اتخذت تركيا مقاربة علنية على المستوى الإعلامي والسياسي تقوم على رفضها إجراء حكومة كردستان العراق استفتاءً حول استقلال الإقليم، واعتبرت أن ذلك يمثل مخاطر كبرى، ليس فقط بالنسبة للدولة العراقية، وإنما أيضًا للدولة التركية ومسار التفاعلات في المنطقة. في هذا الإطار، تحركت القيادة التركية في ثلاثة مسارات متوازية، تعلق أولها بالمستوى الدولي، حيث أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة رفض الاستفتاء الكردي، كما شمل ذلك تحركات بالتنسيق مع فرنسا لمحاولة إلغاء فكرة الاستفتاء، عبر مفاوضات وجهود وساطة بين حكومة العراق وحكومة إقليم كردستان.
وجاء المسار الثاني، عبر العمل على المستوى الإقليمي بالتنسيق مع حكومتي العراق وإيران. ففيما استقبلت هيئة الأركان التركية، رئيس الأركان الإيراني، اللواء محمد باقري، في أول تحرك خارجي على هذا المستوى منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، فعلى جانب آخر استقبل رئيس الأركان التركي، خلوصي آكار نظيره العراقي، الفريق أول عثمان الغانمي، وذلك للتباحث حول سبل التعاطي مع التحدي الكردي، وذلك استكمالا للمسار الدبلوماسي الذي تكلل بلقاء ثلاثي بين وزراء خارجية الدول الثلاث على هامش اجتماعات الأمم المتحدة.
وعلى المستوى الداخلي، شملت المقاربة التركية التحرك على مسارين، أحدهما سياسي – تشريعي، والآخر عسكري – أمني. وفيما يخص المسار الأول، توالت التصريحات التركية على كافة المستويات للتنديد بالخطوة التي اتخذها مسعود بارزاني رئيس إقليم شمال العراق، وتعددت التهديدات بأن تركيا ستتبنى إجراءات عقابية حيال حكومة الإقليم التي دعمتها طيلة السنوات الخالية. هذا فيما انعقد البرلمان في جلسة استثنائية لتمديد عمل القوات التركية خلف الحدود السورية والعراقية.
وعلى المسار العسكري – الأمني، تموضعت المدفعية التركية بالقرب من إقليم كردستان عبر مناورات في منطقة سلوبي التي تبعد عن حدود الإقليم بنحو 2 كم، وذلك لإجراء مناورات عسكرية في الفترة من 18 إلى 26 سبتمبر (2017)، أي لما بعد الاستفتاء، في رسالة ضمنية قُصد منها الإيحاء بأن تركيا تهدد إقليم العراق الشمالي. تلى ذلك رفع أنقرة درجة الاستعداد العسكري على الحدود مع العراق. وفي الاتجاه ذاته، انعقد مجلس الأمن القومي التركي، الذي أكد أن الاستفتاء الكردي غير دستوري. وأوضح البيان الختامي للمجلس "احتفاظ أنقرة بحقوقها في الدفاع عن مصالحها التاريخية، الواردة في اتفاقيات ثنائية ودولية حال ما نظم الاستفتاء على الرغم من كل تحذيراتنا". لكن البيان لم يوضح طبيعة هذه الحقوق.
بيد أن المتحدث باسم الحكومة، بكير بوزداغ، أشار في هذا السياق إلى احتفاظ أنقرة بحقوقها التاريخية المنبثقة عن الاتفاقيات الثنائية والدولية، ولفت إلى أن هذه الاتفاقيات تنصرف إلى "لوزان 1923"، و"أنقرة 1926"، و"الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في عام 1946"، و"التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في 1983"، وهو الأمر ذاته الذي كان قد أكده أكثر من مسئول تركي، وذلك في رسائل تركية متواصلة لإقليم كردستان والفاعلين الإقليميين والدوليين، ظاهرها أن تركيا ستتبنى كافة التدابير لإحباط خطط الأكراد. غير أن مضمونها إذا ما أُخذ في سياق التصريحات التي صدرت عن قيادات تركية طوال عقود سابقة بشأن حقوق تركيا في أراضي العراق، يكشف أن ثمة استعداد تركي لتحويل عبء الاستفتاء لفرصة حال ما أفضى إلى انقسام الدولة العراقية.
محددات الموقف التركي
استندت المقاربة التركية على عدد من المحركات الرئيسية عكست في جملتها طبيعة الموقف التركي، وعكست طموحًا طالما عبر عنه العديد من المسئولين الأتراك، بدءًا من عندنان مندريس، مرورًا بتوغورت أوزال وعبد الله جول، وأخيرًا رجب طيب أردوغان. لقد قامت هذه المقاربة على أن التوجه التركي حيال التطورات في العراق لا يتعلق بمحض تأثيراتها وارتداداتها المحتملة على أنقرة، وإنما يرتبط بالأساس بالحقوق التاريخية التي يمكن لتركيا أن تطالب بها، سيما فيما يخص مدينة الموصل وحقوق التركمان في مدينة كركوك.
ولذلك استعدت الحكومة التركية لكافة الاحتمالات، التي قد ترتبط بتزايد مؤشرات التصعيد العراقي– الكردي، وما قد يترتب على ذلك من فوضى أمنية قد تستدعي التدخل العسكري، آخذا في الاعتبار سياق المواقف الإيرانية التي تتخذ موقفًا أكثر تشددًا في هذا السياق، نظرًا لوجود أقلية كردية في إيران، تقدر حسب بعض التقديرات بنحو 6 ملايين مواطن، وذلك على النحو الذي يدفع بمحاولة استنساخ التجربة العراقية في طهران، بما قد يعنيه ذلك من احتمالات التصعيد العسكري في مناطق تمركز الأكراد، وعلى نحو قد يطلق جماح طموح الأقليات الإيرانية الأخرى. كما يرتبط ذلك أيضًا بالتخوفات التركية- الإيرانية من إمكانية عزل الدولتين عن نطاق الجوار العربي عبر "حزام جغرافي كردي". ويبدو الأمر بالنسبة لإيران يتسم بدرجة أعلى من التعقيد في ظل أنماط العلاقات المحتملة بين الإقليم الشمالي وإسرائيل، التي أعلنت صراحة عن تأييدها لإنشاء دولة كردية في شمال العراق. وتخشى طهران كذلك مما تشكله دولة الأكراد من عائق أمام "خط الحرير الإيراني" والذي يمتد عبر أراضيها إلى بغداد ومنها لسوريا فلبنان.
وتعتبر تركيا أن التصعيد الإيراني– العراقي ضد أكراد العراق على المستوى العسكري قد يكون محتملًا في مرحلة من المراحل، بما يدفع أنقرة إلى الاستعداد لاستغلال تطورات الموقف لإعادة ما تعتبره على لسان مسئوليها حقوقا تاريخية لتركيا في الأراضي العراقية. ويبدو أن استخدام تركيا "دبلوماسية المدفعية" ذاتية الحركة، والتي تبدو على غرار "دبلوماسية البوارج" في القرنين الماضيين، ليست لإثارة تهديدات، وإنما لدفع الأطراف الأخرى نحو تصعيد لن تتورط فيه تركيا إلا بقدر ما يحقق مصالحها كونها من ناحية تعي أن تشكيل دولة كردستان، مرتبط بقرار دولي، وأن حكومة الإقليم لم تكن لتقدم على هذه الخطوة ما لم تكن قد أمنت بالفعل تأييدًا مستترًا من قوى دولية رئيسية، كالولايات المتحدة وروسيا. ذلك أنه، في الوقت الذي تعارض فيه واشنطن الاستفتاء الكردي، على الصعيد الإعلامي، فإنها صاحبة النفوذ الأكبر في الإقليم، كما تتمركز قواتها العسكرية داخل الإقليم، وترتبط باتفاقات تجارية ضخمة تم التعاقد عليها في تخطي واضح لسلطة الحكومة المركزية، ومن ضمنها اتفاق بي أكسون موبيل في الفترة التي كان فيها ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكي الحالي، رئيسًا تنفيذيًا للشركة. وتقدر احتياطيات الإقليم من النفط بنحو 45 مليار برميل، ومن الغاز بنحو 5.66 تريليون متر مكعب، وهى احتياطات مرشحة للتزايد مع استمرار عمليات التنقيب.
ولا ينفصل الموقف التركي أيضًا عن إدراك طبيعة الموقف الروسي، وذلك في ظل التقارب التركي– الروسي على صعيد التفاعلات الثنائية والإقليمية، وأيضًا تأسيسًا على تحول روسيا إلى أكبر منافس لمصالح تركيا في الإقليم. فبينما تقدر الاستثمارات التركية في الإقليم بنحو 40 مليار دولار، حسب بعض التقديرات - منها نحو مليار ونصف المليار في قطاع النفط، وحوالي 200 شركة في شمال العراق تتبع القطاع الخاص التركي يعمل بها نحو 200 ألف عامل كردي- فإن روسيا تحولت منذ فبراير 2017 إلى الممول الأكبر لصفقات النفط والغاز الكردي باستثمارات تقدر بنحو 4 مليار دولار، وذلك في فترة لم تتعد عامًا واحدًا. هذا في وقت لا يتجاوز ما يحصل عليه الإقليم من تركيا حدود 1.5 مليار دولار.
ولم تبد روسيا في هذا الإطار أي رفض لإجراء الاستفتاء الكردي، فقد ذهب وزير خارجية الروسي، سيرجي لافروف، إلى أن روسيا مهتمة بتحقيق أهداف الشعب الكردي مثل أي شعب آخر على هذا الكوكب له آماله وطموحاته، وذلك في إطار الأعراف الدولية. وأوضح لافروف في يونيو 2017 أن موسكو لن تعارض الاستفتاء الكردي. جاء ذلك في مدينة سان بطرسبرج إثر اجتماع مع وفد كردي رسمي. وتعد شركة روزنفت الروسية أول شركة أجنبية كبرى تتعهد علانية بالتمويل المسبق للصادرات النفطية الكردية. وقد قال ميخائيل ليونتيف، المتحدث باسم روزنفت، إن "إجراء استفتاء لن يؤثر على أعمالنا في إقليم شبه مستقل ومعترف به بحكم القانون.. هذا المكان تديره دولة كردستان العراقية، ونحن لا نعتقد أننا بصدد الشروع في مغامرة".
وبينما تنشغل طهران بالشأن العراقي وتحولاته، فإن الموقف التركي يعد أحد محركاته الأساسية ما يحدث في شمال سوريا، حيث مناطق تمركز الأكراد على حدودها الجنوبية، وذلك في إطار ارتدادات استفتاء إقليم شمال العراق، والذي تلى الدعوة إليه مباشرة في 7 يونيو 2017، لانتخابات محلية ستشمل ثلاثة أقاليم، هي إقليم الجزيرة الذي يضم مدن وبلدات محافظة الحسكة، وإقليم الفرات، والذي يشمل مناطق تل أبيض وعين العرب وصرين، وإقليم عفرين بريف حلب.
وتجرى الانتخابات على ثلاث مراحل، بدأت باختيار لجان محلية في 22 سبتمبر 2017، يعقبها العمل على تأسيس مجلس تشريعي محلي في يناير 2018، لتتشكل مؤسسات حكم ذاتي من جانب واحد. ويتزامن ذلك مع توالي التقارير عن الشحنات العسكرية الأمريكية إلى أكراد سوريا، بما يعني دعم غير مباشر لمشروعهم في الشمالين السوري والعراقي. ويعد ذلك محركًا أساسيًا للأتراك للعمل على صوغ مقاربتهم الخاصة لإحباط التوجهات الأمريكية، التي تعتبر أنقرة أنها قد تأتي في مرحلة لاحقة على حساب تركيا وحدودها الجغرافية.
حدود التصعيد التركي
وفق المعطيات الراهنة، اكتفت الحكومة التركية بالتصريحات ضد إقليم شمال العراق، ولم تتخذ أي إجراءات عقابية فعلية حتى الآن ضد الاستفتاء الكردي. وللحكومة التركية نحو 2000 جندي يتمركزون داخل كردستان العراق، وهناك عناصر بالقرب من الإقليم في مخيم بعشيقة، كما لم تعلن أنقرة على غرار طهران غلق الحدود الجوية مع الإقليم، ولم تقدم أيضًا على قطع الصادرات أو وقف التبادل التجاري الذي بلغ عام 2014 ما يناهز 12 مليار دولار سنويا. كما لم تعلق أنقرة تحويل الأموال مقابل نحو مليون برميل نفط يتم تمريرهم يوميا عبر الأراضي التركية، ولم توقف عمل البنوك التركية التي تشكل عصب المعاملات المالية في الإقليم.
كل ذلك يعني أن التصعيد التركي (الشكلي) الغرض منه هو دفع كل من طهران والعراق للتصعيد، بما يفضي إلى استنزاف القدرات ويدفع إلى تقديم كافة الأطراف إلى تنازلات للجانب التركي في محاولة لاستمالته. وفي هذا السياق، ترغب أنقرة في سعي بارزاني للتوافق معها فيما يخص خيارين، الأول يتحقق في حال تفاقم الوضع الاقتصادي بسبب الإجراءات العقابية المحتملة ضد الإقليم، بحيث تنحصر خيارات الإقليم في تأسيس كونفيدرالية مع الدولة التركية، ستأتي في إطار إعادة تطبيع العلاقات التركية مع أكراد الداخل. وقد تحدث أكثر من مسئول تركي حول هذا المشروع المحتمل، من ذلك تصريحات لمستشار الرئيس التركي، أردوغان ييغيت بلوت، أن الاستفتاء قد يكون لصالح تركيا التي تمتلك خطة فعلية لضم جمهورية أذربيجان وشمال العراق إلى تركيا. هذا فيما تحدث مسئولون أتراك آخرون إبان حملة الاستفتاء التركي حول اتجاه تركيا في مرحلة لاحقة لتأسيس إدارات محلية تضمن للأكراد إدارة جنوب شرق البلاد. فيما يتمثل الخيار الثاني في استغلال حالة الاضطرابات السياسية والأمنية التي قد تنتج عن الاستفتاء الكردي من أجل التدخل العسكري لضمان السيطرة على مدينتي الموصل وكروك، فمن أجلهما نظم حزب الحركة القومية مسيرات وعقد مؤتمرات تحت عنوان "التضامن مع مدينتي كركوك والموصل"، والتي تعتبر أنقرة أن غالبية مواطنيهما الأصليين من التركمان.
وترى تركيا أنه بمقتضى اتفاقية لوزان ومعاهدة أنقرة الموقعة في يونيو 1926 بين بريطانيا وتركيا، والتي تم بموجبها ترسيم الحدود مع العراق، وعلى أثرها تم التنازل عن مناطق شمال العراق المتمثلة في ولاية "الموصل" و"كركوك"، فإن المدينتين تؤولان إلى تركيا إذا ما انفصلت كردستان عن العراق.
ووفق التصريحات التركية، والتي جاء بعضها على لسان الرئيس السابق عبد الله جول، فإن استمرار المعاهدة مرتبط ببقاء العراق موحدًا، فيما يمثل تقسيم الدولة العراقية دافعًا قانونيًا لأن تعيد تركيا بسط سيطرتها على كركوك والموصل من أجل الحفاظ على الحقوق التاريخية للدولة التركية والمواطنين التركمان. يرتبط ذلك ليس فقط بطبيعة الخرائط التي نشرتها وسائل إعلام مقربة من الحكومة، حيث شملت الحدود التركية المدينتين العراقيتين بالإضافة إلى أجزاء من الأراضي السورية (شمال حلب وأدلب)، وإنما يرتبط أيضًا بسعي تركيا إلى التحول من دولة مستوردة للطاقة إلى دولة مصدرة لها، من خلال ضم هذه المناطق الغنية بالموارد النفطية.
إحدى الخرائط التركية المنشورة والتي وضعت مدينتي كركوك والموصل العراقيتين وبعض أجزاء سوريا داخل الحدود التركية
بمعنى آخر، يمكن القول إن التصعيد الإعلامي والاستعدادات العسكرية في مدينة سلوبي الحدودية تأتي في إطار المقاربات التركية للتعاطي مع التطورات المتلاحقة للاستفتاء، ليس فقط من أجل ضمان عدم تحمل تركيا أية خسائر ناتجة عن تداعيات هذا الاستفتاء، بل وأن تغدو واحدة من أكثر الفاعلين الإقليميين استفادة منه.