شهدت خريطة التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة في الإقليم تطورات عدة كنتيجة حتمية لحالة التراجع في قدرات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) خلال الأشهر الأخيرة، لتبعية أغلب التنظيمات الفاعلة والنشطة بدول الإقليم مثل (بوكو حرام، بيت المقدس، جند الخلافة، الدولة الإسلامية بمصر، داعش غزة) لتنظيم الدولة الاسلامية (داعش). ومن ثم، فإن تراجع التنظيم المركزي في سوريا والعراق (داعش) يؤثر بشكل مباشر على أفرع التنظيم من حيث القدرات التنظيمية والقتالية. ومن ناحية أخرى، هناك بعض العوامل التي تحدد أدوار التنظيمات الفاعلة وبنيتها التنظيمية بالمنطقة ويمكن إيجازها في خمسة عوامل، هي:
العامل الأول: البيئة الجغرافية والتركيبة الاجتماعية والوضع الاقتصادي المحيط بمناطق تمركز تلك التنظيمات، حيث تعتمد التنظيمات المتطرفة على استغلال الأوضاع الاقتصادية الضعيفة والتركيبة الاجتماعية الهشة لاستقطاب عناصر للتنظيم، لذلك يعتمد تنظيم داعش في أدبياته على مفهوم إدارة الفوضى المتوحشة والتي تنقسم إلى ثلاث مراحل، هي الانهاك، وإدارة التوحش، والتمكين. وقد قسمت الاستراتيجية الدول المستهدفة إلى مستويين، أولهما دول متماسكة ذات سلطة مركزية على الأطراف، وثانيهما دولة تفتقد السيطرة على الأطراف ومن ثم تتسم تلك المناطق بضعف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأخيرة هي نقطة الانطلاق للتنظيم.
العامل الثاني: التحول في البيئة السياسية والأمنية الجارية بدول الإقليم، حيث يعتبر الاستقرار السياسي عامل محدد ومهم في فاعلية التنظيمات المتطرفة، كما حدث في أعقاب الحراك الشعبي ببعض دول المنطقة أو ما يطلق عليه (الربيع العربي)، وما أسفرت عنه تلك التحركات الشعبية من حالة عدم استقرار سياسي ساعد على تنامي نفوذ وقدرات التنظيمات المتطرفة.
العامل الثالث: المنطلقات الفكرية والارتباط العقائدي والتنظيمي مع تنظيمات عابرة للحدود، وهو ما ينطبق على التنظيمات التابعة لداعش، فكلما تراجع التنظيم المركزي أثر ذلك في قدرة باقي الأفرع.
العامل الرابع: التنافس والصراع التنظيمي بين الجماعات والتنظيمات المتطرفة المتواجدة بدول الإقليم.
العامل الخامس: التعاون المعلوماتي والتنسيق الأمني بين دول الإقليم والعالم لمواجهة تلك التنظيمات المتطرفة؛ فمواجهة إحدى التنظيمات المتطرفة بدول لا يكون بانعزال عن مواجهة باقي التنظيمات الأخرى بدول المنطقة للحد من انتقال الأفراد وتبادل المعلومات ونقل الأموال والسلاح، وهو ما يجعل من التعاون الأمني والمعلوماتي بين الدول عامل رئيسي في آليات المواجهة الشاملة مع التنظيمات المتطرفة.
وبتحليل تلك العوامل الخمس نلاحظ حدوث بعض التطورات من حيث التراجع الواضح في قدرات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا مما أثر بشكل مباشر على قدرة فروع تنظيم داعش بدول الإقليم من ناحية، وتصاعد معدلات التنسيق الأمني والمعلوماتي بين دول الإقليم والعالم، بجانب اهتمام بعض الدول بالمناطق الحدودية التي تتمركز بها بعض التنظيمات المتطرفة من ناحية أخرى. وقد أثر العامل الثالث على وضع التنظيمات المتطرفة بمصر في شكل ظهور بعض التنظيمات التابعة لتنظيم القاعدة بعد ثلاث سنوات من اختفاء تواجد هذه التنظيمات منذ إعلان تنظيم "بيت المقدس" البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية (في نوفمبر 2014) وفك الارتباط التنظيمي والفكري مع تنظيم القاعدة، وتغيير اسم التنظيم من "أنصار بيت المقدس"إلى "ولاية سيناء" كجزء من "الدولة الإسلامية" في سوريا والعراق.
هذا الظهور المفاجئ لجماعات متطرفة تابعة لتنظيم القاعدة يطرح تساؤلات عدة حول مستقبل التنظيمات التابعة لداعش بمصر وفي مقدمتها تنظيم بيت المقدس، وعلاقة الإرهابي هشام عشماوي وتنظيم المرابطون بما يحدث من تحولات استراتيجية في بنية تنظيم بيت المقدس؟ وما إذا كانت هناك علاقة بين المصالحة الفلسطينية والتغيير النوعي في استراتيجية التنظيمات المتطرفة بسيناء؟
(1)
عودة نشاط تنظيم القاعدة بمصر
خلال شهر أكتوبر من العام الجاري (2017) شهدت المنطقة الغربية اشتباكات بين قوات الأمن وبعض العناصر المتطرفة والمعروفة بأحداث (الكيلو 135طريق الواحات)، أسفرت عن سقوط 16 شهيدًا من قوات الأمن، وما يقرب من 13 مصابًا، وفقًا لبيان وزارة الداخلية، وذلك أثناء قيام قوات الأمن باقتحام إحدى نقاط تمركز تلك العناصر في صحراء جنوب الجيزة، حيث أعلن تنظيم "أنصار الإسلام" مسئوليته عن تلك الأحداث. وقد نعى التنظيم المتطرف في بيانه الإرهابي (عماد عبد الحميد) وهو واحد من قيادات تنظيم المرابطون التابع لتنظيم القاعدة والمنشق عن تنظيم بيت المقدس في أعقاب إعلان الأخير البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في نوفمبر 2014، حيث أسس الإرهابي (هشام عشماوي) وبعض قيادات تنظيم بيت المقدس مثل (عماد عبد الحميد، ووليد بدر) تنظيمًا جديدًا باسم (المرابطون)، انتقل للمنطقة الغربية ثم إلى منطقة (درنة) بالأراضي الليبية لتكون نقطة ارتكاز قريبة من الحدود المصرية.
هذا الظهور المفاجئ لجماعة متطرفة تابعة لتنظيم القاعدة باسم "أنصار الإسلام" تزامن مع إعادة ظهور تنظيم "جند الإسلام" في سيناء التابع لتنظيم القاعدة، حيث أعلن تنظيم "جند الإسلام" في رسالة صوتية في 11 نوفمبر 2017 تحت عنوان "استهداف خوارج البغدادي للمسلمين وحصار غزة"، تضمنت رسالة تهديد لتنظيم "بيت المقدس" حيث أكد تنظيم جند الإسلام "أنه ثبت بالدليل القاطع اعتداءات خوارج البغدادي المتكررة تجاه المسلمين في سيناء ومحاصرتهم غزة. وتم رصد تسلل مجموعة لمناطق رباط إخوانكم في جماعة جند الإسلام أكثر من مرة، ومعهم الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وذلك للغدر بهم. وبناء على ذلك قرر الجهاز الأمني للجماعة القيام بعملية أمنية خاطفة لردع هؤلاء الخوارج". وبعيدًا عن تحليل مضمون البيان، وهوما يحتاج مساحة أخرى، نتوقف هنا عند توقيت الإعلان والذي يأتي بعد أقل من عشرين يومًا على ظهور تنظيم "أنصار الإسلام" المسئول عن أحداث طريق الواحات (20 أكتوبر 2017)، إذ إن تزامن ظهور تنظيمين تابعين لتنظيم القاعدة في أقل من شهر واحد بمصر، في وقت يشهد فيه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تراجعًا في سوريا والعراق يدفعنا لوضع سيناريوهات مستقبل التنظيمات الإرهابية فيما بعد داعش؟
(2)
مسارات محتملة ماذا بعد داعش؟
هناك مساران محتملان لمستقبل التنظيمات المتطرفة التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والتي أعلنت البيعة لأبي بكر البغدادي وتنظيم داعش خلال عام 2014. ومن هذه التنظيمات الإقليمية يأتي تنظيم بيت المقدس الإرهابي بسيناء كنموذج دال على هذه المسارات المحتملة.
المسار المحتمل الأول: يتمثل بفك الارتباط التنظيمي والبيعة بين تنظيم بيت المقدس وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والاندماج مع بعض التنظيمات المتطرفة الأخرى، وتشكيل تنظيم مستقل على غرار تنظيم "هيئة تحرير الشام"(جبهة النصرة سابقًا) عندما أعلنت الأخيرة فك الارتباط التنظيمي مع تنظيم القاعدة وإنهاء البيعة لزعيمه أيمن الظوهري مع الإبقاءعلى القواعد الفقهية والمنطلقات الفكرية لتنظيم القاعدة. ويعد هذا المسار هو الأقرب للحدوث في الحالة المصرية، بمحاولة بعض التنظيمات المتطرفة تشكيل تنظيم جديد للتنظيمات والعناصر المتطرفة التي خرجت من عباءة تنظيم القاعدة وبعض التنظيمات والمليشيات المسلحة الأخرى. وبالقياس على ذلك يمكن أن يأخذ تنظيم بيت المقدس في سيناء نفس المسار ويعلن عن تغيير اسمة لاسم جديد ويضم بعض العناصر المتطرفة الجديدة وبعض التنظيمات الإرهابية بمصر مثل (جند الإسلام، والمرابطون، وأنصارالإسلام) بجانب توسيع مساحة التنظيم لتضم بعض التنظيمات الإرهابية بدول الجوار مثل تنظيم "جيش الفتح" بقطاع غزة وعناصر السلفية الجهادية بغزة.
المسار المحتمل الثاني: أن تلجأ التنظيمات التابعة لداعش بدول الإقليم لحل نفسها على غرار ما حدث بالنسبة لتنظيم "أنصار الشريعة" في درنة بدولة ليبيا خلال شهر مايو من العام الجاري (٢٠١٧)، وهو نفس المسار الذي اتخذته بعض التنظيمات الإرهابية والمسلحة ببعض دول الصراع خلال المرحلة الفائتة وكان آخرها تنظيم "سرايا الدفاع عن بنغازي"، والذي أعلن عن حل نفسه خلال شهر يونيو 2017. هذا المسار يفتح المجال أمام إعادة ظهور تنظيمات متطرفة جديدة تأخذ الطابع القطري بكل دولة المرتبط ببيئة جغرافية وتركيبة اجتماعية محددة، وهو ما يمكن أن نطلق عليها التنظيمات الإرهابية المناطقية والتي اكتسب مهارات قتالية من تبعيتها لتنظيم الدولة الإسلامية داعش خلال السنوات الماضية من ناحية، ومنطلقة من فقه القاعدة من ناحية أخرى. وبمعنى أدق ظهور تنظيمات متطرفة يمكن أن نطلق عليها قاعدية الفكر داعشية التكتيك.
في المجمل، تدخل خريطة السلفية الجهادية والتنظيمات الإرهابية بدول الإقليم مرحلة جديدة من التطور من حيث البنية التنظيمية والمنطلقات الفكرية والتكتيكات القتالية، وهو ما ينعكس على وضع التنظيمات المتطرفة بمصر مما يضع أمام الدولة المصرية والأجهزة الأمنية تحدى جديد لإعادة تجديد الاستراتيجية الأمنية فى مواجهة الإرهاب في سيناء من جهة، وربطها باستراتيجية شاملة لمواجهة التطرف والعنف والإرهاب لتشمل أبعاد مختلفة تضاف إلى المجهود الأمني في عملية الحرب على الإرهاب، من جهة أخرى.