سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

ثالثًا: هل قُتِل مروان .. ومن قتله؟

ناقشنا في الحلقتين السابقتين من كتاب الملاك قضيتين، هما: الكيفية التي تم بها تجنيد الموساد لأشرف مروان، وهل كان مروان عميلًا مزدوجًا. وأظهرنا مدى ضعف رواية التجنيد، ودفعنا بأنه من المحتمل أن تكون الرواية غير صحيحة، ومدى إمكانية أن يكون مروان طُعم أُعد جيدًا من قبل أجهزة الاستخبارات المصرية وابتلعه الموساد. وبينا أيضًا كيف أن مناقشة المؤلف يوري- بار جوزيف لفرضية العميل المزدوج (والتي حاول نفيها) انطوت على منطق متعسف تصادم بشكل حتمي مع المعلومات التي قدمها هو بنفسه  لينفي هذه الفرضية. في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة نناقش ما توصل إليه الكاتب من استنتاج بأن مروان تم قتله على يد الاستخبارات المصرية. 

ولتسهيل مناقشة هذه القضية سنقوم بتوزيعها على محورين رئيسين: الأول، هو رواية المؤلف عن تاريخ وأسباب توقف مروان عن الاتصال بالموساد. والثاني هو غموض عملية موته واستنتاجات الكاتب بشأنها.

يُزعم المؤلف أن مروان ظل على علاقته بالموساد بعد حرب أكتوبر، وإن بدأت أهميته بالنسبة لإسرائيل في التراجع بعد توقيع مصر اتفاق كامب ديفيد عام 1978، وأنه حصل على آخر دفعه من المال كمكافأة له على كافة خدماته لإسرائيل على  طوال فترة تجنيده  في ذلك الوقت. بعد ذلك يمهد المؤلف لرواية موت مروان بالزعم بأنه صار في مرحلة معينة (لا يذكر متى تحديدًا) يعتقد أنه إذا توقف عن العمل لصالح إسرائيل فإن الموساد سيحاول قتله، أما ما دفعه للاعتقاد بذلك فهو أمر غير واضح البته، ولكنه ظل خائفًا من انتقامهم لسنوات طويلة لاحقة (ص 263).

ويزعم بار- جوزيفأن ثمة حدثين على وجه التحديد أوصلا العلاقة إلى نهايتها بين مروان والموساد ، الأولى قضية يهودا جيل عام 1997، وهو أحد أهم ضباط  الموساد والذي ظل لسنوات طويلة يقدم معلومات خاطئة مصدرها ضابط سوري من المفترض أنه يعمل كمشرف عليه، واتضح لاحقًا أن الضابط السوري كان محض وهم اختلقه "جيل" ولم يكن له أي وجود، وأن التقارير التي كانت باسمه كتبها جيل من خياله. وكان لاكتشاف ذلك أثره على الموساد الذي فتح تحقيقًا للتأكد من عدم وجود حالات متشابهه. أما الحدث الثاني والذي تسبب في نهاية العلاقة بين الموساد ومروان- وفقًا لرواية المؤلف- فكان بدء الصحافة الإسرائيلية في الكشف عن الحياة السرية لمروان.

سنلاحظ هنا أن الموساد الذي كسر عدة قواعد مهمة في العمل الاستخباراتي عندما قام بتجنيد مروان،حاول تحت تأثير صدمة يهودا جيل إصلاح الأمر باستعادة السيطرة على عملية تشغيل مروان لتكون كلها بيده، فطلب منه أن يوافق على أن يتعامل مع مشرف جديد غير "دوبي"، ولكن كما رفض مروان بإصرار في السابق وعلى مدى سبعة وعشرين عامًا ذلك، فقد استمر في رفضه، بل إنه لم يحضر الاجتماع الأخير الذي كان  دوبي قد حدده للقاء!!! الأمر الذي أدى برئيس الموساد داني ياتوم (1996- 1998) إلى اتخاذ قرار بإنهاء العلاقة مع مروان.

ولكن أغرب ما في رواية يوري بار-جوزيف أنه يقول إن إنهاء ياتوم لعلاقة مروان بالموساد لم تغلق الملف فعلًا، حيث عاد الموساد مجددًا في عهد رئيسه الجديد إفرايم هاليفي (1998-2004) لمحاولة إعادة مروان للخدمة، حيث تم الاتفاق على محاولة إقناع أشرف مروان بالقبول بتغيير مشرفه، واقترحوا هذه المرة أن يكون تسفي زامير رئيس الموساد الأسبق والرجل الذي تم في عهده تجنيد مروان هو المشرف الجديد. لكن مروان رفض ذلك أيضًا فاتفقوا في الموساد على أن يلتقي مروان بدوبي بمفرده على أن يحمل في جيبه مسجل أشرطة مصغر. وبالفعل تم اللقاء وظل الشريط يسجل المقابلة إلى أن وصل إلى نهايته، وعندها راح فجأة وبشكل غير متوقع يعيد تشغيل المحادثة التي جرت بينهما بصوت مرتفع. ويكمل المؤلف روايته المثيرة للسخرية أن مروان الذي كان يصر على عدم تسجيل محادثاتهما إطلاقًا لخشيته أن يستخدم الموساد لاحقًا التسجيلات للضغط عليه لم يعلق على ما جرى ولكنها كانت النهاية للعلاقة بين الموساد وبين مروان!!! 

من يستطيع تصديق مثل هذه الرواية التي إن صحت بالفعل لأصبحنا أمام جهاز استخباراتي متدني الكفاءة بشكل مذهل، جهاز لا يكتفي بكسر قاعدة عدم السماح لأي عميل باختيار مشرفيه، بل يرتكب خطأ يستمر سبعة وعشرين عامًا بعدم تسجيل أي لقاءات بين مروان ودوبي. وعندما يقرر في النهاية أن يقوم بالتسجيل تنكشف الحيلة بسبب ألاعيب غير متوقعه من جهاز التسجيل، ليكتشف مروان أن الموساد قد حنث بوعده الذي قطعه له بعدم التسجيل للقاءاته معهم، فينهي العلاقة معهم إلى الأبد!! 

أيضًا لماذا يحاول الموساد إعادة مروان للخدمة بعد أن ذكر مؤلف الملاك نفسه أن قيمته كعميل فائق الأهمية قد تضاءلت بعد توقيع مصر اتفاق كامب ديفيد، وبعد أن ابتعد مروان عن المناصب المهمة في نظام الحكم المصري؟

لا يفسر بار - جوزيف،الذي سيدٓعي لاحقًا أن الموساد ظل يحاول حماية حياة مروان وفشل في ذلك، لماذا سمحت السلطات الإسرائيلية باستمرار عملية تسريب معلومات في الصحافة الإسرائيلية عنه منذ اكتشاف قضية يهودا جيل عام 1997، هل من المعقول أن الرقابة التي تمارسها السلطات الإسرائيلية على الكتب والمطبوعات التي تتناول القضايا الأمنية بواسطة جهاز الرقابة العسكري المعروف باسم "تسانزورا"، لم يتنبه لمخاطر احتمال الكشف عن هوية مروان منذ صدور مذكرات إيلي زعيرا عام 1993؟ وإذا افترضنا أن تمرير هذا الكتاب رغم احتوائه على معلومات تشير إلى وجود عميل لإسرائيل أبلغها بموعد الحرب دون أن تذكر اسمه صراحة، كان خطأ غير مقصود، فكيف نفسر استمرار هذا الخطأ، بل التوسع فيه منذ عام 1997 وحتى الكشف عن اسم مروان صراحة في عام 2002؟ هل يمكن تصور أن تسريب زعيرا لصفات كان يمكن أن تشير إلى أن الملاك هو أشرف مروان بالتدريج وعلى مدى ما يقرب من عشرة أعوام، لم يلفت نظر الرقابة العسكرية الإسرائيلية؟ وهل يمكن القبول بأن الموساد وقف عاجزًا عن حماية هوية العميل الأهم له طيلة تاريخه رغم معرفته بخطورة تداعيات هذا الكشف على فرصه في تجنيد عملاء آخرين من نفس المستوى مستقبلا؟ لا يقدم بار - جوزيف تفسيرا مقبولا لكل ذلك، ولا يذكر  السبب الذي من أجله غامر الموساد بكسر القاعدة  التي أسماها هو بنفسه "القاعدة الذهبية للاستخبارات" والتي تنص على: الامتناع التام تحت أي ظرف من الظروف عن كشف العملاء السابقين، مفضلا (أي بار- جوزيف) تفسيرها بالصراع الذي كان وما يزال دائرًا بين رئيسي الموساد والاستخبارات العسكرية السابقين!!! وكأننا أمام دولة من دول العالم الثالث التي يتصرف فيها المسئولون السابقون بحرية تامة حتى لو تسببوا في أضرار للأمن القومي، وليس في إسرائيل التي تدعي امتلاكها لأقوى أجهزة استخبارات في العالم ،ولا تخفي وجود رقابة عسكرية رسمية على المطبوعات التي تتناول القضايا الأمنية!!! 

الأخطر من ذلك أن بار جوزيف في معرض سرده لروايته المهترئة نسي أنه ادعىأن رئيس الموساد داني ياتوم قد أنهى خدمة مروان مع الموساد عام 1997 قبل أن يحاول خليفته إفرايم هاليفي الاتصال مجددا بمروان بعد توليه المنصب عام 1998!!! فكيف يتسق ذلك مع تزايد معدلات الكتابة عن العميل المجهول وتسريب معلومات ستؤدي حتما لكشف هويته؟وكيف يمكن القبول بنظرية أن هاليفي كان يحاول حماية مروان مع علمه بأن التسريبات حول شخصه ستقود حتما لكشفه ومن ثم احتمال تصفيته؟ 

لقد اعترف بار- جوزيف بأن مروان بدأ في الاعتقاد بأن الموساد قد قرر تصفيته نتيجة اعتقاده (أي مروان) بأن محاولات الكشف عن هويته في الصحف الإسرائيلية لم تكن تتم بعيدا عن أعين الموساد. ويدرك بار- جوزيف مدى وجاهة هذا الاعتقاد عند مروان،ولكنه يدعي بدلا من ذلك أن الموساد كان في الأصل يهدف لحمايته!!! 

الأوقع إذن في ظل كل هذه التناقضات في رواية مؤلف الملاك، أن نتصور أن الموساد بعد الكشف عن فضيحة يهودا جيل،أخذته الشكوك في أنه من المحتمل أن يكون مروان قد خدعهم مثلما فعل "جيل"،وأن فحص ملف مروان مجددا بات أمرا ضروريا للتأكد من أن الموساد لم ينخدع في يهودا جيل وحده. ومن ثم، كانت التسريبات في الصحف الإسرائيلية عن مروان تتم لتحقيق هذا الهدف وهو التأكد من فرضية أن مروان لم يخن الموساد،ولم يكن عميلا مزدوجا. بل يمكن الاستنتاج أيضا بأن مستوى الشكوك التي كانت لدى الموساد في مروان قد رجحت لديهم فرضية العميل المزدوج،مما حدا بهم للمغامرة بكشف أسمه،لإجباره (أي مروان) علىالاعتراف بحقيقته أياَ كانت،أو للضغط علىالمخابرات المصرية للإدلاء بتصريح رسمي في هذه القضية يحسم عديم اليقين بشأن لمن كان ولاءه؟  

تفسير موت مروان

ننتقل من هنا إلى المحور الثاني والذي يحاول بار- جوزيف فيه استقصاء قضية: هل كان سقوط مروان من شرفة منزلة بلندن حادثة انتحار أم حادثة قتل،وإذا كان قد انتحر فلماذا،وإذا كانت جهة ما قد قامت بقتلهفمن هي: هل من خصوم في العمل،الموساد،أم المصريون؟ 

فيما يخص احتمال الانتحار،يرفض بار- جوزيف ذلك الاحتمال، عارضا وجهة نظر الطب النفسي في هذا الصدد،فيقول إن مروان من خلال طريقة حياته لا يمكن أن يكون من ذلك النوع الذي يفكر في قتل نفسه لأي سبب،إذ لا يوجد في تاريخ عائلته قصص انتحار،ولم يعان من اكتئاب أو عزلة أو صدمة مثل خسارته لعمله أو موت أحد أحبائه. ولم يكن يتعاطى المخدرات،كما أن شهود كثيرون التقوا به أو حادثوه تليفونيا قبل أيّام أو ساعات من موته ومنهم شقيقته عزه التي كانت تقيم معه وتحدثت إليه قبل موته بساعتين،أجمعوا علىأنه كان يتصرف بشكل طبيعي تماما قبل حادث مصرعه. ولكنبار- جوزيف يعترف بأن الاتصالات التي أجراها مروان والرسائل التي تركها لأهرون بيرجمان (المؤرخ الإسرائيلي الذي كان أول من كشف هوية مروان علانية)،والذي قال بعد موت مروان "يبدو واضحا لي أن اتصاله بي ثلاث مرات بظرف ساعة ونصف قبل أربعة وعشرين ساعة من وفاته،يشير إلى أزمة. لم تكن نبرته على طبيعتها. لم يكن أشرف الذي أعرفه. ورغم أن بار- جوزيف يعود للقول بأن فرضية الانتحار قد تكون صحيحة منطقيا ولكنها ليست بالضرورة صحيحة فعليا!!!! نراه  ينتقل بسرعة إلى مناقشة احتمال أن يكون قد قُتِل دون حسم حقيقي لاحتمال انتحار مروان.

يبدأ بار- جوزيف  في استعراض الجهات المحتمل أن تكون وراء عملية قتل مروان،فيرفض فكرة أن يكون خصومه في العمل مثل محمد الفايد (كان منافسا لمروان على صفقات ومصالح في بريطانيا) قد قام بقتله لأن المنافسات بينهم كانت قد انتهت منذ سنوات،كما أن الفايد ليس من النوع الذي ينتهج مثل هذه الأساليب في صراعاته في عالم البيزنس. ولأن الشائعات طالت مروان حول ضلوعه في تجارة السلاح،يذهب بار- جوزيف مستشهدا بمجلة روزاليوسف في عدد لها في مارس 2012 (الغريب أنه لا يهتم حتي بذكر تاريخ العدد بدقة رغم أنه أكاديمي ويعرف مدى أهمية التدقيق في المصادر) إلى أن الرئيس السابق حسني مبارك كتب مذكراته وذكر فيها أن العقيد القذافي أمر باغتيال مروان بسبب أمور تتعلق بخلافات حول بيع السلاح إلى دول أفريقية،ولكن المؤلف يستدرك قائلا أن هذه الفرضية مستبعده بسبب أنه لم يثبت أن مبارك كتب مذكراته،وأن مجلة روزاليوسف لا تحظى بمصداقية!!! فلماذا استعان بها أصلا ليناقش احتمال أن يكون مروان قد تمت تصفيته بسبب تجارة السلاح؟ وكيف يمكن استبعاد هذا الاحتمال لمجرد التشكيك في وجود مذكرات لمبارك أو التشكيك في مصداقية روزاليوسف؟ لماذا لم يناقش المؤلف هذا الاحتمال بشكل أعمق،ولماذا انتقل بدلا من ذلك وبشكل سريع لمناقشة احتمال أن يكون الإسرائيليون هم من فعلوا ذلك؟

علىأية حال نظل مع رواية المؤلف حتي النهاية. يشير بار- جوزيف إلىأنمنى عبد الناصر هي التي ادعت أن الموساد قام بقتل زوجها،وأن زوجها ذكر لها مرارا بأنه مهدد بالقتل وكان آخرها قبل مصرعه بتسعة أيّام،وأنه ذكر لها أن الموساد يحاول قتله.

يفسر بار- جوزيف ما قالته زوجة مروان علىأنه مسألة طبيعية،فالسيدة تحاول أن تُمحي الاتهامات التي طالت زوجها بأنه عميل لإسرائيل،بالادعاء العكسي الذي يجعله وطنيا كبيرا بدلا من خائن لوطنه. ولكنه يذكر أيضاأنإيلي زعيرا كان مقتنعا بأن الموساد ستغتال مروان، خاصة بعد صورة العناق الحار الذي تم بين مبارك وأشرف مروان في بداية أكتوبر 2003 والتي دعت الصحافي الإسرائيلي رونين بيرجمان يكتب في صحيفة يديعوت أحرنوت:أن هذه الصورة تثبت أن مروان كان عميلا مزدوجا،وفِي أعقاب ذلك زادت قناعات مروان بأن الموساد سيسعي بالفعل لتصفيته. 

يرد بار- جوزيف على ذلك، بأنه على العكس كانت الموساد تعرض على مروان الحماية ولكنه كان يرفض بإصرار (مصدر المعلومة كتاب بعنوان بعيون مفتوحة الذي ألفه تسفي زامير مع آخرين وصدر في إسرائيل عام 2011).

وناقش أيضا ادعاء اشرف مروان في بعض تصريحاته قبل موته بأنه كان عميلا مزدوجا ولم يكن يعلم بهذا الأمر سوى الرئيس السادات وحده (في موضع آخر قال مروان إن من كانوا يعرفون بخطة الخداع الاستخباراتي التي نفذها مروان لم يزيدوا عن أربعين شخصا)- وينسب هذه  المعلومة إلى محادثة تليفونية أجراها أهرون بيرجمان مع مروان يوم السادس من أكتوبر 2006، ولكن بار- جوزيف يكذب ما قاله مروان باعتبار أن الشاهد الوحيد المعروف والذي كان بوسعه تأكيد هذه المزاعم (الرئيس السادات) للأسف قد مات!!  

نصل إلىأهم نقطة في رد بار- جوزيف حول احتمال أن يكون مروان قد قتل على يد الإسرائيليين بسبب اكتشافهم خداعه لهم،فيقول في صفحة رقم 310: بافتراض صحة ادعاء مروان،فقد كان سيضطر في هذه الحالة لأن يثبت الكيفية والطريقة التي تم وفقها وضع الخطة وتنفيذها،وفِي عالم استخباراتي بالغ التعقيد،أي خطة غير محتملة وغير مسبوقة لابد أن يشترك فيها آخرون،فأين هم  هؤلاء؟.

كما نرى من خلال كل هذه التفاصيل التي أوردها بار- جوزيف،أن استبعاده لفرضية أن يكون مروان قد أقدم على الإنتحار،أو أن يكون قد قتل على أيدي شركاء له في تجارة السلاح،أو على يد الموساد... هذا الاستبعاد الذي تم على عجل وبدون تقديم مسوغات قوية تبيح ممارسته في مثل هذه القضية البالغة التعقيد، إنما يشير إلى ضعف قناعة المؤلف نفسه بإمكانية الجزم بكيفية قتل مروان، وبالجهات التي ربما وقفت من خلف الحادث. فعلي سبيل المثال، لا يمكن الارتكان إلى عدم وجود سوابق للإنتحار في عائلة مروان،أو أنه لم يمر بفترات إكتئاب (كيف تيقن المؤلف من ذلك)،للقول بأن احتمال انتحاره ليس واردا،خاصة أن المؤلف نفسه يشير إلى عاملين يمكن أن يتسببا في إصابته بالإكتئاب وترجيح  احتمال إقدامه على الإنتحار بسبب ذلك،وهما  إصابته بالسرطان،وشعوره الدائم ولسنوات بأن حياته مهدده من أطراف تريد قتله، فإذا أضفنا إلى ذلك أن مروان ربما كان يأمل في أن تضحي أجهزة الاستخبارات المصرية بسر كيفية تشغيله كعميل مزدوج وتعلن على الملأ كيف قامت بتدريبه لخداع الإسرائيليين، لترفع عنه وعن عائلته سيف الاتهامات الإسرائيلية بأنه كان يخون وطنه، وأن عدم حدوث ذلك قد أصابه بالإحباط...

لكل هذه الأسباب تبدو فرضية إقدام مروان على الإنتحار لها وجاهتها،بل ربما يمكن أن تكون أكثر الفرضيات احتمالا،خاصة إذا ما أخذنا في الإعتبار أن فرضية قتل تجار السلاح له، أو فرضية قتله على يد الموساد أو المخابرات المصرية يصعب التدليل عليها بأدلة دامغة. بمعني أكثر وضوحا، يمكن بالفعل استبعاد قيام الموساد بتصفية مروان،ولكن ليس للأسباب الواهية التي ذكرها بار- جوزيف،بل لأن الموساد كما ذكر الكاتب بنفسه كان منذ الكشف عن فضيحة يهودا جيل،يسعي للبحث في ملفات عملاء كثيرين للتأكد من أنهم لم يخدعوا الجهاز أثناء فترة عملهم تحت أمرته،وأن ملف مروان لم يستبعد من هذا البحث،وبالتالي فإن الموساد الذي لم يصل إلىأية نتيجة في هذا الشأن لا عند مقتل مروان ولا بعدها وحتي الْيَوْمَ،لم يكن ليبادر بقتله قبل الوصول إلى الحقيقة. وحتى لو تأكد الموساد من أن مروان قد خدعهم،فإن قيامهم بقتله لم يكن ليفيدهم في شئ،إلا لو افترضنا أن الموساد كان سيدبر قتل مروان للانتقام منه علىأن  يبدو موته كما لو كان قد تم على يد المخابرات المصرية،وبذلك يحقق هدفين وليس هدفا واحدا،أي الانتقام وايصال رسالة ردع لأي عميل يتصور أن خداعه للموساد لن يهدد  حياته،وأيضا إيهام الجمهور المصري أن قتله على يد المخابرات المصرية هو اعتراف صريح منها بأن مروان لم يكن رجلها بل كان رجل إسرائيل. 

لأجل ذلك من المنطقي أن يتحمس المؤلف لإثبات أن كل الاحتمالات غير مرجحة سوىاحتمال قيام المخابرات المصرية بتصفية مروان!!! 

ولكن بار- جوزيف عندما أراد أن يثبت هذا الإدعاء،قدم مبررات واهية ولا يمكن قبولها، منهاأن طريقة قتل مروان  تشبه الطريقة التي مات بها من قبل الليثي ناصف،والفنانة سعاد حسني،وأن مسرح الجرائم الثلاثة كان نفس البناية في لندن. فحسب منطقه فإنه إذا كانت الحادثتين الأوليتين قد طالت الشبهات بشأن ارتكابها جهاز الاستخبارات المصري،فلماذا لا تكون الثالثة (سقوط مروان وموته) أيضا من تدبير نفس الجهه؟! 

سوف نلمح في هذا المنطق مدى تهافته،فأولا لم تقدم  سلطات التحقيق البريطانية في الحادثتين الأوليتين ما يفيد إنها تعتبرهما جرائم جنائية،بل ظلت فرضية سقوط الليثي ناصف بسبب دوار أصابه بشكل مفاجئ،وانتحار سعاد حسني هي الأقرب للتصديق لدى هذه السلطات،وهو الأمر الذي لا يبيح للكاتب بناء يقينه بأن مروان قُتِل،وأن المخابرات المصرية هي التي قتلته علىاحتمالات لم يثبت صحة أيا منها بشهادة جهات التحقيق الرسمية. وثانيا لماذا لا نضع احتمالا بأن الموساد انتهزت شيوع الاعتقاد الشعبي في مصر  بأن موت ناصف وسعاد حسني كان مدبرا وأن المخابرات المصرية كانت الفاعل، ليدبر الموساد نفسه حادثة قتل مروان على الصورة التي تخدمه كما سبق وأن بيناه؟

ملاحظات ختامية

بعد استعراض القضايا الثلاثة التي تناولها كتاب الملاك وهي،رواية التجنيد،ونقد فرضية العميل المزدوج،واتهام المخابرات المصرية بأنها قد قامت بتصفية مروان،يهمنا أن ننبه في الختامإلى النقاط التالية والتي تلخص العناصر التي بنينا عليها نقدنا لأطروحات بار- جوزيف: 

1- أن الكتاب سعي ظاهريا لإثبات أن مروان كان عميلا خالصا لإسرائيل،ولم يكن عميلا مزدوجا،وأن المخابرات المصرية انتقمت منه وقتلته، مصورة موته أو قتله كحادث انتحار،ولكن الكتاب في جانب آخر، وغير مباشر منه، كان جزء من معركة دامت منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣ وحتي الْيَوْمَ بين الموساد وجهاز الاستخبارات العسكرية،وأن الكاتب بار - جوزيف الذي سمح له الموساد بالاطلاع على ملفات مروان التي يحتفظ بها في أرشيفه،قد حاول في هذا الكتاب الانتصار لرواية الموساد عن مروان على حساب الرواية النقيضة التي تبنتها المخابرات العسكرية الإسرائيلية عنه. 

2- أن الكتاب الذي اعتمد في أغلب مصادره على كتب وصحف ومقابلات مع مسئولين سابقين، قد خالف أبسط قواعد البحث العلمي،بسرده لروايات غير محققة،وبتقديمه لتفسيرات مبتسرة لأسئلة كانت تحتاج لجهد فائق لأجابتها،فضلا عن اعتماده على مادة غير قليلة من صحف الفضائح والنميمة الأمر الذي أفقده رصانته وقوته إلى حد بعيد.

3- لم يجب الكاتب على أسئلة منطقية،أهمها:إذا كان الموساد مقتنعا تماما بأن ولاء مروان كان لإسرائيل،فلماذا فشل في منع الكشف عن هويته والذي كان عملية طويلة امتدت على مدى ما يقرب من عشرة أعوام؟ 

4- لماذا يتصور المؤلف أن مصر الرسمية مطالبة بأن تظهر روايتها عن نفس القضية،بينما ما قدمه بار- جوزيف هو مجرد وجهة نظره هو، وليس وجهة النظر الرسمية للحكومة الإسرائيلية. 

5- أن استمرار صدور كتب عن قضية مروان وبدعم واضح من الموساد أو من المخابرات العسكرية الإسرائيلية حتي الْيَوْمَ،يثبت بأن الأجهزة الإسرائيلية لم تتوصل حتى الآن إلى حقيقة مروان،وأنها تأمل في صدور أية إشارة رسمية من مصر أو البوح بمعلومات لحسم هذه القضية نفسها وبشكل نهائي.

6- أن الكم  الكبير للمعلومات المشوهة عن أحداث مهمة في التاريخ المصري مثل حرب الاستنزاف وتقييم  ما حققته مصر من إنجازات فيها،أو مثيلتها عن  شخصيات لها اعتبارها واحترامها مثل المشير أحمد إسماعيل على،والفريق سعد الدين الشاذلى،لا يترك مجالا للشك في أنأحد أهداف الكتاب كان شن حرب نفسية على المصريين لزرع الشعور بالاحباط والخجل أو حتى العار من رموزهم الوطنية. 

وإن بقت كلمة أخيرة فإن ما عرضناه من نقد لكتاب بار- جوزيف،لم يستهدف تقديم رواية بديلة لروايته،ولم يستهدف الجزم بحقيقة مروان،بل فقط إظهار مدى ضعف الرواية الإسرائيلية عنه،بحيث تظل القضية بين باحثين من هنا وهناك، وليس بين بيانات رسمية لم تصدر أصلا من اسرائيل،وليس من الحكمة أن يقابلها صدور بيان رسمي مصري يفندها، ولنقتضي في ذلك بالموقف الشهير لشيمون بيرتس الذي كان يشغل منصب نائب وزير الدفاع الإسرائيلي عام 1965 (شغل لاحقا عدة مناصب منها رئيس الحكومة ورئيس الدولة وتوفي عام 2016)،في ذلك الوقت سأله أحد نواب الكنيست عن المشروع الغامض في قرية ديمونه (المفاعل النووي) والذي أثا غضب الأمريكيين وقلق الرئيس عبد الناصر،بينما لا يعرف نواب الشعب الإسرائيلي عنه شيئا؟ 

أجابه بيرتس: وهل يهمك أنتطمئن عبد الناصر؟ 

فرد النائب: بالطبع لا! 

رد بيرتس: إذن لا تطالبني ببيان رسمي عما يحدث في ديمونه،ودع عبد الناصر يزداد قلقا!

على هذا النحو لا يبدو من الحكمة مطالبة الدولة المصرية ببيان رسمي عن حقيقة مروان، ولندع ملف مروان مفتوحا أمامها بكل غموضه،فلسنا حريصين أيضاعلى إراحة الإسرائيليين وإزالة أسباب حيرتهم.