محمد جمعة

باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

منذ الاستقالة المفاجئة التي تقدّم بها رئيس وزراء لبنان سعد الحريري في الرابع من الشهر الجاري (نوفمبر 2017)، لم تنقطع التوقعات والتنبؤات بأنّ هذا نذير حرب مقبلة. لا سيما وأن تصعيد لغة الخطاب السعودي ضد حزب الله تزامن مع فتح إدارة ترامب لملف المليشيات الإيرانية التي تطالب واشنطن بحلها أو عودتها إلى ديارها، على اعتبار أن الحرب على "دولة داعش" قاربت على نهايتها. أيضًا، قرارات حظر السفر إلى لبنان، واستدعاء بعض دول الخليج لجالياتها من هناك، ربما أثارت قلقًا إضافيًا، حتى بدا الأمر وكأن الحرب باتت مسألة ساعات لا أيام!!

بالتأكيديمكن فهم التصعيد السعودي ضد حزب الله، في سياق تصاعد حمّى العداء بين المملكة العربية السعودية وإيران في المنطقة... فحزب الله  بات يمثل "رأس الحربة" في حروب محور بأكمله، كما أن دوره تخطى لبنان ليشمل كلا من سوريا ومنها إلى العراق. وثمة تقديرات بأنه قد لامس حدود اليمن والبحرين ... لا شك أن هذا أمرٌ مقلق للمملكة التى تنظر منذ عدة سنوات إلى إيران بوصفها العدو والتهديد الأكبر.

مع ذلك ثمة مبالغة (أحسب أنها مقصودة - من قبل البعض على الأقل) في تقييم الحراك والمواقف السعودية الأخيرة من قبل قوى 8 آذار داخل لبنان، هدفها تجييش بيئة هذا الفريق وتعبئتها، وهي مبالغة تسقط من حساباتها أن ثمة لاعبين آخرين، إقليميين ودوليين في لبنان، ليس لهم مصلحة في امتداد ألسنة اللهب إلى لبنان. مصر، على سبيل المثال، قالت كلمتها في هذا المجال. وهناك عواصم عربية وأوربية أخرى تشاركها نفس الموقف، وإن من منطلقات أخرى. ناهيك عن أن استقالة الحريري (حتى بالحسابات السعودية) هي – على الأرجح - جزء من مفاوضات ما بعد الحرب في سوريا، وفي جزء منها على الأقل هي محاولة لقطع الطريق على استثمار حزب الله لانتصاراته في سوريا لتعظيم نفوذه داخل لبنان، وعلى نحو يخدم نظامي طهران ودمشق إقليميا، وبما يُقلق الرياض بشأن المسألة الإيرانية.

وحتى بحسابات واشنطن، ثمة تقديرات ترى أنها ما زالت تقع في "المنطقة الرمادية"؛ فهي لا تريد للبنان أن ينفجر، وفي الوقت ذاته لا تريد لحزب الله أن يبقى بقدراته المكتسبة مؤخرًا، وهي حائرة بين الأولويتين.
إذن، تبقى إسرائيل – ربما وحدها - المعنية بشن حرب ذات يوم على لبنان، لإبعاد تهديد حزب الله، حتى إنها دعمت "جبهة النصرة" في القنيطرة والجولان المحتل، استنادًا لرؤية مفادها أنها أقل سوءًا من حزب الله!! لكن إسرائيل في كل الأحوال ستفعل ذلك، حين تقرر هى فعل ذلك، ووفقًا لتقديراتها وحساباتها هي، وليس وفقًا لحسابات أية عاصمة أخرى، وخدمة لأجندة إسرائيلية، وليس لأية أجندة أخرى.

هذا التحليل ينطلق من تلك الفرضية وهذه الرؤية، ويبحث – بالتأسيس عليها - في احتمالات وممكنات التصعيد الإسرائيلي ضد حزب الله، واتجاهات هذا التصعيد المفترض وسيناريوهاته ومداه الزمني، سواء كان على المسرح اللبناني، أو في داخل الأراضي السورية، أو كليهما معًا.

فى هذا السياق، يمكن القول إنتزايد النفوذ الإيراني في سوريا، وجهودها لتطوير القدرات الاستراتيجية لحزب الله، يمثل تحديًا خطيرًا لصانع القرار الإسرائيلي، ويدفعهم إلى الشعور بالحاجة العاجلة إلى العمل والتحرك الآن، في توقيت تتشكل فيه التسوية المستقبلية في سوريا، حتى تتجنب إسرائيل التعايش مع أمر واقع، تصبح معه الحدود الشمالية لإسرائيل معقلا للمليشيات التابعة لإيران.

وقد تعززت هذه الفكرة مؤخرًا بسبب ما تراه تل أبيب من عدم وجود أي التزام جدي من قِبَل القوى الخارجية الرئيسية النشطة في سوريا ( روسيا، والولايات المتحدة ) بمتطلبات الأمن القومي الإسرائيلي.

أولًا: إسرائيل والصراع في سوريا... "الاستجابة الانتقائية"

قضت الحرب الأهلية في سوريا على النظام الأمني غير الرسمي الذي كان قائمًا بين إسرائيل وسوريا لأكثر من أربعة عقود. فعلى الرغم من حالة "الحرب الرسمية" المستمرة بين البلدين، والدور السوري النشط  كممر إمداد مهم بين إيران وحزب الله، ظلت الحدود بين البلدين هادئة منذ العام 1974، على الرغم من التطورات السياسية والعسكرية المتغيرة. أيضا، كان نظام الأسد ما قبل الحرب الأهلية بمثابة قوة استقرار على مستوى العلاقات بين البلدين بسبب قدرته ودوافعه للإبقاء على حالة من الهدوء في منطقة الحدود بين إسرائيل وسوريا.

وقد ارتكزت هذه الرؤية من قِبَل إسرائيل على ركيزتين: أولهما، أن الأسد حاكم مستقر يمارس سيطرة كاملة على قواته المسلحة. ثانيهما، قدرة إسرائيل على ردع الأسد عن الدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل في مرتفعات الجولان.

لكن اندلاع الحرب الأهلية في سوريا غيرت هذه المعادلة الاستراتيجية وجعلتها غير صالحة بالمعايير والحسابات الإسرائيلية. كذلك كان الأسد يتمتع (قبل الحرب في سوريا) بقدر كبير من السيطرة على قرار حزب الله وسياسته العملياتية بالتنسيق مع إيران، وبما يتفق مع المصالح السورية. لكن الآن، وبالنظر إلى دور إيران وحزب الله المحوري في ضمان بقاء نظام الأسد، يمكن القول إن حالة الاعتماد المتزايد من جانب النظام السوري على كل من إيران وحزب الله، قيدت بشكل حاد من قدرة سوريا ورغبتها على تقييد حرية العمل على أراضيها.

بعبارة أخرى، إن تراجع قدرة سوريا على صناعة القرار، إلى جانب فقدانها السيطرة الفعالة على منطقة الحدود، غيرت من معادلة الردع القديمة لإسرائيل في مواجهة نظام الأسد المتقادم. وفرضت على صانع القرار في تل أبيب ضرورة تغيير المقاربة إزاء "المخاطر" على الجبهة الشمالية.

فى البداية، أبقت إسرائيل على تدخلها في سوريا عند حده الأدنى على النحو الذي يمكن وصفه بالاستراتيجية الانتقائية. والأكثر من ذلك، أن تغير الأوضاع في سوريا، خاصة صعود وهيمنة التنظيمات الجهادية بالقرب من الحدود الإسرائيلية – السورية، سرعان ما أقنع صناع القرار في إسرائيل، بأن إسرائيل لن تكسب الكثير من الانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك، في صراع بين قوتين معاديتين لإسرائيل، سواء بشكل معلن أو بشكل محتمل.

لكن في النهاية، لامست تطورات الحرب عبر الحدود المصالح الأمنية الاستراتيجية لإسرائيل، على النحو الذي ألجأها إلى اعتماد العديد من الإجراءات الاحتوائية.

هذه الجهود الاحتوائية للتهديدات المباشرة القادمة من سوريا، كانت سمة استثنائية على مستويين، عملت فيهما إسرائيل على النقيض من سياسة "التدخل المحدود".

المستوى الأول، شمل تجنبإسرائيل أية محاولات لتحويل الحدود "الإسرائيلية – السورية" مرة أخرى إلى ساحة قتال ضد إسرائيل. وفى هذا السياق، طبقت الحكومة الإسرائيلية سلسلة من الإجراءات كي لا تسمح بظهور أية تهديدات بالقرب من الحدود. مثال شارح على هذا هو سياسة رد الفعل أو الاستجابة الأوتوماتيكية لأي نمط من أنماط انتشار القتال بين النظام وقوات المعارضة المحلية. والأكثر من ذلك أن الأهمية التي عزتها إسرائيل لمواجهة التهديدات المتطورة في منطقة الحدود تجلت في رغبة إسرائيل في المخاطرة والدخول في مواجهة مباشرة مع إيران، لحماية هذا الدافع. والشاهد هنا ما قيل بشأن الإشارات التى تلقفتها تل أبيب في أواخر العام 2014 والتى أفادت بأن طهران بدأت بناء ما أسماه مسئول بارز في الحرس الثوري بـ"حزب الله ثاني في سوريا"، والذي قد يعمل ضد إسرائيل من مرتفعات الجولان.[1]آنذاك، شنت إسرائيل في يناير 2015، ضربة جوية ضد قافلة لعناصر حزب الله والحرس الثوري- لتقتل مسئول إيراني بارز على الأقل- بهدف إرباك تلك الجهود.

كذلك تجلت هذه العقيدة الإسرائيلية في جهود تل أبيب على صعيد زيادة "قوتها الناعمة" في منطقة الحدود، عبر تقديم المساعدات الطبية للمدنيين المصابين ومقاتلي المعارضة أيضا. بل تشير بعض التقارير إلى أن مدى هذا الدعم تجاوز البعد الإنساني، وشمل دعمًا ماليًا ولوجستيًا للميليشيات المحلية بهدف خلق منطقة آمنة على امتداد الحدود الإسرائيلية مع سوريا.

المستوى الثاني، والأوسع، تمثل فيمنع التهديد القادم للوضع الاستراتيجي لإسرائيل في مواجهة أحد أعدائها الرئيسيين وهو حزب الله. فبحسب ما نقلت التقارير الإعلامية في إسرائيل عن  مسئولين بارزين في الجيش الإسرائيلي، نفذت إسرائيل، ومنذ بداية الحرب الأهلية، مئات الضربات الجوية في سوريا ضد قوافل ومستودعات تخزين أسلحة كان من المقرر أن تصل إلى حزب الله في لبنان. هذه السياسة كانت تهدف إلى منع حدوث تقدم كبير على صعيد كفاءة وقدرات حزب الله على إلحاق الدمار بإسرائيل. وذلك في إطار ما وصفه مخططو السياسة العسكريون في إسرائيل بـ"الحرب بين الحروب".

ثانيًا: نقطة التغيير... مقدمات التسوية تتناقض مع المصالح الإسرائيلية

منذ العام الماضي اتسم القتال في سوريا بالتحول التدريجي من "الفوضى" إلى "نظام" ارتكز على اقتناع الأطراف بأن "نهاية اللعبة" باتت قريبة. كذلك، فإن التحول في ميزان القوة لصالح نظام الأسد وحلفائه يشير إلى مرحلة جديدة من إدارة الصراع. ولذلك، ينظر صناع القرار في إسرائيل للمرحلة الحالية من "الحرب الأهلية السورية" بوصفها مرحلة مهمة وخطيرة، حيث تتشكل بنود وقواعد الانخراط الرئيسية. ومكمن القلق عند إسرائيل يتمثل في أن الفشل في تحدي التواجد الإيراني في سوريا قد يسفر عن تطورات دائمة سيصبح من الصعب فيما بعد تغييرها.

وهنا يمكن القول إن للجهود الحالية بقيادة روسيا والولايات المتحدة للوصول إلى تسويات، أثر بشكل مباشر على المصالح الاستراتيجية لإسرائيل. فبحسب العقلية الإسرائيلية، تنعكس هذه التسويات مباشرة على قضية أمنية رئيسية تتعلق حاليا بظهور نظام جديد في الساحة السورية، حيث سيصبح النفوذ العسكري والسياسي المتزايد لإيران أمرًا واقعًا.

وتتجلى هذه العقلية الإسرائيلية بوضوح في ربط رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو بين مقدمات التسوية وظهور نظام جديد في سوريا من ناحية، وبين تنامي التهديد القادم من إيران من ناحية أخرى، بقوله: "ينبع الوضع الحالي من تطور مُرحَب به ... أى هزيمة داعش في سوريا. ومع ذلك، فإن المشكلة أنه أينما تخرج داعش، تدخل إيران".[2] والذي يمكن استنتاجه من سياق كهذا أن نتانياهو كان واضحًا بشأن رؤيته للهدف النهائي للمشروع الإيراني في سوريا، بــ"لبننة" سوريا.

خلاصة ما تقدم أن شعور إسرائيل بالحاجة الملحة للعمل يتعاظم على ضوء تطور الأوضاع في سوريا. ولعل المفارقة هنا تتجسد في أنه كلما بدأ "النظام" يحل محل الفوضى في سوريا، كلما ازدادت قناعة إسرائيل بضرورة تغيير نطاق تدخلها في الساحة السورية، كى تتجنب تغيير ميزان القوى الاستراتيجي في غير صالحها. وتتعاظم تلك القناعة في إسرائيل بسبب عدم التزام روسيا والولايات المتحدة بأخذ متطلبات الأمن الإسرائيلي بعين الاعتبار في الاتفاقات المستقبلية في سوريا. فعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية الممتدة، لم تنجح القيادة الإسرائيلية إلى حد كبير في إقناع روسيا والولايات المتحدة بتطبيق إجراءات من شأنها الحد من التواجد الحالي لإيران وجهودها. كذلك، فشلت إسرائيل في إقناعهما بالعمل للحد دون انتشار أسلحة متقدمة، نُقِلَت إلى حزب الله بواسطة إيران.

ولهذا ثمة توافق عام في داخل إسرائيل على أنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على الولايات المتحدة، لتمثيل مصالحها في التسويات المستقبلية؛ فخلافا للتركيز على داعش، تفتقر الإدارة الأمريكية إلى رؤية أو أجندة صلبة داخل الساحة السورية. أما فيما يتعلق بروسيا، فقد تمكنت إسرائيل، بفضل جهودها الدبلوماسية المكثفة مع بوتين خلال العامين الماضيين، من تطوير أوضاع التنسيق العسكري التكتيكي بين البلدين في سوريا. وبفضل ما سبق بات لإسرائيل حرية نسبية للعمل في المجال الجوي السوري. لكن بالمقابل، على الرغم مما يبدو أنه قبول روسي بمطلب إسرائيل بفرض منطقة عازلة بين ميليشيات مدعومة من إيران والحدود الإسرائيلية – السورية، فإنها تبدو أقل استجابة لمطالب إسرائيل بفرض قيود على المدى البعيد لتواجد إيران العسكري في سوريا.

ثالثا: المعادلة الخطرة... السياقات المنطوية على احتمالات التصعيد

لا شك أن انتشار قوات نخبة من الحرس الثوري، مع ميليشيات تابعة لإيران في سوريا، يعزز إيران بمزية استراتيجية في أي صراع مستقبلي مع إسرائيل. حاليا، يبلغ عدد القوات المدعومة من إيران في سوريا ما يقرب من ألف من القوات الإيرانية من فيلق القدس، وحوالي 7 آلاف مقاتل من حزب الله، و 10 آلاف من ميليشيات شيعية أخرى.

في تحليلهم للتهديد المحتمل للنشاط العسكري الإيراني في سوريا، يركز صناع القرار الإسرائيليون على أربعة عناصر رئيسية، نوجزها فيما يلي:

- احتمال نشر إيران أنظمة أسلحة متقدمة، توضع تحت السيطرة المباشرة لإيران على الأراضي السورية، مثل صواريخ أرض – جو المتقدمة، وصواريخ ساحل – بحر / صواريخ ساحلية مضادة للسفن، وصواريخ أرض – أرض عالية الدقة.

- محاولة إيران بناء أو استخدام بنى تحتية عسكرية قائمة في سوريا، مثل القواعد الجوية والبحرية.

- إعادة نشر إيران قواتها في سوريا لتتمركز على الحدود بين إسرائيل وسوريا.[3]

- لطهران عدد من الأهداف الاستراتيجية المتداخلة في مسعاها لإعادة إنشاء جسر بري مؤمَن يمتد من إيران إلى سوريا ولبنان، وهو الجسر الذي قُطِعَ بعد بداية الحرب الأهلية السورية، ثم تحطم مع بداية عام 2014، بعد خسارة مساحات كبيرة من الأراضي العراقية لصالح داعش. الآن نجاح المليشيات المدعومة من إيران في استعادة السيطرة على معظم المساحات التى خضعت لـ"داعش" يجسد هذه الفكرة  من جديد، حيث تتضمن الأهداف الإيرانية: طريق وخط سكك حديدية على امتداد مسارات إمداد رئيسية مَؤمَنَة تسيطر عليها إيران، وكلها من الشيعة، وحلفائها فيما يسمى " محور المقاومة" الذي يمتد من إيران وحتى سواحل المتوسط في سوريا ولبنان.

وتتبدى أهمية هذا الجسر بالنظر إلى أن إيران تحتاج إلى مسارات إمداد رئيسية لرأب صدوع جسرها الجوي إلى حلفائها، وكبديل عن المسارات البحرية؛ وأيضا لأغراض الهيمنة الاقتصادية على المدى البعيد في الإقليم؛ وكذلك للالتفاف على العقوبات عبر بلدان ثلاثة، ومع موسكو، وربما حتى لإزاحة الولايات المتحدة بوصفها الفاعل البارز في الشرق الأوسط.

- لكن الأهم من كل ما سبق- وفقا للحسابات الإسرائيلية – أن الجسر البري يعد عنصرا رئيسيا في استراتيجية الدفاع الأمامي والردع الاستراتيجي ضد إسرائيل، خاصة أن طهران تسعى لتطوير قدراتها الباليستية، الصاروخية، والنووية.[4]

خريطة توضح خطوط الإمداد الإيرانية الرئيسية[5]


 

من ناحية أخرى، فإن التهديد الرئيسي، من وجهة نظر القيادة الإسرائيلية، يتمثل في الجهد المستمر لحزب الله للحصول على أنظمة أسلحة هجومية متقدمة، تزيد من قدرته على استهداف إسرائيل في صراعات مستقبلية. أحد الأمثلة الرئيسية على هذا هو انتشار الصواريخ عالية الدقة بين يدي حزب الله، مثل صاروخ "رعد" الموجه بالجي بي إس، إيراني الصنع[6]. إذ سيطور الحصول على هذه الأنظمة، على نحو خطير، من قدرة حزب الله على مهاجمة أهداف مدنية وعسكرية استراتيجية رئيسية في إسرائيل، ومن ثم رفع الكلفة التي ستدفعها إسرائيل في صراعات مستقبلية. أيضا، هناك جانب آخر مركزي في الرؤية الإسرائيلية للتهديد ألا وهو محاولات إيران الموثقة لإمداد حزب الله بقدرات مستقلة لإنتاج أسلحة متقدمة وذخيرة، مثل هذه القدرات ستزيد من الصمود العملياتي للتنظيم ومرونته في الصراعات المستقبلية.

وبالتالي، فإن التغيرات المطردة  في السياقات المنطوية على احتمالات التصعيد، تتمثل في الانتقال من بناء قوة حزب الله عبر وسائل خطوط الإمداد المارة عبر سوريا، إلى بناء قوته وقدراته التسليحية على الأرض اللبنانية، ومنها تصنيع أسلحة عالية الجودة، فضلا عن جهود حزب الله وإيران لتوسيع نطاق انتشارهما العسكري في سوريا.

وفى السياق ذاته، لا شك أن بناء حزب الله لقدرات مرتبطة بالأسلحة الدقيقة يمثل مستوى جديدًا من التهديد المرتفع بسبب قدرة تلك الأسلحة على إرباك، وحتى إغلاق أنظمة مدنية وعسكرية محددة لفترات طويلة، وإلحاق خسائر تقدر قيمتها ببلايين الدولارات. وفى حالة إسرائيل بالذات (بالنظر إلى المساحة الجغرافية الصغيرة)، فإن هذا النوع من الأسلحة يمثل مستوى غير مقبول من التهديد. بمعنى آخر، فإن إسرائيل معرضة بشكل استثنائي للهجوم بواسطة أسلحة دقيقة، إذ إنها من ناحية أنها بلد متقدم يعتمد على تكنولوجيات متقدمة، ومن جهة أخرى، هي دولة صغيرة، لها بنى تحتية مركزة للغاية.  

صحيح أن إسرائيل تعمل على تطوير إجراءات دفاعية وهجومية مضادة لتهديد الأسلحة الدقيقة تلك، ولكن مثل هذه الاستجابة ليست سحرية، وربما ستتمكن نسبة ما من الصواريخ دقيقة التصويب من الوصول إلى أهدافها. بعبارة أخرى، فإن إسرائيل بالذات تعاني من أوجه ضعف خاصة بها أمام الأسلحة عالية الدقة. فمن جهة، هي بلد متقدم تمتلك بنى تحتية حيوية متقدمة، ومن جهة أخرى، هي بلد صغير تمتلك بنى تحتية حيوية مركزة في مناطق جغرافية محدودة. على سبيل المثال، بالنظر إلى توليد الكهرباء في إسرائيل، فإن كفاءة إنتاج 17.600 ميغاوات من الكهرباء 28% منها متمركزة في موقعين فقط (10 وحدات إنتاج تراكمية – توربينات، على سبيل المثال). أيضا تنتج أكبر 6 مواقع لتوليد الكهرباء في إسرائيل (ومن بينها مواقع مملوكة للقطاع الخاص) 51% من إنتاج الكهرباء على مستوى الدولة (تستخدم 26 وحدة إنتاجية فقط). وبالتالي، فإن الخطر الذي يمثله عدد قليل من الصواريخ دقيقة التصويب التي قد تخترق الإجراءات المضادة، وتضرب أنظمة حيوية، مثل مولدات الكهرباء، قد يكون غير مسبوق!! ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لأنظمة حيوية أخرى، مثل الإدارة الوطنية للكهرباء؛ والبنى التحتية للغاز الطبيعي، والبنى التحتية لتحلية مياه البحر (5 مرافق فقط تمد إسرائيل بنصف احتياجات إسرائيل من مياه الشرب)؛ وكثير من الأمثلة الأخرى في المجالات المدنية والعسكرية.[7]

وهكذا، فإن البناء العسكري من جهة إيران وحزب الله في سوريا، وإنتاج أسلحة عالية الدقة في لبنان، قد يمثل بداية عهد جديد لتحول محور إيران لتحدي كبير لإسرائيل. وقد يُنظَر إلى هذا المحور بوصفه محاولة من جهة إيران وحزب الله لخلق معادلة استراتيجية مع إسرائيل، إن لم يكن أكثر من ذلك!! بمعنى الوصول إلى قدرات تمكنهما من إلحاق الدمار الكثيف لأنظمة عسكرية ومدنية حيوية في إسرائيل.

وفى هذا السياق، من المحتمل أن يؤدي التعليق المؤقت والجزئي للبرنامج النووي الإيراني إلى تشجيع طهران على محاولة الوصول إلى توازن استراتيجي ضد إسرائيل في مجالات أخرى، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد ديناميكية للتصعيد. وقد تضع هذه العمليات النظام الإقليمي على مفترق طرق، وتثير احتمالات الحرب.

الخلاصة أنه في ظل معطيات كهذه، هناك توافق عام في إسرائيل الآن على أن حماية المصالح الإسرائيلية واحتواء إيران لم يعد بالإمكان تحقيقه بأساليب رد الفعل، وسياسة التدخل المحدود وحدها، وأن إسرائيل ستجد نفسها الآن (فى ظل الالتزام بسياسة التدخل المحدود) خارج عملية إدارة للصراع، ستنعكس نتائجها مباشرة على أمنها القومي على المدى البعيد.

وبموجب المنطق الجديد لصناع القرار في إسرائيل، فقد بات هذا تهديدا على المدى البعيد يجب أن تمنعه إسرائيل بأي ثمن، وتهديد يتطلب استعداد تل أبيب للعمل بشكل مستقل، إذا اقتضت الحاجة.

رابعا:من التدخل المحدود إلى الاحتواء النشط

إذا حاولنا تحليل المعاني الكامنة في التغيير الذي طرأ مؤخرا على مستوى كل من: نمط العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا منذ يوليو 2017، والأجندة الدبلوماسية لإسرائيل خلال الشهور الأخيرة من العام 2017، ومضامين الخطاب الاستراتيجي الصادر عن المستوى السياسي – العسكري في إسرائيل، يكون من اليسير أن نخلص إلى مجموعة من المؤشرات الأولية حول رغبة إسرائيل في التدخل سياسيا وعسكريا، كي تتجنب أي تقويض لمصالح أمنها القومي،وذلك بالنظر إلى طبيعة النظام البازغ في سوريا. بل وإلى استعدادها للمخاطرة أكثر فأكثر، وتحدى الوضع القائم غير المرغوب فيه – وفقا لحساباتها - في سوريا. ونشير فيما يلي إلى أهم تلك المؤشرات.

1- حملة دبلوماسية مكثفة

في الأشهر الأخيرة، تحول النفوذ الإيراني في سوريا إلى قضية ذات أولوية في أجندة السياسة الخارجية الإسرائيلية. ففي محادثاتها مع الفواعل الخارجية الرئيسية، هيمن الموضوع على حوار القيادة الإسرائيلية مع روسيا، ومنها اللقاء الأخير بين نتانياهو وبوتن في سوتشي (23 أغسطس2017)[8]، وزيارة وزير الدفاع الروسي لإسرائيل (15 أكتوبر).[9] وبالتوازى، حاولت القيادة الإسرائيلية مؤخرا حث الإدارة الأمريكية على الالتفات للتهديدات المحتملة لتزايد النفوذ الإيراني في سوريا. وفي هذا الإطار، زار وفد خاص من المسئولين الأمنيين بقيادة مديرا الموساد والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الولايات المتحدة التقى خلالها بالدوائر المناظرة في إدارة ترامب في 18 من أغسطس2017.[10]

بالإضافة إلى ذلك، هيمنت قضية النفوذ الإيراني في سوريا على لقاءات القيادة الإسرائيلية مع زعماء أوروبيين؛ فكانت القضية محور لقاء ناتنياهو مع الرئيس الفرنسى ماكرون في السادس عشر من يوليو2017[11]، ولقاء الرئيس  ريفلين مع المستشارة ميريكل في السابع من سبتمبر 2017[12].

2- التغير في نمط العمليات العسكرية

أول عمل عسكري إسرائيلي معروف في سوريا، منذ التوصل إلى التهدئة في يوليو 2017، كانت له ملامح مختلفة عن تلك العمليات التي شهدناها خلال السنوات الخمس الأخيرة للحرب الأهلية. فبحسب تقارير إعلامية، شنت إسرائيل ضربة جوية في السابع من سبتمبر 2017 ضد منشأة بحثية و/ أو إنتاجية، بالقرب من بلدة "مصياف" في محافظة حماة. هذه المنشأة تتبع مركز الدراسات والبحث العلمي التابع للحكومة السورية، المسئول عن البحث وتطوير الأسلحة الاستراتيجية وغير التقليدية. صحيح أن المهمة الدقيقة للمنشأة لا تزال موضع شك، ولكن معظم التقارير تشير إلى أنه موقع لإنتاج صواريخ دقيقة التصويب مُصممة لاستخدام الجيش السوري وحزب الله. في حين تتحدث تقارير أخرى عن موقع إنتاج للأسلحة الكيميائية[13].

لكن وبصرف النظر عن الهدف الدقيق للهجوم، فإن هذه الضربة الجوية تمثل عملية غير عادية من بين جعبة العمليات الإسرائيلية في سوريا، ليس فقط بسبب طبيعتها العملياتية، بل أيضا لما تعنيه دبلوماسيا. فخلال السنوات الأربع الماضية، كانت معظم الضربات الجوية الإسرائيلية موجهة ضد ما يمكن أن نصفه بأهداف بمحض الصدفة، مثل القوافل ومستودعات التخزين. لكن ضربة السابع من سبتمبر كانت موجهة ضد بنية تحتية استراتيجية، وهدف له أهمية استراتيجية فريدة، وهو ما يعكس اختيار الأهدف ذات الصلة بهدف إسرائيل تقويض جهود سوريا وحزب الله على اكتساب قدرات لها كفاءة استراتيجية. كذلك، فإن هذه الخطوة تُظهِر رغبة إسرائيل في تصعيد جهودها لتحقيق هذا الهدف، حتى ولو غامرت بتحمل رد فعل من جهة إيران / سوريا / حزب الله و/أو حتى تحطيم علاقاتها بروسيا. وفي هذا السياق يتعين لفت الإنتباه إلى نقطتين أساسيتين:

الأولى، أن الضربة الجوية وقعت أثناء أكبر تدريب عسكري للجيش الإسرائيلي خلال العشرين عاما الماضية. وهذا التوقيت بحد ذاته قد يشير إلى أن هناك إجراءات خاصة تم اتخاذها كي تزيد جاهزيتها في حالة وقوع أي أعمال انتقامية بعد الضربة.

الثانية، أن الضربة الجوية كانت ضد هدف في مساحة بها تواجد عسكري روسي قوي (أقل من 80 كم من مطار حميميم، والذي تديره حاليا القوة الجوية الروسية). هنا يمكن تفسير اختيار مهاجمة هدف يقع في العمق ضمن نطاق سيطرة روسيا، بوصفه محاولة لإرسال رسالة استياء لروسيا، مفادها أن إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي بينما روسيا تتجاهل جهود سوريا وحزب الله لتطوير قدراتهما العسكرية. ولعل قرار إسرائيل غير العادي بالهجوم في 16 أكتوبر 2017 على بطارية سورية مضادة للطائرات، ردا على قذيفة تم إطلاقها على طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي (بعد تجاهلها حوادث مماثلة في الماضي) أثناء زيارة وزير الدفاع الروسي لإسرائيل هو إشارة أخرى إلى الرسالة السياسية للخطوات العسكرية الأخيرة التي تتخذها إسرائيل.

3- التغير في الخطاب الاستراتيجي

خلال العام الأخير، كان هناك تغيير في الخطاب الاستراتيجي للقيادة الإسرائيلية، السياسية – العسكرية، لجهة إعادة تعريف طبيعة التحديات على الجبهة الشمالية لإسرائيل. إذ أصبح هناك اتجاه نحو إزالة الخط الفاصل بين نفوذ إيران في لبنان (من خلال حزب الله) ونفوذها في سوريا. وبالأحرى، معاملتهما كمسرح عمليات واحد. ففى السابق، كان مسئولو التخطيط العسكري في إسرائيل يعاملون لبنان وسوريا كمسرحي عمليات منفصلين، ويفرضان قواعد مختلفة للاشتباك. الآن يبدو أن المنطق العملياتي الجديد ينظر عليهما باعتبارهما مسرح عمليات واحد. بمعنى أن المستوى العسكري في إسرائيل لم يعد يتحدث عن الساحة اللبنانية، أو الحدود مع سوريا، بشكل يفصل كلاهما عن الآخر. بل بات يتعامل مع "جبهة شمالية واحدة" تتألف من سوريا ولبنان وحزب الله، بجانب نظام الأسد وأنصاره.

هذا التعريف مهم للغاية، وله أهميته في سياق محاولة التعرف على اتجاهات التصعيد القادم المفترض. إذ وفقا لهذا المنطق العملياتي، فإن انتشار المواجهة المباشرة من سوريا إلى لبنان، أو العكس، هو سيناريو مرجح للغاية. بمعنى أن المواجهة القادمة إذا اندلعت أولا من الحدود الإسرائيلية مع لبنان، فسوف تمتد- على الأرجح- إلى الجبهة السورية أيضا. والعكس يبدو صحيحا، بالنظر إلى المنطق العملياتي الجديد الذي حدده المستوى العسكري في إسرائيل، وبالنظر كذلك للتغير الحادث في أجندة وبنية المحور الإيراني، ومدركاته الخاصة إزاء طبيعة وأهداف أي تصعيد في هذه المرحلة.

خامسًا: الاستجابة الإسرائيلية... منهجان محتملان

بالنظر إلى هذه التطورات في أسلوب عمل إسرائيل، هناك سيناريوهان للسياسة الإسرائيلية المستقبلية، كل منها يعكس منهج استراتيجي مختلف.

السيناريو الأول: احتواء إسرائيلي نشط مصحوب بخطر تصعيد غير مقصود

من المتوقع أن يفضي تنامي النفوذ الإيراني في سوريا، ممزوجًا بامتناع روسيا والولايات المتحدة عن اتخاذ أية إجراءات نشطة لتقييد هذا النفوذ، بصناع القرار الإسرائيليين إلى احتواء استباقي ومستقل لهذا النفوذ. في هذا الإطار، من المتوقع أن تركز إسرائيل على فرض مجموعة جديدة من "الخطوط الحمراء" بالنظر إلى وضع إيران في الساحة السورية، وجهودها لزيادة القدرات الاستراتيجية لحلفائها. ربما تتضمن مثل هذه الخطوط نشر أنظمة أسلحة متقدمة على الأراضي السورية، وانتشار/ إعادة بناء قدرات سوريا/ وحزب الله لإنتاج أسلحة متقدمة وأسلحة دمار شامل، ونشر قوات إيرانية/ وقوات مدعومة من إيران في قواعد بحرية/ جوية. هنا تتعين الإشارة إلى أن الضربة التى وجهت إلى بلدة مصياف (على النحو الذي سبقت الإشارة إليه) قد تكون مؤشرا على المنطق العملياتي الإسرائيلي الجديد.

من ناحية أخرى، ومن أجل تطبيق سياسة الاحتواء النشط تلك، ستستخدم إسرائيل -على الأرجح- مزيجا من الإجراءات الدبلوماسية والعسكرية. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى كثافة الصراع الإسرائيلي مع أعدائها، وذلك على النحو التالي:

أولا: قد تضع هذه الإجراءات إسرائيل في مواجهة مباشرة مع إيران؛ إذ إن الضربات الإسرائيلية السابقة (المفترضة) ستكون موجهة في معظمها – بالضرورة- ضد وكلاء إيران (حزب الله) وحلفائه في سوريا. ومن ثم، فإن مدى الأهداف المرتبطة بالخطوط الحمراء الإسرائيلية الجديدة تزيد من فرص التدمير المقصود أو غير المقصود للقوات أو التعزيزات الإيرانية.

ثانيا: على الأرجح ستزيد السياسة الجديدة من مستوى المواجهة مع كل من سوريا وحزب الله. وعلى الأرجح ستستدعي الضربات الجوية المستمرة ضد البنى التحتية الاستراتيجية لسوريا وحزب الله وإيران، ردود أفعال.

 ثالثا: على المدى البعيد، من المتوقع أن تحطم سياسة الاحتواء الإسرائيلي النشط الإطار الدقيق للعلاقات الإسرائيلية- الروسية. وربما تحد المزيد من الضربات الجوية ضد البنى التحتية الاستراتيجية السورية من رغبة روسيا في كبح الدوافع الانتقامية السورية في المستقبل.

رابعا: بالنظر إلى السياق الإقليمى، قد يربك الاحتواء الإسرائيلي النشط من الجهود الحالية لفرض الاستقرار في سوريا ووضع إطار لإدارة الصراع.

الخيار الثاني: قبول إسرائيل بتواجد إيران بموجب شروط محددة سلفًا

بموجب هذا الخيار ستقبل إسرائيل بشكل غير رسمي بتواجد عسكري محدود للقوات المدعومة إيرانيا في سوريا، ولكن وفق قيود خاصة مُتفق عليها مع روسيا والمجتمع الدولي. في هذا السياق، هناك تقارير غير مؤكدة حاليا تشير إلى جهود روسية للعثور على معادلة مُتفَق عليها بشكل ثنائي، تقبل بموجبه التواجد المستمر للقوات المدعومة إيرانيا في سوريا، وفي الوقت ذاته تهدئة مخاوف إسرائيل من أن تتحول سوريا إلى منصة للعدوان الإيراني. وإذا ما كانت هذه التقارير حقيقية، فإنها تسلط الضوء على طموحات روسيا لحماية نظام الأسد عبر منع اندلاع صراع مدمر بين إسرائيل وعميلها ( النظام السوري).

ومع ذلك، في هذه المرحلة، من الصعب تقدير عمق الالتزام الروسي بمطالب إسرائيل. وأيضا من الصعب الوقوف على درجة استعداد  الحكومة الإسرائيلية لتفويض روسيا في أمر مصالحها الرئيسية، أو قدرة تل أبيب على التوافق مع مواقف موسكو.

سادسا: التصعيد... احتمالاته واتجاهاته ومداه الزمني

1- احتمالات التصعيد

يشتمل سياق الصراع الحالي على عوامل متناقضة بشكل واضح. بعضها تدفع باتجاه التهدئة، وتقلل من مخاطر اندلاع حرب شاملة بين الأطراف. فيما يدفع البعض الآخر نحو استعجال المواجهة، بغض النظر عن عمقها والسيناريوهات المتعلقة بها. فمن ناحية، ثمة من يرى أن تواجدًا روسيا كوسيط قوي في المنطقة، يقلل بشكل كبير من فرص التصعيد المقصود من جهة إسرائيل أو المعسكر المدعوم من قِبَل إيران. ذلك أن اندلاع مواجهة عنيفة في سوريا سيكون مدمرا لجهود روسيا من أجل إعادة بناء قدرات النظام السوري. ولا شك أن تدخل روسيا لمنع سوريا من الرد على الضربة الجوية ضد منشأة "مصياف" وجهودها لمناقشة مكامن قلق إسرائيل، يمكن أن تٌعد دليلا على اتجاهها نحو التهدئة وعدم التصعيد. وبما أن الصدام مع روسيا غير مرغوب فيه من جهة كل الأطراف، فإن انخراط روسيا يمثل كابحا للتحركات التصعيدية من جهة كل الأطراف.

ومع ذلك، كما لوحظ أثناء الضربة الجوية الإسرائيلية الأخيرة على مرفق مصياف، فإن التواجد الروسي لا يعمل كرادع حاسم لإسرائيل في سوريا.

لكن بالمقابل، فإن تبني إسرائيل لمنهج الاحتواء النشط الاستباقي (الخيار الأول) يزيد من احتمالات حدوث تصعيد غير مقصود. إذ -على الأرجح- سيحدث مثل هذا التصعيد إذا ما استمرت إسرائيل في توجيه ضربات جوية ضد بنى تحتية استراتيجية. بمعنى أنه إذا أصبحت هذه الهجمات سياسة عملياتية إسرائيلية جديدة، فمن المتوقع أن تزيد دوافع إيران وسوريا على الرد، وفى الوقت ذاته ستقل رغبة روسيا في كبح هذه الاستجابات.

هنا قد تشعل استجابة انتقامية سورية و/ أو إيرانية (سواء تم تنفيذها من سوريا أو لبنان) ديناميكية أفعال وردود أفعال تصعيدية ذاتية الكثافة، قد تفضي في النهاية إلى صراع هيكلي، كتلك التي عجلت بحرب لبنان الثانية عام 2006.

أيضا، من وجهة نظر بنيوية، فإن محاولة إسرائيل معارضة تزايد النفوذ الإيراني في سوريا بنشاط، تزيد من احتمال اندلاع حريق بين إسرائيل والمعسكر المدعوم من قِبَل إيران. بمعنى أن كلا من إسرائيل وإيران تتجليان الآن في الساحة السورية كفاعلين إقليميين يملكان مصالح متصادمة، وفي الوقت ذاته لديهما حوافز قوية للوفاء بها. وتعملان في ظل غياب أي نظام أمني يحدد توقعاتهما المتبادلة وينظم تحركاتهما. وبالتالي، في مثل هذا الوضع، فإن إساءة التقدير أو الفهم  يمكن أن تتسبب في تحريك الأوضاع باتجاه التصعيد ولو غير المقصود أيضا.

2- اتجاهات التصعيد

أية عمليات تصعيدية على الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان، قد تنتشر إلى سوريا لعدة أسباب:

أ- أن إيران وحزب الله يعملان على وضع تعزيزات عسكرية في سوريا، وقد تتحول هذه التعزيزات ضد إسرائيل في حالة اندلاع صراع في لبنان. أيضا إسرائيل نفسها قد تشن عمل عسكري ما ضد القوات الإيرانية أو حزب الله في سوريا، في سياق محاولة تشكيل قواعد اللعبة للحد من انتشار مثل هذه القوات (مثل منع التواجد الإيراني على الجانب السوري من مرتفعات الجولان، أو الحيلولة دون وضع أسلحة إيرانية متطورة مثل صواريخ إس 300 أرض – جو في سوريا).

ب- في الوقت الذي يزداد فيه التنسيق العملياتي بين مكونات المحور الإيراني، وتزيد هذه المكونات من نشاطها في سوريا، هناك احتمال أن يتم تعريف المحور بأكمله بوصفه العدو في أي صراع في المستقبل (وليس فقط حزب الله)، وأن يحدث القتال على عدة جبهات. بعبارة أخرى، فإن العدو الظاهر لإسرائيل هو حزب الله، ولكن إسرائيل أيضا قد تعتبر الجمهورية اللبنانية عدو، وهو ما بات ممكنا وبشكل متزايد بعد أن أصبح حزب الله هو الفاعل الرئيسي في لبنان. وقد تُعرف إسرائيل العدو على أنه "محور إيران" الذي يشمل  حزب الله ونظام الأسد. ويزداد هذا الاحتمال في توقيت يوسع فيه المحور الإيراني من طموحاته لتعزيز نفسه في سوريا.

3- أفق التصعيد وحدوده

فى سياق محاولة التعرف على أفق وحدود التصعيد القادم ينبغي الإشارة إلى النقاط الثلاث التالية:

أ- بالنظر إلى المنطق العملياتي الحالي وهيكل القوة لكل من إسرائيل وحزب الله، هناك صلة قوية بين مدى الدمار الذي سيتسبب فيه كل طرف للآخر، والثمن الذي سيدفعه كل منهما بسبب إحداثه لهذا الدمار. بمعنى، أن هناك نمط من المعادلة المتماثلة بين عمق الدمار الواقع على كلا الطرفين في حالة اندلاع أعمال عدائية. والأرجح أن هذا التعادل النسبي سيدفع في اتجاه تفضيل الصراع "المحدود"، أى وضع أهداف محدودة يتم إنجازها بكلفة محدودة، أكثر من الصراع المفتوح.

ب- قد يجبر الدور الروسي الجديد في الساحة السورية إسرائيل، ويمكنها من تحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية باستخدام ممارسات محدودة للقوة وقصيرة المدى، تتصاعد تدريجيا، إلى جانب الحوار السياسي مع روسيا والولايات المتحدة. ومن المحتمل أن يكون هذا الدور الروسي بمثابة إطار للمفهوم الإسرائيلي للقتال في هذه الساحة.

ج- بسبب سمات البيئة السياسية والعسكرية الحالية، من المحتمل أن يقبل حزب الله وإيران "الخطوط الحمراء" الإسرائيلية الجديدة ، بعد تصعيد ثنائي، ولكن قبل الوصول إلى عتبة الحرب. ومع ذلك وبسبب الطبيعة الخاصة للخطر القادم من الأسلحة دقيقة التصويب، من المتصور أن تكون إسرائيل مستعدة للتصعيد حتى مستوى الحرب الشاملة كي تهدم قدرات حزب الله الخاصة بالبناء العسكري والتسليحي. ويعزز هذا الواقع الحالي الاتجاه نحو تقليل أمد الصراع بقدر الإمكان عمليا.

د- في حملاتها الست السابقة (من عملية "تصفية الحساب" في لبنان عام 1993 إلى عملية "حد الدفاع" في غزة 2014)، عملت إسرائيل بشكل مماثل بصورة أو بأخرى، وبدرجات متباينة من النجاح. حتى عندما ارتكبت إسرائيل أخطاء، فإن ثمن هذه الأخطاء كان مسموحا به وفق المعادلة الاستراتيجية. ولكن دخول أسلحة متقدمة عالية التصويب، ودخول روسيا قد يغير بشكل جوهري من سمات الصراع القادم، بحيث لن تكون العملية القادمة هي السابعة من نوعها.

هذا يعني في الحاصل الأخير، أن إسرائيل تبدو غير قادرة على السماح لنفسها بتأجيل اتخاذ قرارات، كما فعلت في الماضي. لكن في الوقت ذاته فإن ثمن الخطأ هذه المرة سيكون أكبر بكثير.


[1] Gil Murciano, "Israel vis-à-vis Iran in Syria: The Perils of Active Containment", (Berlin, German Institute for International and Security Affairs, October 2017), Available at: https://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2017C41_mco.pdf

[2] "نتنياهو: إيران تسعى لحرب مع إسرائيل وتحتل مناطق يتركها داعش"، رويترز، 26/8/2017). متاح على الرابط التالي:

https://ar.rt.com/j79s

[3] Gil Murciano, op., cit.

[4] Franc Milburn, "Iran’s Land Bridge to the Mediterranean: Possible Routes and Ensuing Challenges", (Tel Aviv, Institute of National Security Studies INSS, Strategic Assessment, October 2017). available at: http://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2017/10/irans-land-bridge.pdf

[5] Ibid.

[6] "ماذا تحوي ترسانة حزب الله من سلاح"، وكالة سبوتنيك العربية، 28/3/2017. متاح على الرابط التالي:

https://sptnkne.ws/dV5D

[7] Gideon Sa’ar and Ron Tira, "Political and Military Contours of the Next Conflict with Hezbollah", Tel Aviv, Institute of National Security Studies INSS, Strategic Assessment, July 2017. Available at:

http://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2017/07/adkan20-2ENG_4-59-73.pdf

[8] "فشل نتنياهو في سوتشي"، رويترز، 25/8/2017. متاح على الرابط التالي:  https://ar.rt.com/j73q

[9] "جيروزاليم بوست: روسيا توافق على إبعاد إيران وحزب الله عن حدود إسرائيل"، رويترز، 18/10/2017). متاح على الرابط التالي: https://ar.rt.com/jeg3

[10] "وفد أمني إسرائيلي يبحث في واشنطن الملف السوري"، موقع عرب 48، 15/8/2017. متاح على الرابط التالي: http:///1oJopd

[11] "ماكرون بعد لقاء نتنياهو: نشاطر إسرائيل قلقها من أنشطة حزب الله جنوب لبنان، رويترز، 16/7/2017. متاح على الرابط التالي: https://ar.rt.com/j1vj

[12] "ريفلين يحذر من أن التدخل الإيراني قد ’يغرق المنطقة بكاملها في حرب"، تايمز أوف إسرائيل العربي، 7/9/2017)، متاح على الرابط التالي: http:///1oJoqM

[13] Gil Murciano, op., cit.