" كان نتنياهو حريصا هو الآخر على أن يعلن رفضه لرؤية الرئيس الفرنسي ويكشف أن موقف الرئيس الفرنسي للاستقرار في لبنان "ليس هو الاستقرار الذي ترضى عنه تل أبيب، ما لم تؤخذ بالاعتبار مصالح إسرائيل وتحديدا ما يتعلق بسلاح حزب الله". إسرائيل تطالب بـ"نزع سلاح حزب الله". وترفض أي استقرار لبناني قائم على أساس تفوق حزب الله وامتلاكه أداة ردع قوية تهدد أمنها. هذا يعني أن إسرائيل سترفض أن تنتهي أزمة لبنان دون نزع سلاح حزب الله، وهذا ما أكده نتنياهو في حديثه مع الرئيس الفرنسي، وما أكد أنه سينقله أيضا إلى وزراء دول الاتحاد الأوروبي.

كما أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان صعَّد المواجهة مع حزب الله وإيران إلى أعلى مستوياتها في حديثه مع الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" الذي التقاه  في الرياض. فعلى الرغم من تظاهره بالحرص على عدم التعرض لـ "أزمة استقالة رئيس الوزراء اللبناني التي أعلنت من الرياض"، إلا أن محمد بن سلمان أكد أن الحريري "لن يستمر في منح غطاء لحزب الله في الحكومة اللبنانية" وهذا يعني أمرين؛ أولهما أن يرفض الحريري ترؤس "حكومة يشارك فيها حزب الله". وثانيهما الربط بين قبول الحريري برئاسة حكومة يشارك فيها حزب الله بموافقة الحزب على الشروط التي أعلنها الحريري لذلك وهي: التزام لبنان بخيار "النأي بالنفس" عن كل الحروب والصراعات والنزاعات الإقليمية، والابتعاد عن كل ما يسيء إلى الاستقرار الداخلي والعلاقات الأخوية مع الأشقاء العرب.

السعودية ترى أن "التسوية" التي كان قد تم التوافق عليها قبل عام وكانت نتيجتها تشكيل حكومة سعد الحريري يجب أن تسقط لأنها "أمَّنت غطاء شرعياً لسلاح غير شرعي" (والمقصود هو سلاح حزب الله)، وبناء عليه فإن الدفع من جانب السعودية لفرض خيار الاستقالة على سعد الحريري كان هدفه هو "إسقاط تلك التسوية"، ومن ثم فإن أي حل للأزمة اللبنانية وفقا لهذه الرؤية السعودية "يجب ألا يكون بمشاركة حزب الله في الحكومة"، لفرض حالة "اللاشرعية على حزب الله" ومن ثم على سلاح الحزب، وفتح الأزمة على الخيارات الأسوأ ومن بينها الحرب على حزب الله من جانب إسرائيل، أي أن المطلوب هو "خلق حالة لا شرعية لحزب الله ولسلاح حزب الله" وأن الطريق إلى ذلك هو تشكيل حكومة جديدة لا يشارك فيها حزب الله، أو أن يقبل الحزب بتسليم أسلحته إلى الجيش اللبناني، وأن يتوقف عن التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية. ولم يبق بالتالي إلا مطلب "إنهاء علاقة الحزب مع إيران" ما يعني إنهاء وجود الحزب نهائيا.

وإذا ربطنا بين هذه المطالب من ناحية، وبين تفاقم الأزمة السعودية في اليمن من ناحية ثانية، وتفاقم الأزمة الإسرائيلية– السعودية في سوريا من ناحية ثالثة، وتفاقم الأزمة السعودية- الإيرانية بعد وصف محمد بن سلمان للسيد على خامنئي المرشد الأعلى لإيران في حديثه المشار إليه مع توماس فريدمان بأنه "هتلر الشرق الأوسط" من ناحية رابعة، فإن المحصلة هي أن الأزمة ممتدة وأن لبنان في خطر، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار الأجواء الساخنة التي فرضت على اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد بمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة في 19 نوفمبر 2017، ودخول روسيا في عمق الأزمة داعمة لموقف "حزب الله".

ففي الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية بناء على طلب سعودي تحدث وزير خارجية السعودية عادل الجبير أمام الجلسة الافتتاحية وقال إن السعودية "لن تقف مكتوفة الأيدي أمام العدوان الإيراني السافر، ولن تتوانى في الدفاع عن نفسها والحفاظ على أمن وسلامة شعبها". كما دعا وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة إلى "ضرورة أن يتحمل لبنان المسئولية الكاملة عن أعمال جماعة حزب الله (الإرهابي)، وما يقوم به من اعتداءات في الدول المجاورة في العراق وسوريا واليمن والبحرين". أما البيان الصادر عن الاجتماع فقد دان إطلاق صاروخ باليستي إيراني الصنع من الأراضي اليمنية على مدينة الرياض، واعتبر ذلك "عدوانا صارخا ضد السعودية وتهديدا للأمن القومي العربي"، وأكد على حق السعودية في الدفاع الشرعي عن النفس.

واعتبر القرار في ثلاثة من بنوده أن "حزب الله" الشريك في الحكومة هو "إرهابي"، وحمله مسئولية دعم الإرهاب في الدول العربية، ما دعا السفير اللبناني انطوان عزام إلى تسجيل اعتراضه على هذا التصنيف. وعندما حاول أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية الذي زار بيروت عقب انتهاء الاجتماع تخفيف وطأة ما ورد في البيان من اتهامات وتهديدات للبنان، وأكد "حرص الدول العربية على سيادة لبنان واستقلاله" كان رد الرئيس اللبناني العماد ميشال عون قويا ورافضا ما جاء بحق لبنان من اتهامات وأبلغ أبو الغيط أن "لبنان ليس مسئولا عن الصراعات العربية أو الإقليمية التي تشهدها بعض الدول العربية، وهو لم يعتد على أحد، ولا يجوز بالتالي أن يدفع ثمن هذه الصراعات من استقراره الأمني والسياسي، لاسيما أنه دعا دائما إلى التضامن العربي ونبذ الخلافات ووحدة الصف".

كما أكد أبوالغيط أن "لبنان واجه الاعتداءات الإسرائيلية التي تعرض لها منذ عام 1978 وحتى عام 2006 واستطاع تحرير أرضه، فيما الاستهداف الإسرائيلي لا يزال مستمرا، ومن حق اللبنانيين أن يقاوموه ويحبطوا مخططاته بكل الوسائل المتاحة". واعتبر الرئيس ميشال عون أن "لبنان لن يقبل الإيحاء بأن الحكومة اللبنانية شريكة في أعمال إرهابية، وأن الموقف الذي اتخذه مندوب لبنان لدى جامعة الدول العربية يعبر عن إرادة وطنية جامعة".

وجاءت المواقف الروسية التي عبر عنها السفير الروسي في بيروت، والاتصالات التي أجرتها الخارجية الروسية مع الرئيس ميشال عون ورئيس البرلمان نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل لتكشف أحد أهم أبعاد الأزمة وهو ما يتعلق بوجود "حزب الله" شريكا في الحكومة في ظل تصنيفه "إرهابيا" في بيانات جامعة الدول العربية. فقد أطلق السفير الروسي في لبنان، إلكسندر زاسبيكن، سلسلة مواقف عالية السقف تتناسب مع حجم وعمق النفوذ الروسي المتصاعد في المنطقة خاصة في سوريا وانعكاسات ذلك على لبنان، وأيضا للشراكة التي ربطت بين روسيا وكل من إيران و"حزب الله" في سوريا. كان من بين تلك المواقف التمسك باستقرار لبنان، ورفض التدخل الخارجي في شئونه، والمطالبة بعودة الحريري. والأبرز كان رفض زسابيكين الحديث عن حكومة مقبلة بدون مشاركة "حزب الله" ردا على المطلب السعودي بهذا الخصوص، مع تلميح بأن من أعطى الضوء الأخضر للسعوديين لطرح هذا المطلب هم الأمريكيون، وأن استقالة الحريري كانت تأمل حدوث تطورات دراماتيكية في الداخل اللبناني على الصعيدين الأمني والاقتصادي بما يدفع نحو تدويل الأزمة، ناهيك عن خلق فرص لتدخل عسكري إسرائيلي سبق أن حذر منه وزير الدفاع الروسي في زيارته لتل أبيب حيث كان واضحا في إبلاغه الإسرائيليين بموقف موسكو الرافض لأي تصعيد عسكري أو شن حرب ضد سوريا أو لبنان، وأن "استقرار المنطقة هو الأساس بالنسبة لموسكو بعد الهزيمة التي تعرضت لها التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق ولبنان".

ثالثا: السيناريوهات المحتملة للأزمة اللبنانية

على الرغم من كل تلك المخاطر والتحذيرات فإن عودة الحريري إلى لبنان ثم إعلانه التريث في النظر بشأن استقالته في بيانه في 22 نوفمبر 2017، ثم وضعه إطارا مقبولا كشرط لإنهاء الأزمة وهو "الالتزام بمبدأ النأي بالنفس" عن أزمات المنطقة والتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية مع تجميد مطلب إبعاد "حزب الله" عن المشاركة في الحكومة، نجح فعلاً في "نزع فتيل الأزمة" وأتاح لرئيس الجمهورية من ناحية، ولرئيس البرلمان من ناحية ثانية، وبدعم وتهدئة من "حزب الله"، فرصة البحث في خيارات أو سيناريوهات متعددة لاحتواء الأزمة.

فمن خلال قراءته لخريطة توازن القوى داخل لبنان ومجمل تطورات الأزمة يبدو أن سعد الحريري، وربما القوى الإقليمية الداعية لذلك، ارتأت مرحليا تجميد مطلب نزع سلاح "حزب الله" كشرط لسحب استقالته التي تريث في تقديمها لرئيس الجمهورية عقب وصوله إلى بيروت، وحصر شروطه في مطلبين: التزام "حزب الله" بسياسة "النأي بالنفس" عمليا عن كل الأزمات الإقليمية، والامتناع عن كل ما يسيء إلى علاقات لبنان بالدول العربية الشقيقة.

هذا الموقف أُعيد التأكيد عليه في البيان الصادر عن الاجتماع المشترك لكل من الكتلة النيابية لحزب تيار المستقبل، والمكتب السياسي للحزب، والمكتب التنفيذي للتيار برئاسة سعد الحريري. كما أعاد الحريري إعلانه في لقائه مع المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى بعبارة: "تحييد لبنان وإبعاده عن الحراق والحروب بالمنطقة وتطبيق سياسة النأي بالنفس عمليا بالممارسات والسياسات المتبعة والالتزام باتفاق الطائف".

ويبدو أن أطراف الشراكة الأخرى في ترويكا مع سعد الحريري وتيار المستقبل: الرئيس ميشال عون ومعه التيار الوطني الحر من ناحية، وكل من "حزب الله" و"حركة أمل" من ناحية أخرى، توافقا على هذه الصيغة للوصول إلى "بر الأمان" بالأزمة، والحيلولة دون الوقوع في خيار "الفراغ السياسي" أو "حكومة تسيير الأعمال". وكان واضحاً أن "حزب الله" مع هذا التوجه الرامي إلى "تمرير الأزمة" لعدم تمكين من ورائها من تحقيق أهدافهم. من هنا كان التظاهر بـ"الليونة" من دون تفريط في الثوابت، فالحزب يدرك أنه "في موقف القوة"، لكنه يدرك أيضا أنه "مستهدف لهذا السبب". لذلك يتجنب التظاهر بالقوة أو التلويح بها، ويتظاهر بالاستعداد لقبول تنازلات مع نفي الاتهامات. خطاب السيد حسن نصر الله الذي ألقاه  في 20 نوفمبر 2017 مؤشر مهم لذلك.

فقد أعلن نصر الله عن قرب الانسحاب من العراق بعد اكتمال النصر على عصابات "داعش"، ونفى أي تدخل في اليمن، كما نفى "بشكل قاطع" أي علاقة لحزب الله بالصاروخ الباليستي الذي ضرب الرياض انطلاقا من اليمن، ونفى إرسال أي أسلحة لأي طرف خارج لبنان باستثناء السلاح الذي يقاتل به حزب الله "عصابات الإرهاب" في سوريا والسلاح الذي أرسل إلى فلسطين المحتلة. وكان حريصا على أن ينوه بنوعية هذا السلاح في رسالة إلى الأمريكيين بقوله "لم نرسل لا إلى اليمن أو البحرين أو الكويت أو العراق لا صواريخ باليستية، ولا أسلحة متطورة، ولا حتى مسدسا. هناك بلدان أرسلنا أسلحة إليها: فلسطين المحتلة التي لنا شرف نقل صواريخ إليها، صواريخ الكورينت (الأمريكية) إلى قطاع غزة، ومن يديننا هو مدان بتقصيره، وفي سوريا السلاح الذي نقاتل به".

فضلا عن ذلك كان حسن نصر الله حريصاً على أن يدين من وصفوا حزب الله بالإرهاب منوها إلى بيان وزراء الخارجية العرب، ومشيراً إلى أن حزب الله هو وإيران من قاتلا الإرهاب، وانتصرا عليه، ومشيرا كذلك إلى الصمت العربي لما وصفه بالجرائم التي ترتكب ضد الشعب اليمني الذي يقصف يوميا بالطائرات دون صوت عربي رافض، لكن الأهم هو تأكيده أن الاتهام بالإرهاب لإيران وحزب الله اتهام أمريكي بالأساس.

كلام نصر الله كان يرمي في اتجاه التهدئة مع الحريري ومطلب التوقف عن التدخل في شئون الآخرين، مع وضع الأزمة في حدودها الحقيقية، من وجهة نظره، وهي أنها "معركة أمريكا مع من يفشلون المشروع الأمريكي". ومن هنا جاء حرص الرئيس اللبناني على أن يؤكد أثناء زيارته لإيطاليا أن "الأزمة الأخيرة باتت وراءنا، وأن رئيس الحكومة سعد الحريري سيواصل مسيرة قيادة لبنان" معتبرا أن "مستقبل الشرق الأوسط سيكون انطلاقا من بيروت التي تشكل نموذجا للعيش معا في المنطقة". ففي مقابلة له مع صحيفة "لاستامبا" الإيطالية خلال زيارته التي بدأها لروما في 29 نوفمبر 2017 حرص ميشال عون على تأكيد أن "الأزمة ستجد لها حلا نهائيا في بضعة أيام، وأن كل الأفرقاء اللبنانيين منحوه ثقتهم لأجل ذلك" ومقدرا "وقوف كل العالم بأجمعه إلى جانب لبنان". لكنه كان حريصا على تأكيد أمرين لهما علاقة مباشرة بالأزمة ومستقبلها: أولهما، أن سعد الحريري سيبقى رئيسا للحكومة، قائلا "انتهينا للتو من الاستشارات التي قمنا بها مع مختلف القوى السياسية داخل الحكومة وخارجها، وهناك ملء الثقة به. ثانيهما، رفض أي اتهام لحزب الله بالإرهاب والتأكيد أنه "قوة مقاومة"، قائلا بهذا الخصوص: "حزب الله حارب إرهابيي داعش في لبنان وخارجه، وعندما تنتهي الحرب ضد الإرهاب سيعود مقاتلوه إلى البلاد"، ومؤكدا أن "حزب الله يشكل قوة مقاومة لبنانية نشأت بوجه الاعتداءات الإسرائيلية، وهي مقاومة شعبية"، وموضحا أن "لبنان لم يبدأ الحرب ضد أحد أبدا، وأن اللبنانيين يعتبرون حزب الله قوة دفاع، وليس حزبا إرهابيا".

وفق هذه التوضيحات يمكن القول إن الأزمة أمامها ثلاثة سيناريوهات مع استبعاد سيناريو استقالة حكومة سعد الحريري وإخراج الحريري من معادلة تشكيل الحكومة:

السيناريو الأول: أن يقدم الحريري رسميا استقالة حكومته ويقبل فورا مسئولية تشكيل حكومة جديدة. هذا السيناريو ضعيف على ضوء اقتراب موعد إجراء الانتخابات البرلمانية بعد خمسة أشهر (مايو 2018)، ما يعني أن كل القوى الشريكة في الحكومة بما فيها سعد الحريري ستكون مشغولة من الآن بالمنافسة الانتخابية، ولن يتحمل لبنان فراغا حكوميا حيث من المستبعد تشكيل حكومة جديدة بتوافقات جديدة في هذه الظروف.

السيناريو الثاني: إجراء تعديل في الحكومة على ضوء ما تكشف من خلافات بين أعضائها في مرحلة تفجر أزمة استقالة سعد الحريري، خاصة بين الحريري ووزراء "القوات اللبنانية الثلاثة"، أو بين وزير الخارجية جبران باسيل ووزراء من التيار الوطني الحر. هذا الاحتمال هو الآخر احتمال ضعيف على حد قول نبيه بري رئيس البرلمان: "إن الخوض في تعديل كهذا، إذا صح الحديث عنه، يعني أكثر من نصف نصاب الثلث المعطل لإسقاط الحكومة (11 وزيرا) بل يكاد يقترب من ثلث أعضاء الحكومة، ما يعني الذهاب إلى حكومة جديدة، وبيان وزاري جديد، وثقة جديدة من مجلس النواب وكل هذا يبدو مستحيلا في هذه الظروف المعقدة واقتراب موعد الانتخابات البرلمانية".

السيناريو الثالث: تعويم الحكومة الحالية برئاسة سعد الحريري وفق التوازن الذي تمثله وهو التوازن الذي لا يسع البلاد الاستغناء عنه في الوقت الحاضر إلى حين الوصول إلى الانتخابات البرلمانية.

يبدو أن هذا السيناريو الأخير سيبقى السيناريو الأرجح، كما أن الطموح إلى الالتزام بمبدأ "النأي بالنفس" سيبقى محكوما بخلاف ممتد لإجابة السؤال الصعب وهو: أين ينأى لبنان بنفسه وأين لا يسعه أن يفعل؟

في ضوء معادلة توازن القوى، وظروف الصراعات الإقليمية وخاصة مسار تسوية الأزمة في سوريا وصعود أزمة القدس ومن ثم الخطر الإسرائيلي في معادلة الأمن وفي القلب منها دور "حزب الله"، يمكن القول إن لبنان لا يسعه أن ينأى بنفسه لا عن سوريا ولا عن إسرائيل، وأن خيار النأي بالنفس يبقى ممكنا شرط المعاملة بالمثل: من الداخل إلى الداخل، ومن الخارج إلى الداخل وبالعكس.

فلن يكون حزب الله مستعدا لوقف حملاته الإعلامية على السعودية ما لم توقف حملاتها عليه هي بدورها واتهامه بـ"الإرهاب". وما يقال عن علاقة مميزة تربط رئيس الحكومة سعد الحريري بالسعودية والأسرة المالكة يصح على علاقة حزب الله بسوريا ورئيس نظامها، وهي معادلة معقدة ستظل مؤثرة على فرص الالتزام بهذا المبدأ وتأمين أداء الحكومة عن أزمات جديدة، لكن كل هذا لا يعني أن أزمة لبنان التي أمكن احتواؤها ستبقى بمأمن عن تداعيات الصراعات الإقليمية وبالتحديد: في فلسطين وفي اليمن وفي سوريا، وقبل هذا كله مجرى تفاعلات العلاقات السعودية- الإيرانية بين الصراع أو التنافس أو التعاون.