قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2017-10-16
محمد عبد القادر خليل

مدير برنامج تركيا والمشرق العربي - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تحديات متواصلة تجابهها علاقات أنقرة مع واشنطن، تتجاوز أزمة التعليق المتبادل لخدمات منح التأشيرات لمواطني الدولتين (عدا المهاجرين)، بحسبانها أزمة كاشفة وليست محض منشأة للتوتر المتصاعد الذي بات يكتنف روابط الدولتين. طبيعة التصعيد السياسي والإعلامي المتبادل، ونمط الاتهامات التي وجُهت للسفير الأمريكي في تركيا، جون باس، على خلفية هذه القضية، تشير إلى أن ثمة عوامل عديدة ضاغطة باتت تجعل من استنساخ تجارب سابقة لتجاوز التحولات المحتملة في علاقات البلدين ومشكلاتها الحالية - وفق ذات النهج المتبع على مدى خمس سنوات خلت- مسالة ليست واردة، وذلك في إطار علاقات أضحت أبعادها الاستراتيجية تشهد حالة من التراجع.

فقد شهدت العلاقات التركية – الأمريكية ثلاثة مستويات من التباينات الثنائية، والإقليمية، والدولية، جعلت الرؤية المتبادلة لا تتسم بالإيجابية، تزامنًا مع حملات إعلامية من اتجاهات ودوائر ليست ببعيدة عن مراكز الحكم والنفوذ، وتشير إلى أن ثمة تناقضات وتباينات سياسية لا تنسجم مع نمط التحالف المشترك، وإنما تؤسس لفكرة أن سياسات كل طرف قد تمثل للآخر تهديدًا محتملًا.

العلاقات الثنائية... "تماسك هش"

ثمة عوامل متداخلة جعلت من العلاقات الأمريكية - التركية متشابكة ومعقدة، وتقوم على عناصر تاريخية وجيواستراتيجية ومصالح مؤسسية راسخة يصعب تجاوزها في معادلات السياسات الخارجية وتوجهات المواقف الإقليمية، ليس فقط انطلاقًا من الروابط القائمة بين البلدين في إطار حلف الناتو، وإنما أيضًا استنادًا إلى العلاقات الثنائية على المستويات الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية.

بيد أنه في مقابل ذلك لم يعد التفاوض والتنازلات المتبادلة وسيلة لتسوية التناقضات، وإنما الحملات الإعلامية، والتصريحات المتشنجة، والسياسات التي لا تأخُذ في حسبانها سوى المصالح الذاتية. انعكس ذلك في مقاربة تركيا لتسوية أزمة تعليق التأشيرات، حيث اتجه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى تبني خطاب شعبوي استهدف تأجيج المشاعر القومية، وذلك في إطار التحضيرات للانتخابات الرئاسية المقبلة.

وقد تأسس ذلك على إدراك تركي بدا واضحًا بأن بعض المؤسسات الأمريكية باتت تسير في اتجاه مضاد لمسارات مصالح "الحكم الأردوغاني"، وأن واشنطن ليست بعيدة عما شهدته أنقرة في ليلة 15 يوليو 2016، من محاولة انقلاب. فخلال الشهور الماضية اُعتقِل نحو عشرة مواطنين يحملون الجنسية الأمريكية، وفق تكتيك اعتبرته جريدة واشنطن بوست "مخزي"، ويقوم على فكرة "تجميع الرهائن" للضغط على الإدارة الأمريكية لتسليم المعارض التركي، فتح الله كولن، المقيم في ولاية بنسلفانيا منذ عام 1999، والمتهم بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة.

ويبدو أن أحد محركات الإجراء الأمريكي السريع بتعليق منح التأشيرات لمواطني تركيا، تأسس على ذلك، خصوصًا أن حادثة اعتقال موظف القنصلية الأمريكية في إسطنبول، متين تايوز، لحقه استدعاء موظف آخر من القنصلية ذاتها بعد اعتقال زوجته وابنه، كما اعتقل موظف آخر من القنصلية الأمريكية في آضنة. الموظفون الثلاث تجاوزت مدد عملهم مع البعثة الدبلوماسية الأمريكية الثلاثين عامًا، ووجهت لهم جميعًا اتهامات تتعلق بدعم "الجماعات الإرهابية" و"تهديد النظام الدستوري والأمن القومي التركي". وقد بدا تكتيك المساومة التركي واضحًا بعد اعتقال القس الأمريكي البروتستانتي، أندرو برتسون، حيث قال أردوغان في سبتمبر الماضي (2017)، موجهًا حديثه للإدارة الأمريكية "أعطونا قسنا (كولن)، وسنعيد لكم القس الأمريكي".

وعلى الرغم من أهمية هذه القضية ومحوريتها في التصاعد المحتمل للتناقضات في علاقات أنقرة بواشنطن، غير أن ثمة قضية أخرى لا تحظى بذات الاهتمام الإعلامي والأكاديمي، غير أنها تشكل أحد محركات مسارات التوتر المحتملة بين البلدين، وتتمثل في قضية الفساد التي تطال الرئيس التركي ذاته وبعض أفراد عائلته، وكانت قد تفجرت في ديسمبر 2013. وبدلًا من التحقيق في التهم الموجهة لأربع وزراء آخرين، فإن السلطة التركية اتجهت إلى اعتقال كل أطراف التحقيق في هذه القضية، بدعوى الارتباط بحركة "الخدمة"، وتجاوزت التهم الموجهة للمسئولين بشأن تأسيس شبكة فساد وغسيل أموال دولية، من أجل اختراق العقوبات الأمريكية والأممية المفروضة على إيران.

وكانت السلطات الأمريكية قد اعتقلت العام الماضي تاجر الذهب الإيراني، رضا زراب، وذلك في مدينة ميامي، جنوب شرق ولاية فلوريدا، لعمله بالتنسيق مع مسئولين حكوميين أتراك لتفادي العقوبات على إيران عبر تركيا، وذلك بعد تحقيق واسع اعتبرته وسائل الإعلام التركية مؤشرًا على المؤامرة الأمريكية حيال تركيا، سيما بعدما شهد مطار جي إف كنيدي، اعتقالهاكان اتيلا، الرئيس التنفيذي لبنك "هالك بنكسي" Halk Bankası، الذي تديره الدولة التركية، وسيتم محاكمته إضافة إلى ذراب في محكمة المنطقة الجنوبية في نيويورك. وقد اتهم النائب العام المساعد في المحكمة المتهمين بالتورط في التربح لحساب مسئولين ومصرفين رفيعي المستوى في كل من إيران وتركيا، والتورط في قضية تهريب النفط الإيراني مقابل الذهب.

وتشير أوساط أمريكية في هذا السياق إلى أن أردوغان يضغط على واشنطن لتسليم كولن، فيما الورقة الأهم بالنسبة له استعادة رضا ذراب، خصوصًا بعد صدور مذكرة اعتقال أمريكية في حق وزير المالية السابق، ظافر تشاغلايان، المتورط في ذات القضية، والمرتبط مباشرة بأردوغان، الذي كان يشغل، وقتذاك، منصب رئيس الوزراء.

المستوى الإقليمي للعلاقات... تناقضات مركبة

تشكل التناقضات الإقليمية ارتدادات تلقائية لنمط "التماسك الهش" الذي بات سمة العلاقات التركية -الأمريكية، فأنقرة وواشنطن نادرًا ما اتفقتا خلال السنوات القليلة الخالية، وبدا وكأن كل دولة لها مدارها المختلف. كل ذلك في وقت تصاعدت فيه نبرة وحدة خطاب أردوغان حيال الغرب، بما جعل تركيا شكليًا جزء من التحالف الغربي في الإقليم، غير أنها واقعيًا باتت أبعد ما تكون عنه.

لقد ارتبط الخلاف الأمريكي- التركي على هذا المستوى بالتحالف الأمريكي -الكردي عبر الإقليم، وما أثاره على مستويين، أولهما، ارتدادات الدعم العسكري الأمريكي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المهيمن على قوات سوريا الديمقراطية، والذي يصنف بمقتضى القوانين التركية حزبًا إرهابيًا. وفيما حاولت تركيا طرح قوى بديلة، فإن واشنطن عززت مراكز الحزب الكردي الميدانية، وتمدداته الجغرافية على الشريط المحاذي للحدود التركية.

وفي مقابل الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية والحزب الكردي، فإن النظرة الأمريكية لوضعية الجيش التركي وقدرته على خوض معارك بديلة للقوى الكردية تتسم بالتدني، وذلك في ظل سياسات "التطهير" التي اتبعها أردوغان حيال المؤسسة العسكرية، وتراجع أهمية "وكلاء أنقرة" داخل الساحة السورية.

يضاف إلى ذلك التأثيرات المهمة للتباين بين الدولتين حيال طهران، ففيما تعمل تركيا بالتنسيق مع إيران في الميدانين السوري والعراقي، وتتوالى الزيارات عالية المستوى سياسيًا واستخباراتيًا وعسكريًا، فإن واشنطن تصعد سياسيًا وإعلاميًا حيال إيران عبر التركيز على ضرورات إعادة صياغة الملف النووي، وتحجيم البرنامج الصاروخي، ومواجهة تحركات الحرس الثوري على مسرح عمليات الإقليم.

وثمة تقديرات غربية تشير إلى أن واشنطن اعتبرت زيارة أردوغان إلى إيران مؤخرًا، وتبادل الزيارات بين كبار قادة الجيشين الإيراني والتركي بمثابة تحركات مضادة، وإذا كان من الممكن تمريرها في أوقات طبيعية، فإنه من غير الممكن في ظروف إقليمية تتفاقم فيها مظاهر التصعيد الأمريكي حيال النفوذ الإيراني على أكثر من مسرح عمليات إقليمي.

المستوى الدولي للسياسات... "المدار الروسي"

تزايدت نذر التوتر ومؤشرات الصراع في العلاقات التركية مع العديد من دول حلف الناتو، وعلى رأسها كل من ألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، هذا فيما اتجهت تركيا بخطى ثابتة خلال الفترة الأخيرة نحو توثيق علاقاتها مع كل من روسيا والصين، بل أعلنت رغبتها في الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، التي تمثل ساحة نفوذ أساسية لروسيا. وتشير اتجاهات غربية في هذا الإطار إلى أن قيام تركيا بتوقيع عقد شراء صواريخ S-400مع روسيا يمثل تحديًا كبيرًا لاستقرار العلاقات التركية - الأمريكية، بل إنه قد يدفع بفرض عقوبات أمريكية على الحكومة التركية بمقتضى القانون الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي في أغسطس 2017، والذي يقضي بمعاقبة أي كيانات أجنبية تشارك في صفقات عسكرية مع قطاعي الاستخبارات والدفاع في كل من روسيا وإيران وكوريا الشمالية.

وعلى الرغم من ذلك، فقد أقدم أردوغان على الصفقة العسكرية مع روسيا، وتقدر قيمتها بنحو 2.5 مليار دولار، قام بالفعل بتسليم دفعة أولى من المبلغ (حوالي 100 مليون دولار)، متجاهلًا التحذيرات الأمريكية. وقد برر الرئيس التركي إقدام تركيا على هذه الصفقة بقوله: "لقد طالبنا هذه الأسلحة من العديد من دول الناتو، ورُفض طلبنا، لهذا السبب يتعين علينا اللجوء إلى وسائل أخرى". وقد أوضحت بعض التقديرات الأمريكية أن ثمة توجه من قبل البنتاغون للحفاظ على منسوب معين من العلاقة مع الجيش التركي عبر محاولة إيجاد مخرج قانوني لعدم تطبيق القانون على تركيا، حتى لا تصل العلاقات إلى مستوى التصادم.

ولهذا السبب، فإن ستيفين كوك، من مجلس العلاقات الخارجية، قال في جلسة استماع للكونجرس بهذا الخصوص، إن على واشنطن أن توضح لأنقرة أن المضي قدمًا في صفقة الصواريخ الروسية يمكن أن يضفي مزيدًا من التعقيد على العلاقات المشتركة، وقد يفضي إلى تعليق مبيعات السلاح الأمريكي إلى تركيا.

هذا فيما تمثل المواقف التركية السلبية حيال السياسيات الأمريكية في الإقليم، وفق العديد من الاتجاهات الغربية الرائجة، تعبيرًا عن صراع تيارات داخل المؤسسات الأمنية التركية، سيما العسكرية منها، بين التيار الكمالي التقليدي، والتيار الصاعد والمساند للتوجه إلى آوراسيا، تأسيسًا على قناعة بأن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية باتت تشكل خطرًا وجوديًا على الدولة التركية.

وفى هذا السياق أيضًا، ثمة اتجاه يتشكك فى مستقبل عضوية تركيا فى حلف الناتو، ومن ضمن هؤلاء ضباط كبار سابقون فى الجيش التركي، مثل الأميرال المتقاعد جيم غوردنيز، والذى أشار إلى أن الحلف دعم محاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية، وأن نجاح هذه المحاولة كان من شأنه أن "يفضي إلى إعلان استقلال كردستان، والحكم الذاتي للأكراد فى جنوب شرق الأناضول، وخسارة قبرص". وطرح سؤالا حول إذا ما كانت أنظمة الرادار المتطورة، التابعة لحلف الناتو فى كورجيك فى شرق تركيا، التى تم نشرها بموجب برنامج الدفاع الصاروخي البالستي، تخدم مصالح تركيا بالفعل؟. وتساءل غوردنيز أيضًا عن أسباب حرص الناتو على إجراء تدريبات عسكرية فى البحر الأسود وممارسته ضغوطًا على تركيا من أجل أن يكون له وجود دائم هناك، مشيرًا إلى أنه حتى خلال الحرب الباردة لم يفعل الناتو ذلك.إن هذه المعطيات في جملتها تعكس نمط وطبيعة حجم التحول الذى شهدته المواقف التركية، سيما أنه سبق للرئيس التركي ذاته، خلال قمة الناتو فى وارسو، أن دعا الحلف إلى تعزيز حضوره فى البحر الأسود، كى لا يتحول إلى "بحيرة روسية".

وهكذا، يمكن القول، إن تصاعد وتيرة تصريحات الرئيس التركي حيال السفير الأمريكي في أنقرة، حينما أشار إلى أن "العملاء قد تسللوا إلى البعثات الأمريكية في تركيا"، إنما يعكس منسوبًا غير مسبوق من التوتر الذي غدت تعاني منه العلاقات مع واشنطن، وربما يكشف عن ذلك أيضًا البيان الذي صدر عن السفارة الأمريكية، كونه تضمن تأكيدًا بأن قرار تعليق التأشيرات جاء لتقييم التزامات السلطات التركية حيال أمن بعثة الولايات المتحدة الدبلوماسية، وهو ما دعمته الخارجية الأمريكية. وفيما يمثل ذلك مؤشرًا على تصاعد التوتر، قد يعمل الجانبان على احتوائه تدريجيًا، لكن حتى مع نجاحهما في احتواء هذه الأزمة فإن ذلك لن يفضي في الغالب إلى إنهاء مصادر الخلاف والتحكم في مساراته، وإنما قد يدفع إلى محض بحث سبل تسكينه قبل أن يتحول إلى صراع ليس من المستبعد حدوثه في الأمد المنظور، في ظل تناقضات مركبة وتباينات تراكمت على مدى سنوات خلت بين واشنطن وأنقرة.