د. محمد فايز فرحات

مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لا يقوم هذا السؤال على افتراض محسوم بأن هناك حربا قريبة في شبه الجزيرة الكورية، أو أن التطورات المتسارعة في منطقة شمال شرقي آسيا هي مقدمات طبيعية للحرب. صحيح أن عملية التصعيد بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة تجري بمعدلات متسارعة منذ وصول إدارة ترامب إلى السلطة، والتي أخذت شكل التجارب الصاروخية المتوالية من جانب كوريا الشمالية، ثم إجراء تجربتها النووية الهيدروجينية في الثاني من سبتمبر 2017، والتي مثلت التجربة النووية السادسة في سلسلة تجاربها النووية، تطور الأمر بعدها إلى حرب كلامية استخدمت في سياقها مفردات شديدة القسوة والعنف من جانب الرئيسين الأمريكي ترامب، والكوري كيم جونج أون، إلا أن كل هذا لا يعني أن حربا وشيكة ستقع في شبه الجزيرة الكورية، كما لا تعني استبعاد الحرب بشكل كامل.

لن تكون هناك حرب

كما سبق القول، رغم عملية التصعيد الجارية بقوة في شمال شرقي آسيا، لكن لا يمكن القول بأن هذه الإجراءات تعني حدوث حرب قريبة، فلازالت هناك عوامل كثيرة تحول دون حدوث هذه الحرب، أو بالأحرى تمثل كوابح لسلوك جميع الأطراف المعنية بالأزمة مع كوريا الشمالية. ونناقش فيما يلي مواقف هذه الأطراف، والحسابات الحاكمة لكل منها.

1- الولايات المتحدة

من الناحية العسكرية، الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى في هذه المباراة بلا شك. كما أنها أضحت طرفا أصيلا في الصراع مع كوريا الشمالية بعد تطور القدرات الصاروخية الكورية على نحو ما كشف عنه اختباري يوليو الماضي (3، 28 يوليو). ومما لاشك فيه أيضا أن الدخول في مواجهة عسكرية واسعة مع كوريا الشمالية ستنتهي بالتأكيد بانهيار النظام الكوري وهزيمة كوريا الشمالية، وربما تدميرها بشكل كامل، لكن الأمر هنا يتعلق بتكلفة هذه الهزيمة، ليس فقط التكلفة المادية، ولكن أيضا التكلفة البشرية، خاصة في ظل وجود عدد كبير من القوات العسكرية الأمريكية في اليابان وفي جزيرة جوام (جزيرة أمريكية تقع في المحيط الهادي، تبلغ مساحتها حوالي 540 كيلو متر مربع، يقطنها حوالي 163 ألف نسمة، وتستخدم كمقر لقواعد عسكرية أمريكية ونقطة انطلاق مهمة لأي عمليات عسكرية محتملة، وينتشر بها حوالي 6000 جندي)، وكل منهما سيكون في مرمى القدرات الصاروخية والتقليدية لبيونج يانج. وتزداد أهمية هذا الضابط في ظل حساسية الرأي العام الأمريكي لمسألة التورط العسكري الأمريكي في الخارج بعد تجربتي الحرب الأمريكية في أفغانستان، والغزو الأمريكي للعراق. فقد كشفت العديد من استطلاعات الرأي العام الأمريكي عن تحول كبير في موقف المواطن الأمريكي من قرار الحرب في العراق، أو إرسال قوات عسكرية أمريكية، وذلك بالمقارنة بالفترة التي صدرت فيها هذه القرارات (انظر الشكلين رقم 1، 2).

إن هذه الخبرة الأمريكية المهمة، بشكل عام، في كل من أفغانستان والعراق، وخبرة الرأي العام الأمريكي مع خطاب النخبة السياسية الحاكمة، خاصة النخبة الجمهورية، والمقولات التي تم استخدامها لتبرير التورط العسكري في الخارج عقب أحداث سبتمبر 2001، ستظل قائمة، وستظل عاملا مهما في تقييم الرأي العام الأمريكي لقرار التورط العسكري الأمريكي في حرب جديدة في شبه الجزيرة الكورية، خاصة في ضوء القدرات العسكرية المهمة للأخيرة.


المصدر: تم بناء الشكل استنادا إلى نتائج استطلاعات الرأي العام التي أجرتها مؤسسة جاللوب خلال الفترات الزمنية المشار إليها في الشكل. النتائج متاحة على الرابط التالي:

www.gallup.com/poll/1633/Iraq.aspx?version=print(Accessed on Feb.26, 2013).


المصدر: تم بناء الشكل استنادا إلى نتائج استطلاعات الرأي العام التي أجرتها مؤسسة جاللوب خلال الفترات الزمنية المشار إليها في الشكل. النتائج متاحة على الرابط التالي:

www.gallup.com/poll/1633/Iraq.aspx?version=print(Accessed on Feb.26, 2013).

صحيح أن استطلاعات الرأي العام الأمريكي تشير إلى ارتفاع نسبة المؤيدين لعمل عسكري ضد كوريا الشمالية، وفقا لما كشف عنه استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة جالوب في سبتمبر 2017، حيث ارتفعت نسبة المؤيدين لعمل عسكري أمريكي ضد كوريا الشمالية إلى 58% مقارنة بـ 47% في سنة 2003.

لكن مع ذلك، فإنه يجب أخذ الملاحظات التالية في الاعتبار عند تقييم الموقف الدقيق للرأي العام الأمريكي من التورط في عمل عسكري ضد كوريا الشمالية.

الملاحظة الأولى، أن حجم الارتفاع في نسبة المؤيدين لهذا العمل، والتي بلغت حوالي 11% بالمقارنة باستطلاع سنة 2003 لا يتناسب إطلاقا مع طبيعة والمستوى الذي وصل إليه التهديد الكوري الشمالي بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، إذ لا يمكن مقارنة مستوى البرنامج والقدرات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية في سبتمبر 2017 مع حالتها في يناير 2003، أخذا في الاعتبار أن الاستطلاع الأخير أجري خلال الفترة (6- 10) سبتمبر، أي بعد حوالي أربعة أيام فقط من إجراء بيونج يانج لتجربتها النووية الهيدروجينية، وبعد أسابيع قيليلة من سلسلة التجارب الصاروخية بعيدة المدى، فضلا عن حالة التصعيد السياسي والإعلامي بين واشنطن وبيونج يانج، وهو ما كان يتوقع معه وصول دعم الرأي العام الأمريكي لعمل عسكري ضد بيونج يانج إلى مستويات أعلى من ذلك بكثير. وبمعنى آخر، ربما يكون التوصيف الدقيق لموقف الرأي العام الأمريكي من الحرب ضد كوريا الشمالية هو الانتقال من حالة الانقسام الواضح في عام 2003 (47% أيدوا العمل العسكري، مقابل رفض 48%) إلى تفضيل محدود لبديل العمل العسكري (58 أيدوا العمل العسكري، مقابل رفض 39%). [انظر شكل رقم (3)].  

الملاحظة الثانية، أن دعم الرأي العام الأمريكي للعمل العسكري كان مرهونا بفشل الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية في تحقيق الأهداف الأمريكية. فقد جاءت صيغة السؤال الموجه للعينة على النحو التالي: "إذا لم تستطع الولايات المتحدة تحقيق أهدافها بخصوص كوريا الشمالية من خلال الجهود الاقتصادية والدبلوماسية هل تؤيد أم تعارض اللجوء إلى عمل عسكري؟"، الأمر الذي يعني أن دعم البديل العسكري كان في سياق ترتيب محدد للبدائل.

الملاحظة الثالثة، أنه على الرغم من التصريحات الكورية العدائية ضد الولايات المتحدة والتي وصلت إلى حد التهديد بتوجيه ضربات نووية ضدها، إلا أن نسبة من رأوا إمكانية قيام كوريا الشمالية بعمل عسكري بالفعل ضد الولايات المتحدة ظلت ثابتة نسبيا، ولا تتناسب مع مستوى اللغة العدائية الكورية ضد الولايات المتحدة خلال الفترة التي أجري فيها استطلاع الرأي، فقد أيد 38% فقط احتمال شن بيونج يانج هجومًا ضد الولايات المتحدة، مقارنة بنحو 28% في استطلاع أجري في إبريل 2013، بينما استبعده 59%، مقارنة بنحو 58% في استطلاع سنة 2013، الأمر الذي يعني تقريبا ثبات نسبة المتشككين في جدية التهديد الكوري الشمالي للولايات المتحدة، بصرف النظر عن صعود اللغة العدائية الكورية أو التطورات المتسارعة في البرنامجين النووي والصاروخي [انظر شكل رقم 4].



المصدر: تم بناء الشكلين (3)، (4) اعتمادا على بيانات نتيجة استطلاع الرأي العام الذي أجرته مؤسسة جالوب.

Gallup, "More Back U.S. Military Action vs. North Korea Than in 2003", SEPTEMBER 15, 2017. Available at: http://news.gallup.com/poll/219134/back-military-action-north-korea-2003.aspx

2- الصين

هناك ثلاثة حسابات / محددات أساسية تحكم موقف الصين من الأزمة مع كوريا الشمالية.

المحدد الأول، يتعلق بالتوازنات الاستراتيجية في منطقة آسيا المحيط الهادئ بشكل عام، وفي منطقة شمال شرقي آسيا بشكل خاص؛ فنشوب الحرب سيترتب عليها، ليس فقط تدمير دولة حليفة في المنطقة، وبالتالي اختلال في موازين القوى في المنطقة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها (اليابان، وكوريا الجنوبية)، ولكن سيترتب عليها أيضًا حضور عسكري أمريكي أكبر في المنطقة. وفي الأغلب سيستتبع كل ذلك احتمال فرض مشروع لإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية، بمعنى إلحاق كوريا الشمالية بجارتها الغربية، الأمر الذي سيعمق بالتأكيد الاختلال في موازين القوى في المنطقة.

المحدد الثاني، يتعلق بمدى استعداد الصين للدخول في عمل عسكري لمساندة نظام بيونج يانج. فعلى الرغم من تخوف الصين من سيناريو الحرب، بالنظر إلى تبعاته الاستراتيجية الخطيرة بالنسبة لها، إلا أن الدخول في هذه الحرب بجانب كوريا الشمالية، سواء بهدف حماية النظام الكوري أو بهدف الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في المنطقة، يظل بديلا ضعيف الاحتمال، لعوامل عديدة لازالت تحكم السياسة الخارجية الصينية، بشكل عام، والعلاقات الصينية- الأمريكية بشكل خاص. يأتي في مقدمة هذه العوامل التزام الصين بمبدأ "الصعود السلمي"، كجزء من الرد على نظرية "التهديد الصيني" China threat theoryالتي لازالت تروج لها العديد من الكتابات الغربية واليابانية([1])، والتي تستند إلى مجموعة من الأدبيات التي تربط بين الصعود الاقتصادي والعسكري الصيني، من ناحية، وتحول الصين إلى مصدر تهديد اقتصادي وعسكري للنظام الإقليمي، وللقوى الإقليمية المجاورة، وللولايات المتحدة والمصالح الأمريكية، وللنظام العالمي القائم. وعلى العكس من تلك النظرية، لازالت تتمسك الصين بمقولة إن الصعود الصيني ليس فقط يمثل عامل استقرار للنظامين الإقليمي والعالمي، ولكن عامل استقرار للاقتصاد العالمي والنمو الاقتصادي العالمي المستدام. من بين تلك العوامل أيضا، أن دخول الصين مثل هذه الحرب سيؤدي إلى خلط العديد من الأوراق، والقضايا موضوع النزاع في المنطقة، إذ لن تكون المواجهة في هذه الحالة مقصورة على الساحة الكورية، ولكنها ستمتد بالتأكيد لتشمل ساحات وقضايا أخرى، مثل تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، وربما تتسع للتحول إلى حرب عالمية إذا ما تحولت لتصبح الصين ذاتها موضوعًا للحرب.

المحدد الثالث، يتعلق بالتأثيرات الاقتصادية والبشرية المتوقعة في حالة حدوث الحرب، وينصرف ذلك بالأساس إلى الموجات المتوقعة لتدفق النازحين واللاجئين الكوريين إلى الصين، الأمر الذي سيخلق أعباء اقتصادية على الصين. ومن المتوقع أن يصل حجم هؤلاء إلى بضعة ملايين.

وهكذا، فإن الموقف الصيني يقوم على ضرورة تجنب أي عمل عسكري ضد كوريا الشمالية، أو إحكام العقوبات الاقتصادية ضدها، بشكل قد يؤدي إلى انهيار النظام. وتدرك الصين أن سيناريو الحرب قد لا يقع بالضرورة نتيجة قرار محسوب من جانب المعسكر الأمريكي، ولكنه قد يقع نتيجة لعمل غير محسوب من جانب بيونج يانج ذاتها.

هذه المحددات الثلاث السابقة تفسر لنا العديد من المواقف التي اتخذتها الصين والتي تدعم في ظاهرها موقف المعسكر الأمريكي، على نحو تبدو معه الصين وكأنها تعمل في مواجهة حليفتها بيونج يانج. أبرز هذه المواقف هو الدعم الصيني لسلسلة قرارات مجلس الأمن التي أدانت السلوكيات الكورية (التجارب الصاروخية والنووية)، وفرضت حزما متتالية من العقوبات الاقتصادية والمالية والتجارية والدبلوماسية، بدءا من قرار مجلس الأمن رقم 1695، الصادر في 15 يوليو 2006 عقب التجارب الصاروخية التي أطقلتها كوريا في 5 يوليو 2006، ومرورا بالقرار رقم 1718 الصادر في 14 أكتوبر 2006 الصادر عقب التجربة النووية التي أجرتها كوريا الشمالية في 9 أكتوبر 2006، والقرار رقم 2270 الصادرة في 2 مارس 2016، عقب إجراء كوريا الشمالية تجربة نووية جديدة في 6 يناير ثم تجارب صاروخية في 7 فبراير 2016، والقرار رقم 2321 الصادر في 30 نوفمبر 2016، عقب إجراء كوريا لتجربة نووية جديدة في 9 سبتمبر 2016، والقرار رقم 2356 الصادر في 2 يونيو 2017، والقرار رقم 2317 الصادر في 5 أغسطس عقب سلسلة التجارب الصاروخية التي أجرتها بيونج يانج خلال شهر يوليو 2017، وأخيرا القرار رقم 2375 الصادر في 11 سبتمبر 2017 عقب إجراء بيونج يانج تجربتها النووية (الهيدروجينية)، في الثاني من سبتمبر.

لقد تضمنت هذه القرارات عقوبات اقتصادية وتجارية مؤلمة بالنسبة للاقتصاد الكوري، خاصة ما تضمنه القرار رقم 2321 الذي طالب جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بتعليق التعاون العلمي والتقني الذي يشارك فيه أشخاص أو جماعات ترعاهم كوريا الشمالية رسميا أو يمثلونها، باستثناء حالات محددة نظمها القرار (المادة 11)، وتقليص عدد موظفي البعثات الدبلوماسية والمكاتب القنصلية التابعة لكوريا (المادة 14). وكذلك مطالبة الدول الأعضاء بتقليص "عدد الحسابات المصرفية المفتوحة في المصارف الموجودة في أراضيها إلى حساب واحد لكل بعثة دبلوماسية ومكتب قنصلي تابع لجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، وحساب واحد لكل دبلوماسي وموظف قنصلي معتمد تابع لجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية" (المادة 16). كما اتخذ القرار خطوة أكثر تقدما في اتجاه تعميق العقوبات الاقتصادية، حيث حظر القرار على كوريا الشمالية "توريد أو بيع أو نقل الفحم والحديد وركاز الحديد، بشكل مباشر أو غير مباشر، من أراضيها أو عن طريق رعاياها أو باستخدام السفن أو الطائرات التي ترفع علمها، وأن تحظر جميع الدول شراء هذه المواد من جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية من قبل رعاياها أو باستخدام السفن أو الطائرات التي ترفع علمها، سواء كان منشأ تلك المواد أم لم يكن في أراضي جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية"، باستثناء بعض الحالات حددها القرار (المادة 26). كما شمل الحظر ذاته النحاس والنيكل والفضة والزنك، والتماثيل. كما تضمن القرار تحديثا لقائمة الأشخاص الذي تشملهم العقوبات[2].

كذلك القرار رقم 2317 الذي تضمن توسيعا لقائمة العقوبات المالية والتجارية، لتشمل بالإضافة إلى تجارة الفحم والحديد والنحاس والنيكل والفضة والزنك والتماثيل، منع كوريا من "توريد أو بيع أو نقل الأغذية البحرية (بما فيها الأسماك، والقشريات، والرخويات، وغيرها من اللافقاريات المائية بجميع أنواعها)، بشكل مباشر أو غير مباشر، من أراضيها أو عن طريق رعاياها أو باستخدام السفن أو الطائرات التي ترفع علمها، وأن تحظر جميع الدول شراء هذه الأصناف من جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية من قِبل رعاياها أو باستخدام السفن أو الطائرات التي ترفع أعلامها، سواء كان منشأ تلك الأصناف أم لم يكن في أراضي جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية" (المادة 9). الأمر ذاته بالنسبة لمعدن الرصاص (المادة 10). كذلك حظر القرار على كافة الدول أعضاء الأمم المتحدة "افتتاح مشاريع مشتركة جديدة أو كيانات تعاونية جديدة مع كيانات أو أفراد تابعين لجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية أو التوسع في مشاريع مشتركة قائمة بالفعل من خلال توظيف استثمارات إضافية فيها، وذلك من قِبل رعاياها أو في أراضيها، وسواء كانت هذه الكيانات أو هؤلاء الأفراد يعملون لحساب حكومة جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية أو بالنيابة عنها (المادة 12)[3].

الدعم الصيني لسلسة قرارات مجلس الأمن السابقة لا يعني وقوفها بجانب المعسكر الأمريكي ضد بيونج يانج بقدر ما يستهدف تحقيق هدفين رئيسيين. أولهما، هو حرص الصين على تأكيد وقوفها بجانب المجتمع الدولي فيما يتعلق بدعم نظام حظر الانتشار النووي وعدم تحول كوريا إلى قوة نووية. ثانيهما، هو الضغط على النظام الكوري لعدم القيام بأي عمل غير مدروس يمكن أن يؤدي إلى جر المنطقة إلى حرب واسعة. وبمعنى آخر، فإن انضمام بكين إلى نظام العقوبات الدولية ضد بيونج يانج لا يعني انضمامها إلى "المعسكر الأمريكي"، أو دعمها لهذا المعسكر إلى ما لا نهاية، بقدر ما يعني استهدافها توصيل رسالة مزدوجة، الأولى للولايات المتحدة بأنها لازالت تقف ضد اختراق نظام حظر الانتشار النووي وتحول كوريا إلى عامل عدم استقرار للنظام الإقليمي، والثانية موجهة لحليفها الكوري مفادها التفكير جديا قبل جر المنطقة إلى حرب لا يريدها الجميع. وعلى الرغم من وضوح الهدف الصيني في رفض توجيه أي عمل عسكري ضد كوريا الشمالية، ورفض وقوع أي مواجهات عسكرية في المنطقة، فإن الموقف الصيني لايزال يصعب التنبؤ به في حالة استخدام القوة العسكرية بالفعل ضد نظام بيونج يانج. إذ إن دخول الصين في أي عمليات عسكرية ضد بيونج يانج سيعني بدون شك اتساع نطاق الحرب، لتتجاوز شبه الجزيرة الكورية وشمال شرقي آسيا، لتشمل بالتأكيد بحر الصين الجنوبي، كما ستتجاوز بالتأكيد أطرافها المباشرة، لتشمل احتمالات دخول أطراف أخرى مثل تايوان والتي قد ينتهز المعسكر الأمريكي هذه الفرصة لإعلان استقلال تايوان.

وقد استندت حزمة العقوبات السابقة إلى افتراض مؤداه أنها ستؤدي إلى دفع النظام الكوري - تحت التأثير المتوقع لهذه العقوبات على الأوضاع الاقتصادية والإنسانية الداخلية - إلى العدول عن برنامجه النووي والصاروخي، إلا أنه من الناحية العملية لم تؤد العقوبات إلى تحقيق هذا الهدف. بل على العكس من ذلك، فقد تمسك النظام الكوري باستكمال برنامجه النووي وبرامجه الصاروخية، وتسريع وتيرة تطويرها وصولا إلى التجارب الصاروخية الثلاث الأخيرة، والتجربة النووية السادسة، المشار إليها أعلاه.

3- كوريا الجنوبية واليابان

هناك مصلحة بالتأكيد لدى سيول وطوكيو في إنهاء القدرات النووية والصاروخية لبيونج يانغ، لكن يظل البديل السلمي هو الأنسب، وربما الوحيد المقبول عمليا من جانبهما. ويرجع رفض طوكيو وسيول للبديل العسكري إلى عوامل عديدة، أبرزها أن قيام أي مواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية ستعني تحول كوريا الجنوبية واليابان إلى ساحة أساسية للعمليات العسكرية من جانب بيونج يانج، الأمر الذي يعني تكبدهما خسائر مادية وبشرية ضخمة، بالنظر إلى وقوعهما في نطاق القدرات العسكرية التقليدية لبيونج يانج.

بالإضافة إلى هذا العامل المهم، هناك قضية أخرى مهمة ترتبط بأي حسابات رشيدة من جانب سيول، تتعلق بمستقبل كوريا الشمالية في حالة انهيار نظام بيونج يانج بفعل عمل عسكري. لا شك أن انهيار هذا النظام سيستتبعه فتح ملف مستقبل الوحدة الكورية، وربما يفرض الملف نفسه بقوة على الولايات المتحدة وسيول، خاصة في ظل صعوبة إيجاد نخبة كورية شمالية بديلة للنخبة الحاكمة الحالية، تضمن علاقات جيدة مع الغرب ومع جيرانها الإقليميين. والسؤال المركزي هنا: من الذي سوف يتحمل فاتورة الوحدة الكورية، خاصة في ظل توجهات إدارة ترامب تخفيف أعبائها الاقتصادية، بل وتعظيم مكاسبها الاقتصادية والمادية من الحلفاء الخارجيين، الأمر الذي يعني عدم استعدادها في المرحلة الراهنة لتحمل مثل هذه الفاتورة أم المشاركة فيها؟ وهل المنطقة مؤهلة من الناحية الأمنية والاستراتيجية لإدارة ناجحة لهذا الملف؟ وبمعنى أكثر وضوحا هل ستوافق الصين على هذا المشروع، الذي سيعني تعميق الاختلال في التوازنات الاستراتيجية في المنطقة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها؟

في المجمل، يمكن القول إن مشروع للوحدة الكورية لن يكون سهلا، سواء من الناحية المالية أو الأمنية والاستراتيجية، فالبيئة الدولية والإقليمية تختلف كثيرا عن تلك التي جرت فيها تجربة توحيد ألمانيا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة.

سيناريوهات محددة لوقوع الحرب

لقد انتهينا في التحليل السابق إلى استبعاد سيناريو المواجهة العسكرية في شبه الجزيرة الكورية، لكن هذا لا يعني استبعاد هذا السيناريو بشكل مطلق. فالتحليل السابق يفترض الحسابات العقلانية للربح والخسارة من جانب مختلف الأطراف، بما في ذلك كوريا الشمالية نفسها. وهو ما يعني إمكانية وقوع الحرب بالفعل في حالة غياب هذه الحسابات. ويمكن في هذا الإطار تصور وقوع الحرب وفق السيناريوهات التالية:

السيناريو الأول، هو تعمق أزمة عدم الثقة بين بيونج يانج وواشنطن، على نحو الذي قد يؤدي إلى تطور قناعة لدى أي منهما بأن الطرف الآخر على وشك تنفيذ هجوم ضده، أو أن قرارا قد اتخذ بالفعل في هذا الاتجاه. في هذه الحالة قد يبادر ذلك الطرف باتخاذ قرار بمفاجأة الطرف الآخر ببدء عمل عسكري واسع النطاق.

السيناريو الثاني، أن تقرر الولايات المتحدة القيام بتنفيذ ضربة استباقية ضد المنشآت النووية والصاروخية الكورية بهدف إجهاض قدرتها على تنفيذ أي عمل عسكري ضد الولايات المتحدة أو حلفائها في المنطقة، وهو أحد البدائل التي يجري مناقشتها بالفعل داخل دوائر صنع القرار ومراكز الفكر الأمريكية. في هذه الحالة، لا يتوقع أن يقف الأمر عند حد هذه الضربات الاستباقية. وحتى في حالة شل قدرة بيونج يانج على توجيه عمل عسكري ضد الولايات المتحدة، فإنه ليس من المتوقع عدم قيام كوريا الشمالية بعمل عسكري ضد جارتها الجنوبية، الأمر الذي قد يؤدي إلى توسيع نطاق الحرب وعدم وقوفها عند حد هذه الضربات الاستباقية.

السناريو الثالث، أن تقرر الولايات المتحدة، استنادا إلى حسابات بعيدة المدى تتعلق بالحاجة إلى توصيل رسالة ردع لإيران، مفادها أن أي محاولة من جانبها لاستئناف برنامجها النووي ستقود إلى العواقب ذاتها. لكن هذه "الرسالة" ستكون مكلفة ماديا وبشريا واستراتيجيا إلى الحد الذي يتعين على جميع الأطراف حسابتها بدقة في ظل عوامل الربح والخسارة.

***

إجمالا، يمكن القول إن سيناريو الحرب لازالت تقف دونه العديد من الحسابات والعوامل الكابحة، طالما التزمت الأطراف جميعها بالحسابات العقلانية للربح والخسارة الناتجة عن مثل هذا السيناريو، الأمر الذي يعني أنه لن تكون هناك حربا نظامية على المدى القريب في شبه الجزيرة الكورية. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لبديل العملية الاستباقية الأمريكية، إذ ليس هناك ما يضمن السيطرة على نطاق هذه العملية أو ما يحول دون تحولها إلى حرب واسعة النطاق. وعلى الجانب الآخر، فإن كل هذا لا يعني الاستبعاد الكامل لسيناريو الحرب حالة تحقق شروط محددة.


[1] للمزيد من التفصيلات حول نظرية التهديد الصيني انظر:

Chikako Kawakatsu Ueki, The Rise of China Threat Arguments, Submitted to The Department of Political Science in Partial Fulfilment of The Requirements for The Degree of Doctor of Philosophy in Political Science at the Massachusetts Institute of Technology, September 2006.

Denny Roy, “The ‘China Threat’ Issue: Major Arguments,Asian Survey, vol. 36, no. 8, 1996.

[2] انظر قرار مجلس الأمن رقم 2321 لسنة 2016 S/RES/2321 (2016)متاح على الموقع الإليكتروني للأمم المتحدة.  

[3] انظر قرار مجلس الأمن رقم 2371 لسنة 2017 S/RES/2371 (2017)متاح على الموقع الإليكتروني للأمم المتحدة.