سنوات طويلة كرست الفجوة بين المصريين المقيمين في الخارج والوطن الأم، حيث شهدت العديد من الممارسات السلبية التى عكست عدم الاهتمام بهذا القطاع والاستفادة منه بالصورة المثلى. صحيح أن العديد من الكيانات كانت مسئولة نظريًا عن شئون المصريين في الخارج، سواء تمثلت في وزارة الخارجية، أو وزارة الهجرة، أو قطاع الهجرة تحت عباءة وزارة القوى العاملة، لكن وجود هذه الكيانات لم يترجم لسنوات إلى اهتمام حقيقي وتواصل فعلي لأسباب عديدة، لعل أهمها غياب الرؤية والتوصيف الوظيفي، وعدم وضوح أهداف بعض هذه الكيانات من ناحية، وغياب التنسيق الكافي فيما بين الكيانات التي تتقاسم مسئولية هذا القطاع، من ناحية أخرى.
وجاءت ثورة 25 يناير 2011 لتبني جسور الثقة الحقيقية، وللمرة الأولى بين الدولة المصرية ومواطنيها في الخارج. وعكفت مجموعات وطنية على تقنين حقوق مستحقة لأبناء مصر في الخارج أسوة بأبناء الداخل؛ فكان حصولهم على حق المشاركة السياسية -تصويتًا وترشحًا- بداية من الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس من العام ذاته، وما أعقبه من استحقاقات انتخابية وصولًا إلى الانتخابات الرئاسية 2014، ثم تمثيلهم تحت قبة البرلمان بثمانية نواب.
وحرصًا من القيادة السياسية على تعظيم الاستفادة من هذا القطاع وتعزيز الشعور بالمواطنة الفعالة، تُوجت هذه المكتسبات بقرار إنشاء وزارة المصريين في الخارج في التاسع عشر من سبتمبر 2015 (وزارة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج) إعمالًا للمادة 88 من الدستور والتي تنص على أن "تلتزم الدولة برعاية مصالح المصريين المقيمين بالخارج، وحمايتهم، وكفالة حقوقهم وحرياتهم، وتمكينهم من أداء واجباتهم العامة نحو الدولة والمجتمع وإسهامهم في تنمية الوطن. وينظم القانون مشاركتهم في الانتخابات والاستفتاءات، بما يتفق والأوضاع الخاصة بهم، دون التقيد في ذلك بأحكام الاقتراع والفرز وإعلان النتائج المقررة بهذا الدستور، وذلك كله مع توفير الضمانات التي تكفل نزاهة عملية الانتخاب أو الاستفتاء وحيادها".
قرار إنشاء الوزارة استهدف تأطير ومأسسة العمل مع هذا القطاع الحيوي من أبناء مصر الذي أظهر غير مرة استعداده للتواصل والتعاون في بناء مصر الجديدة، خاصة بعد ثورة الثلاثين من يونيو التي أعادت مصر إلى بوصلتها الطبيعية كدولة مواطنة حقيقية تستوعب جميع أبنائها في الداخل والخارج.
وليس بخاف الدور الذي يسهم به مصريو الخارج في الاقتصاد الوطني من خلال تحويلاتهم النقدية، والتي وصلت بحسب آخر بيان صادر عن البنك المركزي في يونيو الماضي (2017) إلى حوالي 12.6 مليار دولار، بالإضافة إلى الدور الذي قام به المصريون في الخارج أثناء ثورة 30 يونيو تأييدًا ومساندة لخارطة المستقبل، مستهدفين بذلك التأثير على صانع القرار في الدول التي يتواجدون فيها، وتأكيد الصورة الحقيقية للأوضاع الداخلية في مصر، وبعث رسالة ومؤشر على تماسك المصريين جميعًا على قلب رجل واحد، وذلك كله كدور مكمل للدبلوماسية الرسمية، مما أضفى على الدور الرسمي قوة معنوية و تأثيرًا أكبر.
تحديات تبحث عن حل
وفيما يستمر التواصل بين المصريين في الخارج والوطن الأم، وتتصاعد وتيرة الاهتمام بهم، سواء على صعيد التوظيف الأمثل لهذا القطاع كقوة ناعمة ذكية لا يُستهان بها، يبقى على الجانب الآخر تحديات مهمة، تنتظر الحل خاصة من جانب الوزارة المعنية بالمصريين في الخارج. ونوجز فيما يلي التحديات الثلاة الأبرز.
1- نظام الكفيل
وهو نظام يعكس في آليات تطبيقه انتهاكًا لحقوق الإنسان،ويخلق للمكفول العديد من المشكلات، خاصة مع تقييد حرية التنقل، وما يستتبع ذلك من منع الكفيل لمكفوله من الاحتفاظ بجواز سفره، وهو ما يمثل امتهانًا لكرامته الإنسانية ويهدد حق المكفول في الخصوصية، سواء إذا ما أراد العودة إلى وطنه أو القيام بواجبه في مختلف الاستحقاقات الانتخابية. وتظهر خطورة هذا التحدي بصورة أوضح خلال الفترة الحالية، لاسيما ونحن على أعتاب انتخابات رئاسية جديدة تستوجب مشاركة كل من له هذا الحق في التصويت، وممارسته لواجبه دون عوائق.
ومع كل استحقاق انتخابي، وبمناسبة الإشارة إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، لاتزال مشكلة بعد المسافات ومحدودية المقار الانتخابية للناخب في الدول المختلفة عائقًا يقف أمام الكثيرين ممن يودون القيام بواجبهم الانتخابي.
يرتبط بهذا التحدي تعسف البعض في دفع المستحقات المالية للمكفول، والتي تمثل مصدرًا أساسيًا للحصول على الخدمات المباشرة التي يحتاج إليها مما قد يعرض سلامته الجسدية والحق في الحياة بشكل عام للخطر.
ومن أسف أن يستمر العمل بهذا النظام حتى الآن في المملكة العربية السعودية التي يتواجد بها ما يقرب من 2.5 مليون مصري يعملون في مختلف المهن والحرف من إجمالي 9.4 مليون مصري بالخارج بحسب إحصاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2017، وهو ما يستوجب إجراء حوار سياسي حقيقي مع الممكلة، وفتح قنوات دبلوماسية مع الأشقاء السعوديين لإنهاء العمل بهذا النظام إسوة بدول خليجية شقيقة كالبحرين والإمارات والكويت.
2- الهجرة غير الشرعية
لا شك أن الهجرة غير الشرعية هي مشكلة تواجهها معظم دول العالم، تتسبب فيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحروب والنزاعات المسلحة. وبلا شك فإن الدول، سواء كانت دولًا مصدرة أو مستقبلة للهجرة غير الشرعية، تسعى لإصدار التشريعات وتعمل على اتخاذ التدابير للحد من هذه التدفقات البشرية، التي تمثل عبئًا على الدول الجاذبة من ناحية، وتعرض مواطني الدول الطاردة لمخاطر عدة تصل إلى حد الموت من ناحية أخرى. وتتفاقم هذه المشكلة في مصر خاصة بين الأطفال/ القصر بسبب الظروف الاقتصادية والعنف الأسري، وذلك بحسب دراسة حديثة أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية حول هجرة الأطفال غير المصحوبين. ووفقًا لتقديرات الاتحاد الأوروبي، بلغ عدد المهاجرين المصريين غير الشرعيين إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط -على سبيل المثال- 344 شخصًا في عام 2015، ارتفع في 2016 إلى 2634، ويمثل الأطفال نسبة 60% منهم، وبذلك أصبح المصريون ضمن الجنسيات العشر الأوائل التى تعبر إلى أوروبا عبر المتوسط وهو ما يستوجب أن تتولى الوزارة المعنية تقديم مشروع قانون لتغليظ العقوبة على من يمارس هذه الجريمة، على أن تطال العقوبة المهربين والمتاجرين بالمهاجرين غير الشرعيين بما يحقق الردع الخاص والعام.
3- الاختراق الثقافي والفكري
"الخلجنة" و"الأمركة" مصطلحان بدأ ترديدهما عقب هجرة بعض المصريين للعمل أو الإقامة في دول الخليج والولايات المتحدة. ومع اتساع نطاق العولمة وما يسمى بالسماوات المفتوحة واختلاف وتباين الثقافات بين الدول، لوحظ ذوبان البعض في تلك الثقافات واعتماد لهجاتها ولغتها وربما أيضًا زيها بديلًا عن اللهجة الوطنية واللغة العربية والزي القومي، وهو ما يعد تشويهًا وتهديدًا ملموسًا للهوية الوطنية وما يترتب على ذلك من ضعف الانتماء للوطن الأم.
مقترحات قابلة للنقاش
بناءً على ما سبق، ومع كل التقدير للجهد المشكور الذي تبذله وزارة الخارجية المصرية، والتي أستند على تقاريرها بخصوص التعداد السكاني الأخير الخاص بعدد المصريين في الخارج، إلا أن هذا الجهد لابد أن ينتقل إلى وزارة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج لتمتلك قاعدة بيانات للمصريين خارج البلاد، وتحديثها باستمرار وتصنيفها مهنيًا، بحيث يمكن من خلالها توظيف مهارات وقدرات أبناء الوطن في الخارج للاستفادة بتجاربهم وخبراتهم في مجتمعاتهم المضيفة لدفع عجلة التنمية في وطنهم الأم.
يرتبط بذلك ضرورة العمل على إعداد حصر كامل لأعداد المواطنين المصريين المسجونين في دول العالم المختلفة، سواء الموقوفون أو من صدرت ضدهم أحكام بالسجن. وعليه، فإن إنشاء صندوق رعاية المصريين في الخارج أصبح ضرورة ملحة لتقديم الدعم القانوني اللازم لرعايتهم. ناهيك عن عقبة أخرى تسهم أموال الصندوق في تذليلها وهي نقل جثامين المتوفين خارج أرض الوطن. كما يسهم الحصرالمشار إليه أيضًا في حل مشكلة التأمينات التي تخصم من رواتب العمالة المصرية بالخارج والحصول عليها عند رغبة المواطن المصري في العودة إلى وطنه وهي مشكلة يعاني منها المصريون في الخليج بشكل عام، وفي المملكة العربية السعودية بشكل خاص بسبب نظام الكفيل الذي أشرنا إليه آنفًا. كما تتضح أيضًا مشكلة عدم الحصول على التأمينات لمصريي الخارج في بعض الدول التي تعاني حروبًا ونزاعات مسلحة مثل ليبيا واليمن وبعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا واليونان. وتبرز جهود كل من وزارات الخارجية والقوى العاملة والتضامن الاجتماعي بهذا الشأن في مقابل انحسار دور الوزارة المعنية بشئونهم.
إنسرعة استصدار القانون الخاص بتوحيد كيانات المصريين في الخارج خلال دور الانعقاد الحالي لمجلس النواب،والذي قد يسهم بشكل فاعل في توحيد الجهود لاستثمار ثروة مصر في الخارج من علماء وموهوبين من جهة، والعمل على حل مشكلات العمالة من جهة أخرى، يستوجب إعلاءً للمصلحة العليا للبلاد من قبل رؤساء الكيانات المصرية في الخارج والتي مع تعددها تعاني تشرذمًا و تفرقًا ملموسًا.
كما أن إنشاء لجان خاصة بالمصريين في الخارج داخل الأحزاب المختلفة يسهم في تحقيق التواصل المطلوب مع هذا القطاع المهم،خاصة أن عدد الأحزاب التي تضم مثل هذه اللجان لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، مع الأخذ في الاعتبار أن شئون المصريين في الخارج تدخل في بعض الأحزاب تحت عباءة لجنة العلاقات الخارجية أو بند من بنودها، مما يؤدي إلى تهميش القضية أو اختفائها في طيات قضايا خارجية أخرى.
يرتبط بذلك أهمية التوسع في إنشاء مدارس مصرية في الخارج لأبناء الجيلين الثاني والثالث، وعقد ندوات وأمسيات ثقافية في أماكن تجمعات المصريين حفاظًا على الهوية المصرية وترسيخًا للانتماء.
لجنة للمصريات في الخارج
وبمناسبة عام المرأة المصرية الذي أعلنه السيد رئيس الجمهورية، وهو عام 2017، كنت قد قدمت منذ أكثر من عام مقترحًا لاستحداث "لجنة للمصريات في الخارج" بالمجلس القومي للمرأة، أوضحت به أهمية وأسباب ضرورة استحداث هذه اللجنة بالنظر إلى ما تمثله المراة كعنصر فاعلفي كافة مناحي الحياة، وما أسهمت به من نصيب وافر على مر التاريخ في دعم مسارات التطور والتنمية في الدولة والمجتمع المصري. وبات واجبًا أن تلقى المرأة الاهتمام الذي تستحقه والذي يوازي جهدها ودورها المقدر. ومن هنا تأتي أهمية استحداث لجنة تختص بمتابعة شئون المرأة المصرية بالخارج والتي لا يقل دورها عن دور شريكها الرجل في دعم ومساندة الداخل في كافة المجالات.
ويستند اقتراح تأسيس هذه اللجنة إلى عدد من الأسباب، أوجزها فيما يلي:
- الحاجة الملحة لبناء قاعدة بيانات محدثة، يمكن الاعتماد عليها بشأن التوزيع الجغرافي للمصريات في الخارج ومجالات عملهن.
- متابعة أحوال المرأة المصرية العاملة في الخارج والتي تواجه مشكلات مماثلة لما يواجهه الرجل المصري العامل بالخارج.
- تحقيق التواصل المطلوب بين المرأة المصرية المقيمة في الخارج ومجالات التطور والتنمية في الداخل، بحيث يكتمل دورها كشريك كامل في بناء الدولة والمجتمع.
- الاستفادة من وجود نماذج متميزة من المصريات النابهات في الخارج وتوظيفهن كأدوات للترويج للسياسة الخارجية المصرية وآليات نفاذ سهلة إلى داخل المجتمعات المقيمات فيها.
- التأثير غير المباشر للمرأة المصرية في الخارج على محيطها الأسري، وحفز المشاركة الجماعية في متابعة أحوال الوطن جنبا إلى جنب.
ونقترح في هذا الإطار عددًا من الآليات لطريقة عمل اللجنة المقترحة:
- بناء موقع إلكتروني للجنة المقترحة يحمل شعار المجلس القومي للمرأة للتواصل مع المصريات في الخارج وإعلامهن بالفعاليات المتعددة وتلقي الشكاوى والمقترحات من جانبهن.
- استحداث خط ساخن للجنة يسهل الاتصال به من الخارج لتقديم شكاوى المصريات من أماكن إقامتهن.
- التواصل مع الوزارات المعنية بشئون المصريات بالخارج (وزارة الخارجية، وزارة القوى العاملة، وزارة الهجرة وشئون المصريين بالخارج) لتيسير طريقة التعامل والتنسيق بينهم وبين المصريات، وبينهم وبين اللجنة.
- إبرام بروتوكولات تعاون مع الوزارات والجهات غير الرسمية لعقد دورات تدريبية وندوات توعوية للفتيات والمرأة المصرية حول مشكلات السفر للخارج وطريقة التغلب عليها.
- إصدار كتيبات توعية بشروط السفر إلى الخارج وأماكن العمل المطلوبة وتوزيعها على أماكن تجمع المرأة المصرية في الداخل.
- إرسال بعثات من عضوات المجلس إلى أماكن تمركز المرأة المصرية بالخارج، وعقد الندوات التي تكفل التواصل مع الوطن الأم.
- التواصل مع ممثلي المصريين بالخارج في البرلمان، خاصة النائبات منهن وتقديم رؤية مشتركة لتفعيل الأداء ودعم المشاركة.
إن تأسيس هذه اللجنة المقترحة، واعتمادها على آليات العمل المقترحة السابقة، يمكن أن يرتب العديد من النتائج الإيجابية المهمة. أبرز هذه النتائج إجراء حصر تقريبي لأعداد المصريات في الخارج، وتصنيفهن وفقًا لمعايير مختلفة، تسهل الاستفادة منهن، وتضمن تفعيل التواصل معهن أو من خلالهن. كذلك، ما من شك أن هذه اللجنة سوف تضمن تعميق ارتباط المصريات في الخارج بالوطن الأم وتعزيز مشاركتهن في مسار التطور في شتى المجالات، وتوطيد أواصر العلاقة بين أبناء الجيلين الثاني والثالث -عبر الأم المصرية المقيمة في الخارج- مع الوطن الأم وحفز المشاركة في مسارات التطور المأمولة. وأخيرًا، وليس آخرًا، يمكن توظيف المصريات المقيمات بالخارج من خلال هذه اللجنة كلوبي وقوة ناعمة تروج للمصالح المصرية.