محمد جمعة

باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

بالنظر للخسائر المتلاحقة لتنظيم "داعش" في العراق وسوريا، يمكن القول إن التلاشي البطيء لما يُسمى بـــ "دولة الخلافة" التي أعلنها زعيم داعش أبو بكر البغدادي فى العام 2014، وصل إلى نقطة بات فيها منطقيًا التساؤل حول مصير التنظيم وخلافته المزعومة. وهنا يمكن القول بأن مستقبل "داعش" وبقاءها سيتحدد بموجب تفاعل عدد من العوامل، أضعفها أثرًا خيارات التنظيم ذاته. وأقواها ربما يرتبط بخيارات فواعل أخرى. هذا التفاعل المعقد بين فواعل محلية وخارجية، وما يفرزه من تأثيرات، متوقعة وغير متوقعة، سيفضي بالضرورة إلى عدد من المسارات المحتملة لجماعة داعش.

أولًا: الاستراتيجيات المعتمدة فى مواجهة داعش

ثمة استراتيجيات أربعةتعتمدها الدول عادة فى التعامل مع التنظيمات الإرهابية بشكل عام ومن بينها داعش، هي:

1- عدم الاشتباك

 بمعنى الاعتماد بالكامل تقريبا على بلدان أخرى لمواجهة التنظيم الإرهابي. وهو خيار متاح فقط ربما للدول أو البلدان التي لا تواجه تهديدًا مباشرًا من قِبَل التنظيم الإرهابي المراد مواجهته، وذلك على غرار ما فعلت إدارة أوباما عام 2011 عندما انسحبت من الساحة العراقية بشكل سريع، بينما استمر تنظيم "دولة العراق الإسلامية" - التنظيم السابق على داعش- في تنفيذ هجمات مروعة، وتمدد في هذا الفراغ الأمني والعسكري. وقد أشار كتاب نشرته مؤسسة "راند"RANDهذا العام بعنوان "تقويض الدولة الإسلامية"  Rolling back the Islamic Stateإلى أن استراتيجية عدم الاشتباك كثيرًا ما أفضت إلى تبعات غير مقصودة وسيئة على امتداد سنوات. فقد فتح الانسحاب الأمريكي من العراق في 2011 أبواب الجحيم، وساعد على بعث "تنظيم دولة العراق الإسلامية" مرة أخرى وتحوله إلى " تنظيم الدولة الإسلامية- داعش"، وانتشاره عبر الإقليم[1]. كذلك، بعد إعلان إدارة أوباما عام 2014 عن انتهاء مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان، تمكن تنظيم داعش من اختراق الساحة الأفغانية وتكوين خلايا نشطة هناك.

2- الاحتواء

الاستراتيجية الثانية هي"الاحتواء". بمعنى منع التنظيم الإرهابي من توسيع نطاق سيطرته ونفوذه، لا السعي إلى تقويض تلك السيطرة أو ذاك النفوذ.[2]وغالبا ما تلجأ الدول إلى هذا الخيار إذا لم تكن تستشعر تهديدا مباشرا من التنظيم الإرهابي، وفي الوقت ذاته تتحسب لتبعات توسع نطاق نفوذه وتأثيره.

وقد اتبعت إدارة أوباما هذا الخيار بالفعل منذ ربيع وصيف 2014(وحتى أواخر العام 2015) بعد هجمات داعش الكثيفة في الأنبار والموصل. وركزت في البداية على احتواء التهديد والمساعدة في الدفاع عن بغداد.  إلا أن هذه الاستراتيجية ثبت أنها غير ناجحة بالمرة. فمن غير المرجح على الإطلاق أن يؤدي تقليم أظافر تنظيم إرهابي عابر للحدود مثل داعش إلى انهيار التنظيم، أو تشظيه بمرور الوقت. أيضًا، فإن ملاحقة منصات داعش الدعائية عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تصبح أصعب بمرور الوقت. إذ أثبتت عناصر التنظيم قدرتها على تجاوز آليات الحظر والمراقبة، وتوظيف منصات التواصل الاجتماعي بشكل ماهر وفعال. والأخطر، أن تبني فواعل مهمة - سواء إقليمية أودولية - هذا الخيار في البداية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ساهم في إطالة عمر التنظيم ولم يفض إلى تخفيض سقف المخاطر بالمرة، بحيث إنه وحتى بافتراض تفكك تنظيم داعش وانهياره الآن، فإن خطر عناصره سيظل قائما بعد أن بات للتنظيم قواعد وملاذات منتشرة داخل وخارج مناطق الصراع.

3- التقويض عن بعد

الاستراتيجية الثالثة هي"التقويض عن بعد" (اعتمادا على فواعل أخرى محلية من غير الدول، مع دعمها بقوات عمليات خاصة وأجهزة استخباراتية وقوات جوية تابعة للدول التي تواجه التنظيم).وهذه الاستراتيجية هي التي تتبناها الولايات المتحدة حاليا لمواجهة تنظيم داعش، وإغلاق الدائرة عليه في معاقله الرئيسية في العراق وسوريا، وتجريده من قواعد ونطاقات سيطرته على أراض بداخل البلدين، وأيضًا الجماعات الموالية له في مواضع أخرى مثل ليبيا، نيجيريا وأفغانستان.

وهنا تتعين الإشارة إلى أن استراتيجية تجريد داعش من قواعده على الأرض، لا تهدف إلى القضاء عليه، بل تقويض قدرة وكفاءة التنظيم على تنفيذ عمليات إرهابية ضخمة ومعقدة، وأيضًا قدرته على إلهام تنظيمات أخرى تحاكيه أو تتماهى معه. الأمر الآخر أن تنفيذ خطة ترتكز على "التقويض عن بعد" يتطلب فترة زمنية طويلة نسبيا، ربما سنوات. ما يعني أنه سيكون أمام التنظيم فرصا للتعافي أو الانتقال إلى ساحات أخرى، وربما تفكيك نفسه انتظارا للحظة أخرى مواتية للصعود من جديد.

 باختصار، هذه الاستراتيجية ستدفع عناصر التنظيم إلى النزول تحت الأرض مرة أخرى، ولكن إرهابه سيستمر بصور عديدة سنناقشها في نقاط تالية.

4- التقويض الشامل

تقوم استراتيجية "التقويض الشامل"على شقين.أولهما، الاشتباك العسكري الكثيف، وذلك بنشر قوات نظامية كثيفة والاشتباك مع التنظيم عسكريا، بهدف تجريد التنظيم من كافة مكاسبه التي حققها، وحرمانه من معاقله، وبالتالي إضعاف التنظيم ثم القضاء عليه. وهذه هي أسرع استراتيجيات القضاء على التنظيمات الإرهابية، إلا أنها تنطوي على عقبات ومخاطر، على رأسها تهديد حياة المدنيين وممتلكاتهم. إذ إن التنظيمات الإرهابية، مثل داعش وفروعها، تعمل وتختبئ وسط المدن والقرى. كما أن نشر قوات كثيفة بهذا الشكل، وأيضًا استخدام أدوات الحروب النظامية الشاملة لابد وأن يفضي إلى خسائر بين المدنيين، الأمر الذي قد يكون له تبعات سياسية واجتماعية خطيرة.ثانيهما، وجود برنامج شامل ومحدد المدة لملء الفراغ الناتج عن تقويض التنظيم، وإعادة بناء ما تهدم بفعل عملياته، وأيضًا أعمال مكافحة الإرهاب. ناهيك عن أهمية التأهيل النفسي والثقافي للأهالي الذين خضعوا لتجارب شديدة القسوة بداية من السقوط بين فكي التنظيم، ثم ما لحق بهم من خسائر وما تعرضوا له من محن حتى نجاح عمليات مكافحة الإرهاب. هذه البرامج تتطلب تعاونا ومساندة دولية، وأيضًا وضعًا اقتصاديًا مستقرًا داخل البلد المهدد من قِبَل التنظيم. وبما أن معظم البلدان التي تعاني من تهديد مباشر من قِبَل داعش وفروعه تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، فإنه ليس من المنتظر أن يتحقق هذا الشق الحيوي من استراتيجية التقويض الشامل بشكل مرضي. وبالتالي، فإنه وبعد انتهاء أعمال مكافحة الإرهاب، وانسحاب القوات النظامية، سينشأ فراغ ومساحة لبعث التنظيم الإرهابي من جديد، أو تملأه فواعل أخرى إرهابية ومتطرفة أيضًا.

ومن ناحية أخرى، فإن تطبيق أنجع استراتيجيات مكافحة تنظيم داعش وهي "التقويض الشامل" يتطلب وجود إرادة سياسية جماعية وتوافق دولي أو حتى على مستوى إقليمي لتطبيق هذه الاستراتيجية بنجاح. وهو أمر غير متوقع حدوثه في أي وقت قريب. فالفواعل المنخرطة في الحرب ضد داعش في مراكزها في سوريا والعراق تتبع استراتيجيات متفرقة للغاية. إذ بينما تتبع الولايات المتحدة حاليا استراتيجية "التقويض عن بعد"، تتبع أطراف أخرى استراتيجية الاحتواء. على سبيل المثال، قدمت تركيا أشكالا من الدعم والرعاية للتنظيم وعناصره والجماعات الموالية له في البداية، لكنها لجأت إلى احتوائه بعدما انتشر أثره عبر الحدود السورية إلى داخل تركيا. الأكثر من ذلك، أن التنظيم لا يزال يتمتع بدرجة أو بأخرى من الدعم من جهة فواعل إقليمية على رأسها دولة قطر، التي تغض الطرف على الأقل عن عمليات تمويل وتسليح التنظيم تتم إما انطلاقًا من أراضيها، أو برعاية بعض مواطنيها.

الخلاصة، أنه إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية وجماعية للقضاء على "داعش- الدولة"، فإن القضاء على "داعش-التنظيم" لا يحظى بنفس مستوى الإجماع والتوافق، وتتباين وجهات النظر في سبل تحقيقه.إذن، ستنتهي "دولة داعش" المزعومة، لكن ما سيحدث بعدها يرتبط بعوامل أخرى عديدة، نفصلها فيما يلي.

ثانيا: داعش تحت الأرض .. اضطراب دائم

أظهرت دراسات سابقة أُجريت على حركات وتنظيمات إرهابية ومتمردة أن هزيمة تنظيم مسلح أو متمرد أو إرهابي - خاصة التنظيمات ذات الطابع الديني أو الأيديولوجي- نادرا ما تفضي إلى انهيار التنظيم أو اختفائه.[3] في الحقيقة، تبين دراسة تاريخ تنظيم داعش نفسه منذ كان يسمى بتنظيم "التوحيد والجهاد في العراق"، أن الجماعات قادرة على تجاوز الخسائر، والعودة إلى مراحل مبكرة من العمل والتنظيم. ففي الوقت الذي كان فيه "داعش" (والجماعات السابقة عليه) يركز اهتمامه على السيطرة على مناطق وأهالي متعاطفين معه في الماضي، فقد أظهر أيضًا قدرة ملحوظة على البقاء من دون السيطرة على أي أراض، كما كان الحال خلال الفترة من 2008 وحتى 2013.

وفي المستقبل القريب، لن يحتاج التنظيم إلى عدد كبير من المقاتلين كي يستأنف معركته من تحت الأرض، بعد خسارته أراضيه في العراق وسوريا. فالمقاتلون المخضرمون الموالون للتنظيم لديهم خبرة سابقة في الذوبان وسط السكان المحليين، وشن حرب سرية منخفضة الكثافة، من داخل مناطق حضرية كثيفة السكان نسبيا.

صحيح أن نزول داعش تحت الأرض سيؤدي إلى تراجع قدراتها على تمويل نفسها من مواردها الحالية، ولكن لا يعنى أنها لن تنجح في الحصول على أموال عبر وسائل الابتزاز، والتهريب، وفرض "إتاوات" على أهالي المناطق التي ستحتفظ بنشاطها فيها. أيضًا، ربما تصبح هجماتها أقل وأخف وطأة، ولكنها ستظل قادرة على تنفيذ هجمات انتحارية، ووضع كمائن، وتنفيذ عمليات اغتيالات وقنص. كذلك، ستعتمد بكثافة على استخدام العبوات الناسفة، كما حدث في العراق في مناطق بعيدة عن معاقلها السابقة في الموصل وتلعفر. من ناحية أخرى، ربما سيكون من الصعب على داعش الشروع في حملة إرهابية فعالة خلال الفترة القادمة، وسيحتاج مقاتلوها إلى الموازنة بين "حماية أهل السنة في العراق وسوريا" – إذ يزعم التنظيم أنه حامي أهل السنة هناك كما يزعم منافسوه داخل الحركة السلفية الجهادية – وبين الانخراط في ممارسات إجرامية كالابتزاز وأعمال الخطف لتمويل عمليات التنظيم. هنا، قد تظهر فرق وتيارات داخل التنظيم وربما تحدث انقسامات، واقتتال داخلي بين تيارات مختلفة يسعى كل منها لفرض رؤيته على التنظيم.

كذلك سيواجه التنظيم مشكلة رئيسية تتمثل في حماية مقاتليه العرب والأجانب ممن هاجروا إلى "دولة الخلافة" المزعومة. ففي العراق بعد عام 2007، فقد التنظيم السابق على داعش قدرته على حماية مقاتليه الأجانب، وبدأ في طرد هؤلاء المقاتلين. واليوم، ستكون هذه القوة القتالية (قسمًا كبيرًا من قوة داعش البشرية) نقطة ضعف رئيسية للتنظيم. وهنا تتعين الإشارة إلى أن القسم الأكبر من أولئك المقاتلين لن يتمكنوا – على الأرجح - من العودة إلى أوطانهم الأم.... فمعظمهم بات موضوعا اليوم على قوائم ترقب الوصول لدى كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية لأوطانهم وغير أوطانهم أيضًا. وسيبقى كثيرون داخل الشرق الأوسط. وبالتالى هؤلاء سيكونون أهدافا سهلا للتجنيد من قِبَل تنظيمات أخرى منافسة، وأيضًا الأجهزة الأمنية[4]... فبالإمكان تمييزهم بسهولة عن غيرهم من أهالي البلاد.

لكن من ناحية ثالثة، لا يوجد فى الواقع ما يشير إلى أن داعش التنظيم سينتهي قريبا. العاملان الرئيسيان اللذان دفعا التنظيم السابق عليه "دولة العراق الإسلامية" إلى إحياء التنظيم من جديد والتحول إلى تهديد عالمي حقيقي – وهما الصراع السوري والاستقطاب السياسي والتوترات الطائفية في العراق – لا يزالان قائمان وسيلعبان دورا رئيسيا في رسم ما هو آت. يُذكر أن دراسة نشرها مركز "راند" عام 2008، درست أكثر من 60 تنظيما وحركة إرهابية أو متمردة، خلُصَت إلى أن العامل الأهم لتقليص عمر تنظيم ما هو قدرة أجهزة مكافحة الإرهاب والتمرد على سد منافذ الدعم والإسناد المادي والمعنوي لهذه التنظيمات[5]. إن تحقيق ذلك يتطلب وجود أجهزة أمنية وحرس حدود يتمتع بالكفاءة. ولا يمكن أن نزعم أن الأجهزة في العراق أو سوريا تتسم بالكفاءة المطلوبة لا من حيث العدد ولا مستوى الاحترافية.

الأمر المثير للتأمل عند هذه النقطة، أن داعش قاتلت بضراوة في الموصل قبل أن تنهزم في النهاية. وأنها نفذت أكثر من 900 عملية انتحارية، معظم منفذيها كانوا عراقيين من الموصل تأثروا بالفكر الداعشي بعد سيطرة التنظيم على المدينة[6]. معنى هذا أن داعش باتت لديها قاعدة شعبية لا يُستهان بها في الموصل والعراق بشكل عام. هنا، قد تلجأ داعش إلى الانتظار بصبر، لتعيد تسليح نفسها وتدريب من بقي من مقاتليها، وتتحين الفرص للقيام بضربات جديدة.

أما في سوريا، فقد تحركت قيادات داعش بالفعل خارج الرقة، حتى قبل البدء في عملية استعادة المدينة. وربما مضوا إلى مكان آخر داخل سوريا أو العراق. ففي الوقت الذي تحرز فيه القوات المشاركة في مكافحة داعش في سوريا والعراق تقدما يوما بعد يوم، نجح متطرفو داعش في إعادة اختراق مناطق في العراق من بينها محافظة ديالي، حيث نشرت داعش من قبل خلايا نائمة[7]. وبإمكان داعش أن يستمر في العمل بموارد مالية ضعيفة، مثلما فعلت القاعدة خلال العقد الأول من الألفية الراهنة، وبإمكان التنظيم أن يبقى نشطا في المجال الافتراضي وعبر صفحات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي لا يتطلب استخدامها موارد مالية تذكر.

وفي سوريا أيضًا سيستفيد تنظيم داعش من الاضطراب المرجح استمراره. فمن غير المرجح إلى حد كبير أن يتمكن نظام الأسد من السيطرة على المعاقل السنية شرق سوريا، واحتكار استخدام القوة هناك في أي وقت قريب. الأمر الذي سيجعل من تنظيم داعش أحد الجماعات القليلة القادرة والراغبة في تقديم، ولو قدر قليل، من الخدمات لأهالي هذه المنطقة. وحتى إذا ما نجحت جهود استعادة الرقة وما حولها بالكامل، سيواجه التحالف المضاد لداعش هناك بتحدى إدارة الأراضي التي خضعت يوما لسيطرة التنظيم. هنا تتجلى أهمية دراسة عوامل ثلاث ستؤثر بشكل كبير على مسارات داعش المستقبلية، ألا وهي: وضع أهل السنة في سوريا والعراق، وخيارات الحكومتين العراقية والسورية، وخيارات الفواعل الخارجية المنخرطة في الحرب ضد داعش.

ثالثًا: من يحكم "أهل السنة"؟

هذه معضلة قديمة، سابقة على وجود تنظيم داعش نفسه. ورغم المحاولات المتكررة للتقريب بين المناطق السنية في العراق والحكومة المركزية العراقية، لم يحدث أي تقدم يذكر على هذا الصعيد. ويمكن القول إنه منذ العام 2010 استثمر تنظيم داعش هذا التدهور المستمر في العلاقات بين الجانبين، بهدف التمدد وتوسيع نطاق النفوذ. وبحلول العام 2014، رحب قطاع غير قليل من العراقيين السنة بتنظيم داعش، نكاية ربما في النخب السياسية السنية غير المسئولة والمتهمة بالفساد، ونكاية أيضًا في حكومة المالكي وممارساتها التي أفقدتها الشرعية في عيون أهل السنة في العراق.

الآن، بعد أن أدرك أهل السنة أنهم استجاروا من الرمضاء بالنار، من سيملأ الفراغ بعد رحيل داعش؟ تقف قضايا الفساد، وعدم الثقة بين السنة والحكومة المركزية، والأيديولوجيات المتطرفة، كعقبات أمام الحكم الرشيد في العراق. والأكثر من ذلك أن رفض السنة المستمر لهيمنة الشيعة كان عاملا رئيسا وراء انبعاث تنظيم داعش من جديد في العراق، وعلى الأرجح سيكون أحد أهم عوامل بعثها مرة أخرى في المستقبل.  

هنا يبرز أحد التحديات الصعبة أيضًا والذى يتمثل في أثر "تكتيك الاستباق وتقويض المنافسين المحتملين" الذي اتبعه تنظيم داعش طويلا. بداية من تفكيك ما عُرِفَ بالصحوات في العراق، واحتواء شخصيات قبلية بارزة بعد العام 2008.حيث كبل استخدام تنظيم داعش للعنف المفرط ضد الأهالي الخاضعين لسيطرته أيدي شيوخ القبائل، ومزق النسيج الاجتماعي للقبائل إلى حد كبير، بحيث بات الاعتماد على أشكال الحكم والإدارة التقليدية القائمة على الولاء للقبيلة غير كاف بحد ذاته لمواجهة التنظيم.

رابعًا: خيارات الحكومتين في سوريا والعراق

تختلف الإجابة على هذا السؤال على الجانبين من الحدود السورية – العراقية. ففي العراق، تدرك حكومة حيدر العبادي الحاجة إلى تقييد عناصر محددة داخل قوات الحشد الشعبي، خاصة مع تزايد الدلائل والقرائن التي تشير إلى وقوع انتهاكات وفظائع ضد "السنة" في العراق، على أيدي هذه القوات. ولكن ضبط وتقييد تشكيل ميليشياوي بحجم وتنوع الحشد الشعبي ليس سهلا. الأمر الآخر، أن الاعتماد الكثيف على قوات مكافحة الإرهاب العراقية وعناصر الشرطة في معركة الموصل، أصاب أجهزة الأمن العراقية بأضرار أضعفتها، وأثرت بالضرورة على قدرتها على فرض الاستقرار في الموصل وتلعفر. وجعل من اعتمادها على ميليشيات الحشد الشعبي ضرورة لا غني عنها، حتى مع وقوع انتهاكات واضحة ضد السنة في هذه المناطق. هنا، ستكون فرص عودة تنظيم داعش في العراق أعلى بكثير، لأن هذه الميليشيات مكروهة وفاقدة للشرعية في المناطق السنية[8].

أما في سوريا، فإن فرص استعادة نظام الأسد للأراضي التي خضعت لسيطرة المتمردين، ومن بينهم تنظيم داعش، أقل من فرص الحكومة العراقية. وتعتبر عملية أعقد بكثير بسبب انخراط عدد كبير من الفواعل مختلفي الأجندات والغايات في سوريا. وعلى الأرجح، سيفتح أي تراجع لداعش شرقا وحتى حوض نهر الفرات، الباب أمام منافسة شرسة على الموارد والنفوذ بين القبائل، والجماعات الجهادية، وجماعات المعارضة، والنظام السوري والقوات المتحالفة معه.

وخلافا للوضع في العراق، كان تنظيم داعش في البداية فاعلا خارجيا له صلات محدودة في سوريا. إلا أن هذه الصلات باتت أقوى بعد أن سيطرت داعش على مناطق داخل سوريا، وتمكنت من التأثير على عناصر هناك. ويبين نجاح تنظيم داعش منذ العام 2013، في استغلال الانقسامات واستقطاب المقاتلين أن البيئة السورية ما تزال توفر لداعش فرص ما للحصول على بعض الملاذات الآمنه اللازمة لحماية بعض عناصره. بل وربما سيظل تنظيم داعش كيانا مؤثرا وله نفوذ بدرجة ما هناك لفترة زمنية قادمة.

خامسًا: الفواعل من الخارج والقوى الإقليمية

أسهم انخراط كثير من الفواعل الداخلية والخارجية في دفع الأوضاع نحو الأسوأ من كل زاوية. إلا أنه بالنظر إلى هدف إضعاف تنظيم داعش، فقد أسفر التدخل عن نتائج ملموسة، كما تبين من المساحات الهائلة من الأراضي التي تم انتزاعها من بين يدي التنظيم. إلا أن مستقبل داعش سيعتمد إلى حد كبير على مدى التزام فواعل دولية رئيسية مثل الولايات المتحدة بشراكة طويلة المدى مع القوى الإقليمية المنخرطة في الصراع ضد داعش، والعمل على رفع مستوى وكفاءة العمل الاستخباراتي المشترك، ودعم وتعزيز الأجهزة الأمنية المعنية بمكافحة الإرهاب. فإذا ما فشلت الولايات المتحدة من التعلم من دروس فك الارتباط السابقة في أفغانستان والعراق، سيجد دعاة وأنصار داعش أرضا خصبة للبقاء والاستمرار. وسيكون لمساعيهم بإقناع العراقيين والسوريين على كلا الجانبين من الحدود بأنهم القوة الوحيدة القادرة على حماية مصالح السنة، فرصا لا يمكن التقليل أو الاستخفاف بها.

جدير بالذكر أن فكرة "حماية السنة "تعتبر فكرة مركزية في دعايات داعش. ولا شك أن استمرار انخراط إيران (ومليشياتها الشيعية التى تدور فى فلكها) بكثافة فى الصراع فى كل من سورية والعراق، سيمنح لرواية التنظيم بشأن "عمالة" النظامين العراقي والسوري لإيران مزيدا من المصداقية. وسيستمر التنظيم-على الأرجح - في الاستفادة من لعبة الطائفية المميتة وتوظيفها لصالحه.

أما بالنسبة للأكراد في سوريا تحديدا، فالمشهد أكثر تعقيدا بكثير. فمن ناحية، كانت الخصومة التركية – الكردية، أحد الدوافع وراء تسامح أنقرة في البداية وأحيانا دعمها للتنظيمات السلفية الجهادية النشطة في سوريا (ومن بينها داعش). وربما وجدت في هذه التنظيمات حليفا طبيعيا ضد خصومها من الأكراد. ثم وبعد أن تحول تنظيم داعش إلى خطر وتهديد لها في عقر دارها، شاركت تركيا بالفعل في التحالف الدولي ضد داعش بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ولكنها لم تتخل عن نظرتها تجاه قوات سوريا الديمقراطية الكردية – الشريك الأمريكي على الأرض – والتي تعتبرها تركيا تهديدا أكبر من تهديد داعش. وربما ترى أنقرة أن إضعاف تنظيم داعش بدرجة كبيرة سيخلي الساحة أمام قوات سوريا الديمقراطية، التي تمثل وحدات الحماية الشعبية الكردية الكتلة الأصلب بداخلها، ويمنحها فرصة التمدد بشكل أكبر واستعراض نفوذها في مواجهة تركيا.

معنى هذا أن كل طرف دخل المعركة ضد داعش مستبطنا هدفا مغايرا عن الآخر. وهو ما يلقي ظلالا كثيفة من الشك حول مدى نجاح هذه الجهود على المدى البعيد، ناهيك عن مستقبل التحالف أصلا ومدى قدرته على الاستمرار.

سادسًا: ماذا بعد الموصل والرقة؟

جميع العوامل السابقة تشير إلى أن داعش التنظيم سيبقى فاعلا في الساحتين العراقية والسورية، وإن كان بدرجات متفاوته. وبإمكانه أيضًا الاستمرار في الادعاء أنه يمثل "دولة الخلافة" ولو لم تكن تسيطر على كيلومتر مربع واحد داخل سوريا أو العراق.

 إذن ستنتهي "دولة داعش" ولكن سيبقى إرهابها، وربما أيضًا ستبقى مصدرا "لفخر" وإلهام تنظيمات أخرى موالية لها عبر الإقليم. وربما تعمد داعش إلى التركيز في دعاياتها المستقبلية على استعادة أمجاد داعش، والتبشير بإمكانية تكرارها والعودة من جديد.

وحتى بافتراض وصول "داعش المركز" إلى مرحلة متقدمة من الضعف والتراجع، لا يُنتَظَر أن تتخلى التنظيمات التي بايعتها (الولايات) عن لافتة "الدولة الإسلامية" التي ساهمت في تعزيز صورتها، وبث الرعب في نفوس السكان والمنافسين على السواء. صحيح ربما تحدث انشقاقات داخل " توابع داعش" العديدة المنتشرة عبر الإقليم، لصالح تنظيمات سلفية جهادية أخرى، ولكن خلايا داعش لن تتفكك بالكامل على الأرجح.

سابعا: ممكنات إعادة التموضع داخل إحدى التوابع الإقليمية

في المقابل، وفي هذا التوقيت، الذي يعاني فيه تنظيم داعش من هزائم متلاحقة وضربات موجعة، خرجت عشرات التقديرات للإجابة عن تساؤلات متعلقة بإمكانية أن يعيد التنظيم تشكيل نفسه من جديد داخل إحدى ولاياته، والمخاطر القادمة مع عودة الجهاديين إلى أوطانهم الأم.

إلا أن دراسة Ronen Zeidelلأكثر من 600 قائد عسكري، سياسي ومدني للتنظيم على كافة المستويات، والتي نشرها بعنوان "الدواعش: لمحات جماعية عن قادة الدولة الإسلامية" The Dawa'ish: A Collective Profile of IS Commandersكشفت عن جوانب مهمة للغاية، ينبغي أخذها في الاعتبار عند تقدير مستقبل داعش كدولة وكتنظيم أيضًا. ومن بين أبرز ما تكشًف بناء على هذه الدراسة، أن النخبة القيادية للتنظيم عراقية بالكامل تقريبا – حتى في سوريا وربما بدرجة أو بأخرى في ليبيا وشبه جزيرة سيناء أيضًا. وبالتالي، فإنه أقرب لأن يكون تنظيما عراقيا، وليس تنظيما دوليا[9]. ويفسر هذا اتجاه تنظيم "ولاية سيناء" على سبيل المثال، نحو تبني أجندة تنظيم "داعش المركزي" بالكامل تقريبا، منذ أواخر العام 2016 وأوائل العام 2017، بعد وصول الأمير الجديد للتنظيم – أبو هاجر الهاشمي – الذي عُين بتكليف من البغدادي نفسه. وهو الاتجاه الذي سيؤدي على الأرجح إلى غل يد التنظيم عن التغلغل بعمق وسط أهالي شبه جزيرة سيناء، والمصريين بشكل عام، ومن ثم تحجيم قدرته على العمل.

أيضًا، أظهرت الدراسة سالفة الذكر أن الهيكل التنظيمي أُعيد تشكيله بالكامل تقريبا أواخر عام 2010، مع تولي أبو بكر البغدادي قيادة التنظيم، وترحيبه بانخراط عدد كبير من عناصر الأجهزة الأمنية والاستخباراتية العراقية السابقة داخل الهيكل القيادي والإدارى للتنظيم. هذا المتغير ساهم في رفع كفاءة التنظيم وقدراته العسكرية بدرجة كبيرة، إلا أن هذه العناصر دخلت التنظيم لا من باب الأيديولوجيا و"العقيدة الجهادية"، بل من باب الثأر من الحكومة المركزية ومحاولة استعادة هيمنة السنة على النظام السياسي العراقي.[10] وبما أن هؤلاء باتوا اليوم يمثلون العمود الفقري للتنظيم، فإنه من غير المستبعد تخليهم، حتى مع اشتداد الضربات الموجهة للتنظيم وقياداته، عن العراق، واتجاههم للتمركز في "ولايات" أخرى لداعش. فأهدافهم محصورة تماما داخل نطاق العراق، حتى إن بعض من يفر من الضربات في سوريا منهم يعود إلى العراق ولا يخرج إلى غيرها.

 من هنا يمكن القول، إن ممكنات إعادة تشكيل التنظيم مرة أخرى داخل إحدى ولاياته الخارجية في ليبيا، أو اليمن، أو مصر أو جنوب آسيا ضعيفة للغاية. فلا النخب العسكرية والسياسية المتمتعة بالكفاءة اللازمة لمثل هذا العمل متوفرة هناك، ولا النخب العراقية راغبة ولا قادرة على مغادرة العراق.

الأمر الآخر، أن دراسة الأصول المناطقية أو الإقليمية لقادة داعش أثبتت أن التنظيم يميل إلى أن يكون تنظيما هامشيا يتمركز في التخوم والحدود الخارجية للبلاد. هذه المناطق كثيرا ما تعاني من الإهمال والتجاهل من قِبَل السلطات المركزية في معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل منها مركزا مهما لتجنيد العناصر لصالح الجماعات المتطرفة والإرهابية، وأيضًا ملاذات آمنة لتدريب ونشاط عناصر التنظيم. وينطبق هذا على حالة العراق كما ينطبق على غيره من البلدان التي يمارس فيها تنظيم داعش العنف والإرهاب. لذلك، يمكن القول إن نطاق تمركز نشاط داعش وولاياته سيظل في المناطق الهامشية والحدودية في الأغلب الأعم، وهو ما تكشف عنه أيضًا الإحصاءات الواردة عن نشاط داعش في مصر، على سبيل المثال، حيث إن (97.7% ) من إجمالي عدد الهجمات الإرهابية التي وقعت في مصر خلال الربع الأول من عام 2017، وقعت في شمال سيناء وحدها.


[1]Seth G. Jones &others, "Rolling Back the Islamic State", Santa Monica, RAND Corporation, 2017, p.43. Available at: https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR1912.html

[2] Ibid.

[3] Seth G. Jones & Martin C. Libicki, "How Terrorist Groups End Lessons for Countering al Qa’ida", Santa Monica, RAND Corporation, 2008, p.40. Available at: http://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/monographs/2008/RAND_MG741-1.pdf

[4]Colin Clarke & Craig Whiteside,"Charting The Future of The Modern Caliphate", War On The Rocks, May 3, 2017. Available at: https://warontherocks.com/2017/05/charting-the-future-of-the-modern-caliphate/

[5]Seth G. Jones & Martin C. Libicki, "How Terrorist Groups End Lessons for Countering al Qa’ida", Op-Cit.

[6]Jamie Grierson, "Isis has industrialised martyrdom, says report into suicide attacks", The Guardian, UK, February 28, 2017. Available at: https://www.theguardian.com/world/2017/feb/28/isis-has-industrialised-martyrdom-says-report-suicide-attacks

[7]Colin Clarke & Craig Whiteside,"ChartingThe Future of The Modern Caliphate", Op- Cit.

[8]Ibid.

[9]Ronen Zeidel, "The Dawa'ish: A Collective Profile of IS Commanders", Perspective on Terrorism, University of Leiden, Vol 11, No 4 (2017. Available at: http://www.terrorismanalysts.com/pt/index.php/pot/article/view/619/html

[10]Ibid.