ثانيًا: هل كان أشرف مروان عميلًا مزدوجًا؟!
ناقشنا في الحلقة السابقة الرواية المزعومة من جانب يوري بار- جوزيف حول تجنيد أشرف مروان للموساد، وبينا مدى تناقضها مع روايات أسبق سربتها صحف إسرائيلية منذ عام 1997، وكتب لأكاديميين إسرائيليين آخرين مثل أهرون بيرجمان عام 2004. كما بينا أيضًا الأسباب التي تقف وراء هذه التناقضات، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أصول العمل الاستخباراتي وإجراءات اختيار وتجنيد العملاء، وكيف خالفها الموساد بشكل فادح في حالة مروان. ولأن شهادة الجنرال إيلي زعيرا (رئيس الاستخبارات العسكرية) قد ذهبت إلى اتهام الموساد بأن ما كان يعتبره أهم جاسوس له في مصر، كان في الواقع مجرد طعم ابتلعته، وتسبب في ضرر بالغ لإسرائيل، فقد ناقش يوري بار- جوزيف هذه الزاوية وحاول البرهنة على عدم صحة فرضية أن مروان كان عميلًا مزدوجًا.
وفقًا للمؤلف فإن احتمال أن يكون مروان عميلًا للمخابرات المصرية تم استخدامه كطعم لتضليل الموساد، يبدو احتمالًا ضعيفًا أو حتى خاطئًا بشكل مؤكد.
ويبني بار- جوزيف حكمه في ذلك على ثلاثة أسباب سنذكرها كما وردت في كتابه:
أولًا، إنه لا يمكن سوى لأقوى وكالات التجسس أن تعرف كيف تُشغّل عميلًا مزدوجًا على امتداد الوقت. ولم يكن هناك سوى الاستخبارات البريطانية والروسية اللذان لهما تجربة ناجحة في هذا المضمار وعلى الأخص البريطانيون، وأن الموساد امتنع عن ذلك تمامًا".وبالتالي - حسب المؤلف -فمن المستحيل أن تقوم المخابرات المصرية بهذه المجازفة، خاصة وأن الجهود التي كانوا يبذلونها لزرع جواسيس في إسرائيل أوضحت أنهم ليسوا سوى منظمة هاوية أقصى نجاحاتها كان القضاء على المعارضة داخل مصر نفسها.
ثانيًا، إن روابط مروان العائلية كونه صهر الرئيس عبد الناصر تجعل من المستحيل أن تغامر مصر به في ظل احتمال كشفه وسجنه أو قتله، وهي تكلفة لا يمكن لمصر ولا لعبد الناصر احتمالها.
ثالثًا، نوعية المعلومات التي أعطاها مروان للموساد منذ اللقاء الأول، ففي الدور الذي يلعبه العميل المزدوج مع مرشده المفترض، غالبا ما يقدم العميل معلومات حقيقية، ولكنها من النوع الذي سيبطل مفعوله بسرعة أو التي على الأرجح أن المتلقي يعرفها مسبقًا. في هذا الصدد كانت معلومات مروان موثوقة وبالغة القيمة.
لنبدأ الآن في مناقشة الأسباب الثلاثة التي ساقها بار- جوزيف لدحض فرضية العمالة المزدوجة:
1- من الواضح تمامًا اللغة الازدرائية التي تحدث بها بار- جوزيف عن المخابرات المصرية ووصفها بأنها وكالة للهواة، وأداة لقمع المعارضة المصرية في الداخل .... مثل هذه اللغة التي تنطوي على "أحكام قيمة" تلونها مشاعر الكراهية والاحتقار، لا يمكن قبولها بأية حال في عمل يقدمه أستاذ وأكاديمي مرموق، وليس صحفيًا ممن يعملون في الصحافة الصفراء وصحافة النميمة والفضائح التي اعتادت على مثل هذا النهج وهذه اللغة. وكان من الممكن لبار- جوزيف أن يدعي مثلًا أن المخابرات المصرية في الفترة التي تلت حرب يونيو 1967 تعرضت لهزة كبيرة، ليس نتيجة إخفاقها في توقع الهجوم الإسرائيلي وفقط، بل أيضًا بسبب المحاكمات التي طالت ضباطها والتي تسببت في فصل مئات من كبارهم عام 1968، وهو ما كان يعني أن هذه المؤسسة باتت مثلها مثل الجيش المصري مشغولة بإعادة بناء نفسها ومحاسبة المخطئين من رجالها، وأنها لن تكون مؤهلة في مثل هذا الوضع للتخطيط لعملية زرع جاسوس بهذا الحجم ضد إسرائيل، خاصة وأن تشغيل العملاء المزدوجين أمر صعب ويحتاج لخبرات عديدة لا تتوافر سوى لعدد قليل من الأجهزة الاستخبارية في بلدان العالم المتقدمة.
لم يقدم بار- جوزيف تفسيره على هذه الصورة التي نعتقد أنها كانت ستكون أكثر إقناعًا وأكثر رصانة كونها بُنيت على حقائق لا يمكن إنكارها، ولكنه يلجأ بدلا من ذلك إلى اللغة المتغطرسة التي يمكن أن تكون منقولة حرفيًا من تقارير الموساد التي كُتبت عن مصر في أعقاب حرب يونيو 1967، والتي تجافي في منطقها ودلالتها وأحكامها أبسط قواعد البحث الأكاديمي. أيضًا لا يمكن إسقاط حقيقة أن ما فعله بار- جوزيف ليس في هذا الجانب وحده، بل في كافة جوانب كتابه، كان يستهدف أمرًا آخر وهو الغرض الرئيسي من الكتاب، أي تكثيف الحرب النفسية ضد المصريين عبر دفع من يقرأونه منهم للشعور بالخجل والعار من قياداتهم ومؤسساتهم ليس بالأمس فقط بل واليوم وغدًا أيضًا.
2- قد يكون بار-جوزيف محقًا في أن اختيار مروان من قبل أجهزة الاستخبارات المصرية ليكون عميلًا مزدوجًا، يُعد مغامرة كبيرة بالفعل، ولكن حتى المخاوف التي تصور أنها كان ينبغي أن تراود مصر وأن تمنعها من تعريض صهر الرئيس لمثل هذا الخطر في حال كشفه ومحاكمته وربما إعدامه، أو في حالة طلب إسرائيل ثمن باهظ لمبادلته بعملاء إسرائيليين... حتى هذه الحجة لا تبيح للمؤلف، أن يتعامل معها كما لو كانت مسألة مطلقة وغير قابلة للاستثناء، بل كان يمكن لـ بار- جوزيف أن يتصور العكس أيضًا وهو أن عبد الناصر كان لديه من الدوافع لتقديم تضحية كبيرة أمام الشعب المصري في حالة كشف مروان على يد الموساد، وكان يمكن التغطية على الإخفاق الاستخباراتي المصري (لو حدث) بحملة دعاية قوية تزيد من احترام الشعب لعبد الناصر الذي أثبت بما لا يدع مجالًا للشك بأنه يعامل أفراد عائلته كما لو كانوا مواطنين عاديين. فعلى سبيل المثال، لم تتحول حادثة استشهاد الفريق عبد المنعم رياض في الجبهة عام 1969، وهو رئيس أركان الجيش المصري، إلى مناسبة تثير الإحباط، أو اليأس من القدرة على مواصلة حرب الاستنزاف، بل على العكس من ذلك اٌخذت الحادثة على منحى مغاير تمامًا بالاحتفاء بالشهيد الذي برهن على استعداده كقائد للموت بين جنوده. على جانب آخر، يبدو من غير المفهوم لماذا لم يفترض الموساد أن مغامرة المخابرات المصرية بزرع مروان لخداع الإسرائيليين حتى لو انتهت بالفشل، كان لدى مصر أوراق يمكنها أن تسترده بها من أيديهم، كأن تبادله بأسرى من جنودها (أي إسرائيل) الذين كانوا يقعوا في الأسر في عمليات عسكرية مصرية تتم خلف خطوط الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت، أو أن تبادله بعملائها الذين كشفتهم المخابرات المصرية، مثل سجناء عملية لافون التي كشفتها مصر عام 1954، والتي بقي عدد منهم في السجون المصرية حتى تمت مبادلتهم سرًا بآلاف الأسرى المصريين في حرب يونيو عام 1967 - لم تعلن إسرائيل عن هذه العملية التي تمت عام 1969 إلا عام 1975 - وأخيرًا كان بوسع مصر أيضًا أن تبادل مروان حال كشفه بصفقة لتهجير اليهود المصريين سرًا إلى إسرائيل، خاصة إذا لم تكن قد أقدمت في حالة كشف مروان على الإعلان عن ذلك؟
لم يفكر بار- جوزيف في كل هذه الاحتمالات التي كان يمكن أن تقلل من اندفاعه في اعتبار أن احتمالات كشف مروان على يد الموساد كانت رادعًا كافيًا للمخابرات المصرية لكي لا تفكر في استخدامه كعميل مزدوج ضد إسرائيل، وبدلا من ذلك تقل تقديرات الموساد التي قرأها في السجلات الأربع الضخمة التي تناولت عملية "الملاك" متخليا عن أبسط قواعد العقل النقدي وأصول البحث الأكاديمي. بل ربما لم يطالع بار- جوزيف العمل المبدع الذي قدمه الباحث اللبناني الأصل الأمريكي الجنسية، نسيم طالب، والذي ترجم للعربية بعنوان "البجعة السوداء"، وفيه لا ينفي صعوبة التنبؤ بالمستقبل قياسًا على الماضي وفقط، بل بحتمية الوقوع في الخطأ عندما تظل تشاهد البجعات البيضاء الطائرة في السماء وتعتقد أن هناك قانون غير قابل للاختراق وهو أن كل البجعات التي لم ترها بعد ستكون بدورها بيضاء اللون، فماذا ستفعل عندما تكتشف مرور بجعه سوداء؟ هل ستظل على ثقتك بقانون أن كل البجعات بيضاء بالضرورة؟ أم ستعيد حساباتك؟....على هذا النحو نوجه السؤال إلى بار- جوزيف: لقد اعتقدت أن ما قالته الموساد عن المخابرات المصرية بعد عام 1967 هو حكم نهائي غير قابل للتغيير، وبأنها (أي المخابرات المصرية) كانت وستظل هاوية وغير جديرة بالاهتمام الإسرائيلي لما تفعله أو تفكر فيه..... فهل كان بوسعك أن تضع احتمالًا ولو ضئيلًا بأن كون البجعات المصرية معظمها بيضاء لا يرتب بالضرورة ألا تظهر بجعة واحدة سوداء وتتحول إلى عميل مزدوج ؟! ربما لو افترض بار جوزيف كباحث احتمال وقوع هذا السيناريو لما تحدث بلغة اليقين والتعالي التي صاغ بها أطروحته.
3- استدل بار- جوزيف على رفضه فرضية العميل المزدوج بحجة أن المعلومات التي كان مروان يقدمها، كانت تحظى بقيمة وموثوقية عالية، وهذه النوعية من المعلومات ليس من المعتاد استخدامها في حالات تجنيد العملاء المزدوجين!!
يمكن تفنيد هذه الحجة بالعودة إلى التقيمات المتضاربة لبار- جوزيف للدور الذي كان الموساد يريد من مروان أن يلعبه، فهو يقول إن إسرائيل كانت تتأكد من صحة ودقة المعلومات التي يقدمها مروان من مقارنتها بمعلومات عن نفس الموضوعات حصلت عليها إسرائيل من مصادر أخرى داخل مصر وخارجها (ربما من عملاء مباشرين، أو عبر تبادل المعلومات مع أجهزة استخبارات صديقة)، أي أنه ينسف رواية أن مروان كان يقدم معلومات فريدة من نوعها ولا يقدمها أي مصدر آخر إلى الحد الذي جعل الموساد تغير من الاسم الحركي له في سجلاتها من "الصهر" أو "العريس"،وأحيانًا "بابل" إلى "الملاك" وفقط. أيضًا من خلال استعراضه للمعلومات والإجابات التي كان يقدمها مروان للموساد على أسئلتها، نكتشف أنه يعترف أن مروان في مرات عديده أثناء لقائه برجال الموساد في لندن لم يكن يقدم سوى المعلومات المعروفة التي تنشر في الصحف أو المجلات، وأنه لم يكن يحضر كافة الاجتماعات التي كان يجريها السادات مع مسئولي الدولة!!!
كيف إذن وثق الموساد في مروان إلى هذا الحد حتى عندما أبلغه بموعد بدء مصر الحرب في مايو عام 1972، ثم اتضح أنها كانت معلومة خاطئة؟!، وإذا كان بار- جوزيف يقول في موضع آخر إن مهمة مروان الأولى كانت إبلاغ الموساد بنوايا السادات وليس ما يحصل عليه من سلاح، فلماذا يبرر عدم إمكانية أن يكون مروان عميلًا مزدوجًا بأن معلوماته التي كان يقدمها كانت فريدة وموثوق بها تمامًا في الوقت الذي يقر بأن مهمته الأولى والتي فشل فيها بامتياز كانت نقل نوايا السادات والموعدد الدقيق لشن مصر الحرب؟
إن بار- جوزيف الذي فقد كل مهاراته الأكاديمية راح يوزع طيلة الكتاب معلومات متناقضة نسبها لمروان دون أن يتوقف للحظة واحدة ليقرأ ما كتبه ويكتشف مدى ما يثيره من سخرية، فعلى سبيل المثال يكتب في ص 101، أن شعبة الأبحاث بالمخابرات الحربية الإسرائيلية، أرسلت رجلها الأول "مائير مائير" لتقييم مروان وما يقدمه من معلومات والتأكد من أنه ليس عميلًا مزدوجًا، وأن هذا اللقاء تم في لندن في إبريل 1971 بحضور "دوبي" الذي كان يقوم بتشغيل مروان. في هذا اللقاء يطلب "مائير" من مروان أن يحضر له الخطط الحربية لمصر إذا ما نوت شن الحرب على إسرائيل، وفِي الاجتماع التالي (لم يقل تاريخه بدقه، ولكنه كان في نفس العام أي 1971) أحضر مروان في نص أوامر القيادة المعٌدة لعبور القناة... فأصبحنا الآن نعرف أن تلك الأوامر كانت في غاية الدقة، وقد تم تحديد موعد المرحلة الأولى في يوم عيد الفصح اليهودي في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973!!!!
هذا النص المكتوب بغموض متعمد لا يجعلنا نفهم ماذا كان الكاتب يقصد: هل أبلغ مروان خطة العبور وموعدها في هذا اللقاء، وأن الإسرائيليين قد عرفوا بموعد الحرب قبلها بعامين؟!!! أم يقصد بتعبير "الآن" أن الجميع يعرف الآن أن حرب أكتوبر قد قامت في السادس من أكتوبر عام 1973!!!!
يُزعم بار- جوزيف أيضًا، أن مروان نقل إلى إسرائيل عام 1971 معلومات تفيد بأن مصر لن تبادر بشن حرب على إسرائيل، ما لم تحصل على طائرات بعيدة المدى، وصواريخ سكود، الأولى لتحييد الدفاعات الإسرائيلية في عمق سيناء، والثانية لتهديد العمق الإسرائيلي إذا ما حاولت إسرائيل ضرب المدن المصرية في الداخل. كما يدعي أيضًا أن مروان أبلغ إسرائيل أن السادات غير رأيه ولم يعد يشترط حصول مصر على هذين السلاحين لكي يشن الحرب ضدها، وكان ذلك بعد شهر أكتوبر عام 1972، فما الذي حدث وجعل إسرائيل تُفاجأ بالحرب بعدها بعام أو أقل؟
يقول بار- جوزيف إنه على حين كان الموساد يثق بمروان إلى الحد الذي جعله يرسل معلوماته خام ودون معالجة أو تقييم إلى رئيسة الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان، فإن مدير المخابرات العسكرية إيلي زعيرا والمسئول عن تقديم تقديرات الموقف من خلال المعلومات التي يتم جمعها من كافة الأجهزة الاستخبارية بما فيها الموساد والمخابرات العسكرية نفسها، ظل رافضًا تعديل موقفه الذي ثبته على أنه لا مجال لنشوب حرب مع مصر إلا لو حصلت على السلاحين المشار إليهما سابقا!!! ويرى أن الفشل الاستخباراتي لإسرائيل في حرب أكتوبر لا يعود إلى عدم دقة معلومات مروان، بل بسبب سوء تقدير المخابرات العسكرية لقيمة هذه المعلومات.
نتوقف هنا مرة أخرى لنسأل: ألا يشعر بار- جوزيف بكل التناقضات التي تحويها روايته، إذ كيف تكون معلومات مروان تصل للقيادات الكبرى مباشرة وبدون معالجة من الموساد، ورغم ذلك نرى كل من جولدا مائير وموشيه ديان في حالة ذهول وصدمة عند بدء الحرب وكأنهما يسمعان عن موعد اندلاعها لأول مرة (علامات الصدمة والذهول جاءت في تصريحات ديان الموثقة والتي سجلتها وسائل الإعلام العالمية يوم السابع والثامن من أكتوبر 1973، وموجودة في شهادة ديان أمام لجنة الجنرالات التي تشكلت في إسرائيل عقب الحرب لبحث أسباب الإخفاق الإسرائيلي فيها)؟!
وإذا كان سوء تقدير الاستخبارات العسكرية أمرًا واردًا، وهو الذي جعل الموساد يرسل المعلومات التي يقدمها مروان إلى مائير وديان في صورتها الخام، فهل امتد سوء التقدير بدوره إلى كليهما؟ وكيف يمكن تقبل كل هذا الارتباك الذي يعتقد بار- جوزيف أن المؤسسة الوحيدة التي نجت من الوقوع فيها هي الموساد؟
الواقع إن كتاب الملاك، كما أن أحد أهدافه غير المنظورة هي شن حرب نفسية ضد مصر، فله أيضًا هدف آخر وهو رد الاعتبار للموساد الذي روج إيلي زعيرا حتى وقت قريب في كافة أحاديثه أنه ورّط إسرائيل في أكبر عملية خداع قام بها المصريون ضدها بإجادتهم تشغيل أشرف مروان كعميل مزدوج.
إن المعركة بين إيلي زعيرا ورئيس الموساد الأسبق تسفي زامير ظلت ممتدة حتى الْيَوْمَ، وقد أدت في بعض الفترات إلى وصول التلاسن بينهما حول حقيقة هوية وولاء مروان إلى المحاكم. وفِي هذا الصدد يقول بار- جوزيف إن الأمر حسم فيها في يونيو عام 2007 وقبل مصرع أشرف مروان بثلاثة أسابيع فقط، حيث أكدت المحكمة أن مروان كان "جاسوسًا" لإسرائيل!!!!
إن أكثر ما يثير الدهشة هنا، أن بار- جوزيف يريد أن يقنع القارئ بأن تحديد ما إذا كان مروان جاسوسًا لإسرائيل، أو عميلًا مزدوجًا ضدها قد حسم في قاعة المحاكم، مع أن حكم المحكمة تناول فقط مسألة من كان وراء تسريب اسم أشرف مروان للعلن؟ ولم يتناول على الإطلاق حسم قضية هل كان أشرف مروان رجل إسرائيل، أم الرجل الذي استخدمه المصريون لخداعها!! هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر نجد معلومة منشورة في الموقع الاسرائيلي "المصدر" بتاريخ 6 أكتوبر 2013، تقول إن المستشار القضائي للحكومة "يهوذا فاينشطابن" أعلن في أكتوبر 2012 إغلاق ملف التحقيق ضد زعيرا بموجب القضية التي كان قد رفعها زامير ضده عام 2005 بسبب كشف زعيرا لاسم أشرف مروان في حوار أجراه عام 2004 مع الكاتب أهرون بيرجمان، وقد أغلق المستشار القضائي التحقيق بدون توجيه لائحة اتهام ضد زعيرا (www.al-mascara.net)
فأيهما نصدق؟ ما قاله بار- جوزيف عن إغلاق القضية باعتبار زعيرا مدانًا وأشرف جاسوسًا لإسرائيل عام 2007، أم المعلومة الواردة في موقع إسرائيلي عام 2013 وتُكذِّب بوضوح ادعاءات بار- جوزيف!!!!
أخيرًا، لا يبقى من استدلالات مؤلف الملاك على رفض نظرية العميل المزدوج سوى ادعائه بأن مروان أخبر إسرائيل بموعد الحرب مرة أخرى قبل أن تقع بيومين فقط !!! فيقدم رواية أخرى أكثر اهتراء وسذاجة من رواية نقل مروان النوايا المصرية أول بأول، إذ يقول في صفحة 154 بالنص، إن مصر قد غيرت خططها الحربية في يناير عام 1973 واعتمدت خطة أطلق عليه اسم "المآذن العالية"، وأنها تضمنت الخطة القديمة التي كان مروان قد أعطاها للإسرائيليين عام 1970 (لاحظ أنه ادعى سابقًا أن أول لقاء لمروان بالموساد تم في يناير 1971، وأن المعلومات التي تتعلق بالخطة الحربية المصرية، قدمها مروان إليهم في إبريل من نفس العام)، ليصل إلى أهم عبارة تنسف ادعاءه بأن مروان أبلغ إسرائيل بالخطة الجديدة أيضًا بقوله في نفس الصفحة: تم التستر على عملية "المآذن العالية" بسرية تامة، وليس فقط على الإسرائيليين !!! ولا ينكر بار- جوزيف أن بعض رجال المخابرات العسكرية الإسرائيلية، ومنهم العميد يوناح باندمان إلى جانب الجنرال إيلي زعيرا، استندا في شكهم في ولاء مروان لإسرائيل إلى حقيقة أنه أبلغ إسرائيل مرتين بموعد نشوب الحرب أحدهما في أواخر عام 1972، والثاني في إبريل 1973، ثم أخيرا قبل نشوب الحرب فعلًا بيومين. وحسب زعيرا، فإن تكرار نقل مروان إنذارات كاذبة بحرب لا تقع، وحسب باندمان: فإن مروان كان يكذب على إسرائيل بهدف خداعها مثله مثل راعي الغنم في القصة الشهيرة والذي يطلب النجدة كجزء من عملية دعابة أخذها الناس في البداية بجدية، ولكن عندما تكررت الاستغاثة ذات مرة وكانت حقيقية لم يجد الراعي من ينقذه .... حسب الرجلين كان مروان ينفذ خطة دقيقة لخداع إسرائيل، وحتى إبلاغه لها بالموعد الصحيح قبل الحرب بيومين احتوى بدوره على جزء خداعي بالزعم بأن الحرب ستنشب في السادسة مساء السادس من أكتوبر، بينما بدأت الحرب فعليا قبلها بأربعة ساعات، الأكثر غرابة أن المؤلف يقول إن مروان التقى بمشرفه الإسرائيلي في أوائل سبتمبر 1973 وأخبره أن السادات يعد لحرب سيكون موعدها على الأكثر نهاية العام !!!!
أي أن إسرائيل كانت تتلقي دومًا من مروان معلومات تثير الارتباك فيما يتعلق بموعد الحرب، فهو تارة يحددها باليوم والساعة، وتارة أخرى يحددها بشكل تقريبي، ثم تأتي الطامة الكبرى بقبول بار- جوزيف لرواية أن مروان عندما أبلغ مٌشغله "دوبي" - مسئوله في الموساد - بموعد السادس من أكتوبر، استخدم في حديثه التليفوني والذي أجراه في مساء الرابع من أكتوبر شفرة معينة، بحيث إذا تحدث مروان عن "مواد كميائية" فيعني أنه يحذر من حرب وفقط دون تحديد موعد دقيق لها، وإذا استخدم أحد العناصر الكميائية مثل البوتاسيوم فيعني أن الحرب وشيكة؟
ماذا فعل مروان في هذه المحادثة وهو مفترض أن يكون على علم بكل ما يقوله السادات أو يفكر فيه كما ادعى الموساد؟ لقد استخدم تعبير أنه يريد لقاء "دوبي في لندن" لمناقشة "المواد الكميائية"!!!!
أَي أن الرجل الذي يثق به الموساد ثقة عمياء والذي صورته ملفاتها على أنه متغطرس مغرور، لا يهتز أمام أصعب الاختبارات، نجده فجأة في حالة ارتباك - كما يُزعم الكاتب - ويخطأ في استخدام التعبير الصحيح للإبلاغ عن أن الحرب باتت وشيكة ويستخدم بدلًا منها تعبيرًا يشير إلى أن هناك حديث عام عن حرب لا يُعرف متى ستنشب ولكنها ليست قريبة!! وحتى بعد أن التقى برئيس الموساد شخصيًا في لندن مساء الخامس من أكتوبر لم يبلغه بموعد الحرب بدقة، ولكن بار- جوزيف الذي يحاول الدفاع باستماته عن نظريته القائلة بأن أشرف مروان كان العميل الأكثر أهمية لإسرائيل ولم يكن عميلًا مزدوجًا، يقول إن مروان لم يعرف بتاريخ الحرب بالفعل، وأن شهادة أصدقائه الذين التقوا به قبل يوم من الحرب ومنهم محمد نصير (الذي كان يمتلك شركة فودافون مصر في وقت لاحق) قالوا إن مروان فوجأ بأن الحرب على وشك الاندلاع باستقراء مؤشرات معينة منها رحيل عائلات الخبراء الروس الذين كانوا يدربون الجيش المصري، ومنها أمر خاطئ تم تعديله لاحقًا بوقف رحلات الطائرات المدنية من وإلى القاهرة يوم السادس من أكتوبر.
كيف يمكن لنا أن نفهم كل هذه التناقضات التي يقدمها بار- جوزيف عن المعلومات التي أوصلها مروان لهم على مدى ثلاث سنوات واحتوت على إنذارات كاذبة، وتقديرات جزافية، ونوايا غير موثوق منها، وشفرات مضلله، ثم نجده في الوقت ذاته يدافع عن إخلاص مروان للموساد، دون أن يترك لنفسه الفرصة لبحث أكثر دقة في احتمال أن مروان قد يكون بالفعل جزء من خطة خداع مصرية محكمة؟
هل يمكن قبول هذه الرواية المهترءة من أكاديمي يفترض فيه التدقيق في الروايات التي يقرأها أو يسمعها، خاصة لو كانت تتناول شئون بالغة الحساسية، ولها تأثير على الأمن القومي الإسرائيلي في المستقبل كما كان لها تأثير في الماضي؟
هل كانت الدوافع الخفية لتأليف الكتاب، ومنها شن حرب نفسية ضد المصريين، وتعزيز مكانة الموساد في إطار المنافسة المريرة والتي لا تنتهي بينه وبين المخابرات العسكرية الإسرائيلية حول من له اليد الطولى في تقديم التقديرات الاستخبارية التي يأخذ بها صانع القرار... هل كانت هذه الدوافع وراء فقدان الكتاب لأبسط قواعد المنطق والعقل، فضلًا عن الأصالة العلمية وهو يتناول جزء من تاريخ دولة إسرائيل في علاقتها بالعالم خلال واحدة من أشد فترات الخطر الذي تهددها؟
إجابة كل هذه التساؤلات ومن قتل مروان في النهاية ستكون موضوع الجزء الثالث والأخير من قراءتنا النقدية وملاحظاتنا المنهجية على هذا الكتاب.