د. زياد عقل

خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

من المتعارف عليه أن الديمقراطيات تنشأ من أسفل وليس من أعلى، فلا تتحقق الديمقراطية بقرار فوقي من الدولة يفرض على الشعب عملية سياسية، ولكن الديمقراطية الحقيقة هي تلك التي تنشأ من خلال تعارض الرؤى ومحاولات التنسيق بين اختلاف الآراء. وقد يكون هذا المبدأ غير متحقق بدرجة كافية على المستوى السياسي الأعم في مصر، وهو ما تعكسه نسب المشاركة القليلة في الفعاليات السياسية، ولكنه مما لا شك فيه يتحقق بشكل ما في انتخابات الأندية، التي لا تقتصر فقط على الصراعات بين النخب في سياق تشكيل مجالس الإدارة في مختلف الأندية، ولكنها تمتد لتحمل مغزى ثقافيًا وسياسيًا في طيات صراعاتها الانتخابية.

ولعل نقطة البداية في المشهد الذي نتابعه الآن في انتخابات الأندية كانت إقرار قانون الرياضة الجديد، القانون رقم 71 لسنة 2017، والذي نُشر في الجريدة الرسمية في الأول من يونيو 2017 بعد تصديق رئيس الجمهورية عليه، وهو القانون الذي جاء بالأساس ليعيد صياغة العلاقة بين الأندية والدولة، ويصنع نوعًا من إعادة ترتيب الأوراق فيما يتعلق بتفاعلات الهيئات الرياضية وأُطر موازين القوى بين الكيانات الرياضية والجهات الإدارية المسئولة عنها. وفي مرحلة ما قبل صدور القانون الحالي، كانت الرياضة والأندية في مصر تُدار بموجب القانون رقم 77 لسنة 1975، وهو القانون الذي كان يضع سلطة مطلقة على الأندية لوزير الشباب والرياضة، فكان يحق للوزير، بموجب هذا القانون، تعيين أعضاء في مجالس إدارات الأندية، بل وحل مجالس إدارات الأندية والاتحادات الرياضية في بعض الأحيان عند مخالفة لوائح الدولة المنظمة للرياضة أو لعمل الأندية.

وقد جاء في البنود الأولى من قانون الرياضة أن على الأندية والهيئات الرياضية أن توفق من أوضاعها وفقًا لأحكام القانون الجديد، حيث جاء في المادة الثانية من القانون أنه: "على الهيئات الرياضية القائمة وقت العمل بهذا القانون توفيق أوضاعها دون رسم طبقا لأحكام القانون المرافق خلال سنة من تاريخ العمل به وإلا اعتبرت الهيئة منحلة بقوة القانون". ثم جاءت المادة الخامسة من القانون لكي تنص على أنه: "مع عدم الإخلال بالاختصاصات المخولة لبعض الهيئات الرياضية، يصدر الوزير المختص القرارات اللازمة لتنفيذ هذا القانون خلال مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ العمل به، ويستمر العمل باللوائح والقرارات القائمة فيما لا يتعارض مع أحكام هذا القانون"، وهو ما فعلته وزارة الشباب والرياضة في الصيف الماضي عندما أصدرت اللائحة الاسترشادية، وفتحت الباب للجمعيات العمومية للأندية لكتابة لائحاتها الخاصة والتصويت عليها أو الالتزام بلائحة الوزارة.

وبالتالي باتت الأندية الرياضية في مصر مجبرة على إجراء انتخابات جديدة وفقا لما جاء باللوائح الجديدة الخاصة بتوفيق الأوضاع القانونية للأندية، وهو ما يعني أن ما نشهده في المرحلة الحالية من انتخابات للأندية، لم تتمخض عن الدورة الطبيعية للتنافس على الدخول للعمل العام، ولم تنتج عن عملية منظمة من تقييم أعضاء الجمعيات العمومية للأندية لأداء مجالس الإدارة، بل جاءت من خلال تعديل تشريعي من قبل الدولة، وهو ما جعل من انتخابات الأندية في مصر ظاهرة عاكسة لحقيقتين أساسيتين، سواء في المجال السياسي أو الاجتماعي في مصر. الحقيقة الأولى، هي صراعات النخب، والتي تشير بالأساس لإعادة تشكيل تحالفات المجتمع المصري المستمرة منذ عام 2011. الحقيقة الثانية، هي ضعف ثقافة المشاركة في المجال العام، فبالرغم من وجود بعض الاستثناءات فيما يتعلق بنسب المشاركة في انتخابات الأندية الكبرى، كالجزيرة والصيد وهليوبليس والأهلي والزمالك، إلا أن هذه الاستثناءات لا تنطبق على مئات الأندية التي تشكل الغالبية العظمى من الكيانات الرياضية في مصر، وهو ما يشير أيضا إلى أن المشاركة في انتخابات الأندية الكبيرة مشاركة متعلقة بالمكانة الاجتماعية التي توفرها الأندية الكبرى أكثر من تعلقها بثقافة المشاركة في العمل الجمعي العام.

جدلية العمل التطوعي

طالما كان الترشح للعمل في مجالس إدارة الأندية، سواء بموجب القانون السابق أو الحالي، عملاً تطوعيًا لا يتقاضى العضو المنتخب عليه أجرا، وبالتالي تصبح عضوية مجالس إدارة الأندية مناصب لا تُدر دخلا على شاغليها. ولكن واقع الأمر يقول إن الانتخابات عملية مكلفة مادياً، وبالطبع تختلف التكلفة المادية من انتخابات لأخرى وفقا لدرجة المنافسة، وحجم الهيئة الناخبة التي يحاول المرشح الوصول لها، فمن غير الممكن إغفال الملايين التي تُنفق على الدعاية في انتخابات أندية كالأهلي والزمالك، أو المبالغ الأقل التي تُنفق في انتخابات أندية أخرى، وهو ما يطرح التساؤل، لماذا يتكبد المرشحون هذه التكلفة المادية لنيل منصب من المفترض أنه لا يدر دخلا، وما هي المكاسب التي تعود على المرشحين من عضوية مجالس إدارة الأندية، والتي تجعلهم على استعداد لتحمل نفقات مادية تصل في بعض الأحيان للملايين؟

المكسب الأول، يتمثل في حجم القوة الناعمة التي تعطيها رئاسة وعضوية مجالس إدارة الأندية، خاصة الكبرى منها، للفائزين في الانتخابات. وتتمثل القوة الناعمة فيما يتعلق بالأندية في مصر في عدد من الأبعاد، أولها هو المكانة الاجتماعية التي توفرها عضوية مجالس الإدارة، وهي المكانة القائمة على شقين، أولهما، فكرة تحمل المسئولية، وثانيهما هو الاعتراف بشعبية العضو بين أعضاء الجمعية العمومية، أو بين كتلة موحدة تنتمي لنخبة ما وفقا للكدر الاجتماعي أو المهني للنادي.

المكسب الثاني، يتعلق بما تمنحه الأندية من تصريح وفرصة للدخول للمجال العام، سواء من خلال الإعلام، وهو ما ينطبق على الأندية الكبرى، خاصة الجماهيرية منها، أكثر من انطباقه على الأندية الأصغر، أو من خلال التفاعل مع الدولة أو مؤسسات القطاع الخاص بشأن الأمور المتعلقة بالنادي، وهو ما يخلق لعضو مجلس الإدارة شبكة من العلاقات الاجتماعية، والمهنية في بعض الأحيان، التي تجعله يقبل بتحمل عناء العملية الانتخابية.

المكسب الثالث، يتعلق بقدرة عضوية مجالس إدارات الأندية على صنع دور اجتماعي للطبقة المتوسطة، وهي الطبقة التي باتت تواجه العديد من المشكلات بفعل عدد من العوامل، خاصة الاقتصادية منها، وبالتالي أضحت عضوية مجالس إدارة الأندية نوعاً من التعويض عن تراجع القدرة المادية للطبقة المتوسطة في مصر مؤخراً. ولعل هذه النقطة تحديداً تنتطبق على الأندية الصغيرة وغير الجماهيرية، لأن الأندية الكبرى، خاصة الجماهيرية منها تشهد صراعاً نخبويا مختلفاً عن الأندية الأصغر.

صراعات النخب

لعل النقطة الأبرز في صراعات النخب في الأندية الكبرى هو تحالفات رجال الأعمال ونجوم الرياضة في قوائم انتخابات الأندية الكبرى، وهو وضع من الممكن رصده في عدد من الأندية على رأسها ناديي الأهلي والزمالك، ولكن من الصعب أن تخلو أية قائمة انتخابية في أي نادي من الأندية الكبرى من تحالف هاتين الفئتين من النخب الاجتماعية. ويعكس هذا التحالف حقيقتين رئيسيتين. أولاهما، تحول الرياضة لمجال استثماري يدر الملايين من الأموال، خاصة أن هناك العديد من البنود في قانون الرياضة الجديد التي تتيح للأندية فرص الاستثمار الرياضي، وهو ما لم يكن منصوصاً عليه في القانون السابق، وبالتالي بات المجال الرياضي يستوجب وجود، بل ويشهد إقبال، طبقة من رجال الأعمال في أروقة مجالس إدارة الأندية الرياضية. ثانيتهما، أن الدخول للمجال العام للمجتمع المصري في الوقت الحالي بات مقصورا على الشهرة من ناحية، والقدرة المادية من ناحية أخرى. ولعل الدخول للمجال العام الرياضي لا يختلف كثيراً عن الدخول للمجال العام السياسي، حيث إن القدرات المادية والشهرة كانا من العوامل المحددة في انتخابات مجلس النواب الأخيرة.

ولعل مشهد تواجد الطبقة المتوسطة في انتخابات الأندية خير دليل على ما تشهده هذه الطبقة من تراجع في الوقت الحالي، ففي انتخابات الأندية الكبرى، كالأهلي والزمالك والصيد، عادة ما يترشح المنتمون للطبقة الوسطى كمستقلين، ولكنهم لا يدخلون القوائم الانتخابية الأوفر حظاً، إلا أنه يوجد عدد من الاستثناءات، خاصة في الأندية التي تشهد نوعا من التطابق في الانتماء الطبقي لجمعيتها العمومية، كنادي الجزيرة أو هليوبليس على سبيل المثال، حيث يظل هناك عدد من الاعتبارات المعنية بالوجاهة الاجتماعية لمهن بعض المنتمين للطبقة المتوسطة، كالأكاديميين والقضاة على سبيل المثال، وتُمثل تلك الاعتبارات جزءا مهما من رؤية أعضاء الجمعية العمومية للمكانة الاجتماعية لممثليهم. ولكن بشكل عام، توضح انتخابات الأندية تراجع الطبقة المتوسطة عن مواقع القيادة في العمل العام، وإعادة التشكيل الطبقي للنخب المتواجدة في المجال العام الرياضي، وهو تشابه آخر بين المجالين الرياضي والسياسي فيما يتعلق بعلاقات النخب المشكلة لهما.

ثقافة المشاركة

قد تكون ثقافة المشاركة في العمل العام، وثقافة الحرص على التصويت، واحدة من أهم مكاسب انتخابات الأندية في مصر، فقد شهد التصويت على لوائح الأندية، خاصة تلك التي تنتمي لشريحة اجتماعية عُليا، أو الأندية الرياضية الكبرى، إقبالا تصويتياً لا يُستهان به. ولكن على الجانب الآخر، لم تكتمل الجمعيات العمومية للغالبية العظمى من الأندية في مصر، وتم اعتماد اللائحة الاسترشادية التي أقرتها وزارة الشباب والرياضة في أغلب الأندية نظراً لضعف المشاركة، وعندما بدأت الانتخابات في الانعقاد، كان هناك الكثير من الأندية التي حسمت منصب الرئاسة بالتزكية، وعلى رأس هذه الأندية نادي سموحة الذي يرأسه رجل الأعمال فرج عامر.

ولعل ضعف نسب المشارك في الغالبية العظمى من الأندية يطرح عدد من التساؤلات. الأول، هو القيمة الحقيقية للأندية كمجال للتعبير عن الآراء والولاءات والانحيازات، وبالرغم من ضعف نسب المشاركة في بعض الحالات، وغياب التنافسية في حالات أخرى، إلا أن الأندية تظل تمثل مجالا مهما ومساحة حيوية للمشاركة الاجتماعية والتواجد النخبوي في المجتمع المصري. التساؤل الثاني يتعلق ببناء ثقافة المشاركة السياسية من أسفل أو من أعلى، فقد صدر قانون الرياضة من أعلى وكان سببا في مشهد الحراك الحالي الذي تشهده الأندية، ولكن هذا القانون خلق أرضية للجمعيات العمومية للأندية من الممكن أن تكون بيئة مناسبة لنشر ثقافة المشاركة مستقبلا. ويرتبط التساؤل الأخير بالمفهوم الأعم لبناء الديمقراطيات من خلال ممارسات تتعلق بحياة الفرد اليومية، قبل بنائها من خلال قرارات تتعلق بسياسات الدولة. وفي هذا السياق، فإن انتخابات الأندية، مثلها مثل انتخابات المحليات، تقدم نوعا من لا مركزية الديمقراطية.